فـاروق حسـني ومجـد مصـر
عباس بيضون
يمكن لقارئ صفحة كاملة خصصت في الأهرام لفاروق حسني مرشحاً لإدارة الاونسكو ان يفهم ان مجد مصر أعطي له كما اعطي من قبل لبطرس غالي والبرادعي والزويل، مجد مصر وسمعة مصر وزعامة مصر في الميزان فالمسألة حد وطني.مع ذلك لا يبدو على المثقفين المصريين حماس زائد لترشيح حسني كما يفهم من مقالة لحمدي جليل نشرت في «السفير»، لم تبتعث منهم حماسة كهذه لا مصرية فاروق حسني ولا حتى مناوأة محبين لإسرائيل لترشيحه من مثل برنار هنري ليفي مثلا. لم يجد هؤلاء ان هذه مسألة مصرية ومسألة وطنية رغم ملابساتها الكثيرة. لم يجدوا فيها معركتهم، لا لأن مصريتهم او وطنيتهم موضع سؤال. ليس الإسلاميون قليلي الاكتراث لمواقف محبي إسرائيل، مع ذلك لم تدفعهم حرب هؤلاء على فاروق حسني الى تأييده. تغلب نفورهم من الرجل على كل هذه الجوانب وهم الآخرون لم يتحمسوا لترشح فاروق حسني ولم يجدوا حرجاً في الاعتراض عليه.
لست في مصر لأفهم تماماً ما وراء ذلك. لكني بدون ان اكون هناك استنتج ان في أداء فاروق حسني كوزير ثقافة ما لا يريح المثقفين المصريين على اختلافهم، او ان في هذا الأداء ما لا يثير تعاطفهم، بحيث ان عوامل لها فعلها في التأييد والالتفاف والتجنيد لم تؤثر فيهم، عوامل جعلت من صدام حسين بطلاً قومياً في يوم وتجعل من عمر البشير الآن ممانعاً مشهوداً لم تحل دون برود الجميع حيال ترشيح فاروق حسني. البرود وأكثر منه فغالباً ما تند عبارات رفض ونفور.
تستمر الصحف القومية، الأهرام وغير الأهرام في خوض حملة فاروق حسني، هنا يتدفق المديح بلا حساب ويعلو الكلام عن إنجازات الوزير. لكن الأهم من ذلك هو مصر ومجد مصر وزعامة مصر. نال مصريان جائزة نوبل في الأدب والطب (ولو ان الثاني لم ينلها تحت اسم مصر) عداك عن نوبل للسلام، عداك عن امانة الأمم المتحدة ورئاسة اللجنة النووية، هذه كلها اوسمة لمصر، وفاروق حسني اذا فاز سيكمل المسبحة، لكن الجامع الوطني ليس جامعاً كما نرى. لا يحتفل المصريون بالجائزة الجديدة كما احتفلوا بغيرها من الجوائز. ما يعتبره الحزب الوطني والرئيس مبارك وقرينته وأفيال النظام إنجازاً وطنياً لا يهز الآخرين. هل هو خلاف على الوطنية والمصرية ام انه خلاف على فاروق حسني وحده ام انه خلاف على النظام المصري في جملته.
قد يكون في صالح فاروق حسني ان تلتقي الأضواء، على تجنبه، اذا التقى اليساريون والاسلاميون على نقد رجل علمنا ان له موقفه وانه عدل بين الجميع. لكن اليساريين والاسلاميين ليسوا كل شيء ففاروق حسني ليس وحيدا، ومثقفو الأهرام وغير الأهرام ومثقفو الصحف القومية والاجهزة الثقافية (في ثقافة مؤممة) ليسوا قليلين، ان بإيديهم مفاتيح الثقافة ومركزها، ما الإسلاميون او اليساريون إلا هوامش، واذا جمعهم شيء فهذا لا يجعلهم قوة. مع ذلك يمكن القوة إن فاروق حسني لم يكن لليساريين ولا للإسلاميين، لم يدعم الاسلاميين في حسبتهم ولم يصفُ لليساريين فهو ابن سلطة متهمة ويبقى ابنها.
فاروق حسني رسام في الاصل، كان اختيار رسام لمنصب وزير ثقافة ذكياً، هو من إمارات الذكاء النادرة لدى حكومة عربية. رسام تكون في باريس وفي اطار مدرسة باريس. يمكن القول إنه تلميذ للفنان الروسي دوستايل الذي رمى بنفسه ذات يوم من النافذة بعد ان كتب وهو أمام لوحته «لا اريد ان اكمل هذه اللوحة». كان تلميذ دوستايل وظل تلميذ دوستايل، تشهد لوحاته الاخيرة بذلك، لم تفسح له اعباء الوزارة ان يطور في اسلوبه الا انه بقي يرسم وبقي يعرض ويبقى يبيع. مسألة البيع هذه ألّبت عليه الفنانين فقد بلغ سعر لوحته مبلغاً خيالياً بالقياس الى مبيعات الفنانين المصريين، باع اللوحة الواحدة بما يفوق عن المئة ألف دولار والمئة وخمسين ألفاً فيما كان كبير الرسامين المصريين، الراحل حسن سليمان يرضى ببضعة آلاف. أذكر ان الزميل وائل عبد الفتاح اثار هذه المسألة في روز اليوسف، واستفتى حسن سليمان وعادل السيوي في فن فاروق حسني فقال الإثنان إن حسني لا يعتد بفنه ولا موهبته. قالوا اكثر من ذلك وأوسعوا الفنان الوزير الشاب تصغيراً وزراية. لا نستطيع ان نذهب معهما بعيداً في ذلك، كان لفاروق حسني، وهو في فرنسا، اسم في الصحافة الفنية العربية، لكن اسعاره مقارنة بما يتقاضاه زملاؤه الاقدر والاكثر تمرساً فاحشة، بل هي، على نحو ما، فضيحة. اذ لا تستطيع ان تميز اذا كان هذا سعر اللوحة ام الوزير. مع ذلك فإن التجارة ليست معياراً وقلما تتوقف على القيمة الفنية، لا بد ان للشهرة والحضور دخلاً في كل شيء، والوزارة من هذا القبيل. لا يباع حذاء ألفيس بريسلي بكذا مبلغ لقيمة الحذاء ولكن لاسم بريسلي. ليس غريباً إذاً أن تباع لوحة فاروق حسني بكذا رقم لاسم فاروق حسني ووزارته.
مع ذلك فإن قصر فاروق حسني، الذي طالما اذهل زواره، دل على ان الوزارة تخدم في الفن كما تخدم في الثروة. أداء فاروق حسني كوزير كان دائما عرضة للجدل كما هو أداء أي وزير، كان كوزير في مواجهة حملة اقلام البلد، وهي يمكن ان تتحول الى سكاكين في المناسبات، الساخنة، وما اكثرها. لقد مثّل حكومة لم تكن محبوبة جداً من المثقفين وكان عليه ان يتحمل عنها. أما إنجازاته التي يتكلم عنها كتاب الأهرام فلست من يحكم فيها. لست في مصر وعلمي غير كاف. أما وقد بلغت خدمة حسني الوزارية نهاية المطاف فأحرى بمن يعلم ان يقاضيه الحساب وان يضعها، حيث يحب ان توضع في الاعتبار.
لكن الاونسكو تهمنا كأونسكو فأحد مهام الاونسكو رعاية ثقافات الشعوب، والمعني بالشعوب هنا غير الغربية، ومما يمكن استنتاجه من مقال في العدد الاخير من اللوموند ديبلوماتيك ان الاونسكو بقيادة مديرها العام الحالي ماتسورا لم تفعل ما ينبغي في هذا السبيل، بل ان ماتسورا قلّص ما وسعه ذلك ميزانيات نشاطات كهذه، كما انه اسند المناصب العليا ليابانيين وأوروبيين بعضهم موصوم بعنصريته. اما ما يؤخذ على ماتسورا اكثر من ذلك فهو انه حول الاونسكو الى مزرعة خاصة وعطل ما استطاع اجهزتها، ودوائرها وحولها الى لعبة في يديه، كما ان ما يؤخذ اكثر على ماتسورا هو الفساد والفساد المالي بالبنط العريض. كان الهدر دائما بالملايين واختفت اموال طائلة في مشاريع جرى تقليصها الى الحد الادنى. ودفعت نفقات خيالية لأشخاص على نشاطات متواضعة، وكلف مركز الاونسكو في باريس مقادير خيالية ولا يزال. هذا ما نستنتجه من مقال اللوموند ديبلوماتيك وهو موثق بالأرقام، وأحسب انه متضمن في النشرة العربية للوموند ديبلوماتيك. وضع الاونسكو الآن هو الفوضى العارمة والانهيار الاداري والفساد المالي، فهل ان فاروق حسني هو المؤهل لإخراج الاونسكو من هذا القاع، وهل في تاريخه وأدائه ما يجعل منه المنقذ المنتظر. أم يصح ما يقال من انه قد يكون مرشح ماتسورا الذي يسعى الى خلف يغمض عينيه عن جرائرة ولا يقدمه الى محكمة من أي نوع.
هناك بالطبع مواقف محبي إسرائيل، كان فاروق حسني، تباهى بأنه سيحرق بيديه أي اثر عبري يتسلل الى معرض الكتاب في القاهرة، وانه لن يسمح بالتطبيع الثقافي مع إسرائيل. هذه مواقف التف عليها حسني بالاعتذار والتوضيح والارتداد فلم تعد تماماً في رصيده. لذا لم تثر حمية معارضي التطبيع ولا دعتهم الى الانخراط في حملته.
هل علينا في الاخير ان نؤيد أي عربي وأي مصري حين تكون معركته مع الخارج، دعمنا الى الآن صدام حسين والقذافي وعمر البشير وسواهم فلماذا نشذ عن فاروق حسني. هل يعطى مجد العرب ومجد مصر لأي كان لمجرد انه عربي ومصري، ألا نفكر بأدائه ومؤهلاته وما يقدر على صنعه. أي بصمة سيترك وأي اثر سيحسب له، او لنا، فيما بعد. هل يهمنا حقاً ان لا يكون ماتسورا آخر، ام لا يهمنا أي شيء.
السفير الثقافي