جائزة القذافي والفضيحة الأخلاقية
الياس خوري
ان يعلن الزعيم الليبي معمّر القذافي جائزة عالمية للأدب تحمل اسمه، فهذا من حقه، وهو حرّ ان يفعل ما يشاء. وان يترأس لجنة تحكيم الجائزة الروائي الليبي ابرهيم الكوني، ويتولى مهمة المقرر او الناطق بإسمها الناقد والأكاديمي المصري صلاح فضل، فهذا ما لا علاقة لأحد به. الأدباء احرار في خياراتهم، والزعيم الليبي حر في منح الجوائز او حجبها. لا نريد ان نناقش هذه المسألة، التي تتعلق بنزوات الزعيم الليبي من جهة، وخيارات بعض المثقفين، وعلاقتهم بضمائرهم من جهة ثانية. لكن ان تصل الأمور الى ما وصلت اليه، بعد اعلان الروائي الاسباني خوان غويتيسولو رفضه قبول الجائزة، فهذا يعني ان الانحطاط الثقافي العربي وصل الى هاوية لا قعر لها.
الحكاية بسيطة. جائزة مُنحت الى كاتب فأعلن الكاتب رفضها. حدث هذا اكثر من مرة، وفي جوائز ادبية كبرى كجائزة نوبل التي رفضها كاتبان هما برنارد شو وجان بول سارتر. لم تعلّق الاكاديمية الأسوجية على الموقف، كما لم تمنح الجائزة في العام الذي اعقب الرفض الى كاتب ادان مَنْ رفض الجائزة، مثلما فعل الطيب الصالح، رحمه الله، حين نال جائزة الرواية العربية في القاهرة، وادان الفائز الذي سبقه لأن صنع الله ابرهيم رفض الجائزة.
الحكاية ان خبر رفض غويتيسولو جائزة القذافي نُشر في صحف عربية وعالمية عدة، من بينها صحيفة “ال باييس” الاسبانية. اعتقدنا ان الموضوع انتهى هنا، وان غويتيسولو دافع في موقفه عن اخلاق المثقف في مواجهة السلطة الاستبدادية التي تعتقد انها تستطيع شراء كل شيء في سوق النخاسة الحديث الذي اسمه البترودولار. غير ان المفاجأة جاءت من صلاح فضل، الذي اجرى معه سيد محمود حوارا نشرته صحيفة “الحياة” بتاريخ 26 آب 2009، تحت عنوان “غويتيسولو لم يفز بجائزة القذافي وموقفه غير اخلاقي”.
العنوان مثير. فصلاح فضل لا يكتفي بإتهام غويتيسولو بالكذب، بل يتهمه باللاأخلاقية. قال فضل “ان اسم غويتيسولو طُرح من بين اسماء عدة وهو كان مجرد ترشيح ولم يكن اعلان فوز”، واضاف لا فُضّ فوه: “لكن طريقته في اعلان رفض الترشيح كانت غير اخلاقية، فهو كان في امكانه ان يبلغ اعضاء اللجنة الاستشارية برفض الترشيح من خلال المراسلات والاتصالات وليس عبر وسائل الاعلام لأن العادة جرت على ذلك”.
اي ان فضل، الذي عرّفته “الحياة” في وصفه مشاركاً في العديد من لجان الجوائز الادبية في العالم العربي، ومن بينها جائزة “شاعر المليون”! يعلن بصريح العبارة ان الكاتب الاسباني الكبير، استغل استمزاجه في امر ترشيحه لجائزة القذافي، من اجل اثارة الضجيج والبحث عن الشهرة!
آثار تصريح صلاح فضل حيرتي، لا لأنني كتبت مقالا في “الملحق” (العدد 912) احيي فيه موقف غويتيسولو، بل لأن كل من اطلع على ادب هذا الكاتب الاسباني الكبير، وتسنى له لقاءه، يعرف ان الرجل دمث الأخلاق ومتواضع، كما انه لا يبحث عن الفضائح الأدبية ويتصيدها، وليس في حاجة الى شهرة تأتيه من طريق جائزة قذافية! وقد اشار مراسل “الحياة” الذي حاور صلاح فضل الى هذه المسألة، حين استشهد بنص رسالة بعث بها غويتيسولو الى فضل يقول فيها: “لست شخصا ينساق وراء القضايا بطريقة هوجاء. لكنني، في اطار احترامي الخاص للشعوب العربية وثقافتها الرائعة، انتقدت دائما، وكلما استطعت، الأنظمة التي تستبد بشعوبها وتبقيها في الفقر والجهل”. وانتهى الى القول: “ان اقبل جائزة يمنحها القذافي، فالأمر مستحيل تماما”.
قلت ان في المسألة سوء تفاهم ما. ربما لم توضح لجنة التحكيم او اللجنة الاستشارية قرارها للكاتب الاسباني، او ان الاتصال كان ملتبساً، وخصوصا ان غويتيسولو يقيم في مراكش، وليس في مدينة اوروبية. لكن لو افترضنا ان المسألة كانت وليدة سوء تفاهم ما، فإن هذا لا يبرر للسيد فضل اتهام الكاتب الاسباني بالكذب.
التوتر في تصريح فضل واطلاقه اتهاما خطيرا كهذا، يدفع الى الشك في روايته كلها، ويضع علامة استفهام كبرى امام هذا الهجاء المقذع الذي يلجأ اليه عضو او مقرر او مستشار لجنة التحكيم القذافية!
حاولت الاتصال بغويتيسولو اكثر من مرة، لكنني لم استطع، اذ كان الرجل مسافرا الى برشلونة. في النهاية، تكلمت معه هاتفياً ظهر يوم الثلثاء 5 ايلول الجاري. قال انه متعب جدا، لأنه وصل فجر اليوم نفسه الى منزله في مراكش. وعندما استوضحته عن تصريح فضل، ابدى الرجل تعجبه. تكلم بهدوء واخلاق عالية، قال انه يحترم اعضاء لجنة التحكيم، ومن بينهم اكثر من صديق له، وانه رفض الجائزة لأنها تحمل اسم العقيد الليبي، واستعاد موقفه المعلن من القضايا العربية.
اوضحت له ان فضل يتهمه باللاأخلاقية، لأنه لم يفز بالجائزة بل كان مجرد مرشح لها، وانه كان يستطيع ابلاغ اعضاء لجنة التحكيم برفض الترشح، بدلا من اعلان موقفه في وسائل الاعلام.
حافظ الرجل على هدوئه، وابلغني جازما بأنه يمتلك كل الرسائل الالكترونية من السيد فضل واجوبته عنها، وانه طُلب منه الموافقة على نيل الجائزة، لكنه رفض.
حاولت ان استزيد، لكن غويتيسولو اكد باقتضاب ما قاله، وشرح لي ان الاتصال به كان من اجل ابلاغه بفوزه بالجائزة.
في النهاية قال انه يفكر في المجيء الى لبنان قريبا، للمشاركة في احتفالية العاصمة العالمية للكتاب في بيروت.
ماذ نستنتج مما تقدّم؟
لا اريد ان اتهم الاستاذ صلاح فضل بالكذب، لكن غويتيسولو ايضا لم يكذب. نحن امام معضلة. هناك كذبة في مكان ما، فكيف نكتشفها؟
قد يقول القارئ انني منحاز سلفا الى الكاتب الاسباني، وهذا صحيح، اذ من الصعب على المرء ان يتردد بين القذافي وغويتيسولو. لكن هذه القضية، التي اساءت كثيرا الى الثقافة العربية، وفضحت لحظة انحطاطها، دفعتني الى التفكير ملياً في آلية منح الجوائز الأدبية العربية.
لقد ارسيت ممارسة صارت اليوم تقليدا ثابتا، هي ان يُطلب من الكاتب الذي ترشحه جهة ما الى احدى الجوائز الأدبية العربية، ان يوقّع مسبقاً تعهداً بقبول الجائزة في حال فوزه بها. اي ان خيار رفض الجوائز، وهي ممولة في الغالب من جهات او سلطات او رؤساء دول نفطية، ليس وارداً.
تقبل، ثم تناقش لجان التحكيم، وهي تضم في الغالب شخصيات ثقافية مرموقة، مسألة منحك الجائزة. اما اذا رفضت التوقيع، فإنك لن تُحسَب في عداد المرشحين.
لا اريد التعليق على هذه المسألة التي تبدو لي مخالفة لجميع الأعراف الأدبية، وقد تدل على عدم ثقة بعض الجهات المانحة بنفسها او بقيمتها الأدبية، وخصوصا ان العديد من الجوائز تحمل اسماء الملوك والأمراء والرؤساء. التوقيع المسبق شاهد ناطق، ولا يحتاج الى تحليل اضافي.
انطلاقا من هذه الحقيقة، ومن حواري مع غويتيسولو، ومن تصريح صلاح فضل المتلعثم، استطيع الجزم بأن الجائزة مُنحت الى الكاتب الاسباني. غير ان الجهة المانحة، وجريا على تقليد التوقيع المسبق، طلبت من غويتيسولو ان يوافق قبل ان تعلن فوزه. وعندما رفض الكاتب الجائزة، اعلنت اللجنة بلسان مستشارها صلاح فضل ان الكاتب الفائز لم يفز!
انها خدعة لا تشرّف لجنة التحكيم، وتدفع الى التساؤل عن صدقيتها الأخلاقية. المثير ان صلاح فضل يقول في نهاية تصريحه الى “الحياة”: “واقع الحال ان موقف غويتيسولو لن يسبب للجائزة اي حرج، لأنه قدّم اليها دعاية مجانية افادت الجائزة وصنعت لها ضجيجا اعلاميا وضعها في بؤرة الاهتمام”.
تمعّن ايها القارئ الكريم في مستوى سفاهة هذا الكلام، كي تفهم الى اين وصل انحطاط الثقافة وبؤس المثقفين!
ملحق النهار الثقافي