ليس العقل دماً ولا الحياة حرباً
علي جازو
عانى معظم الشعوب الشرق أوسطية والعالم الثالث من سيطرة ثقافة العسكر بضوابطها التعسفية وأحكامها العرفية المؤبدة وسلوكياتها المقيدة للحريات وأساليب تفكيرها المنغلقة. العسكرة بمفهومها الفني المحض، استراتيجيا تعبوية وتدابير احترازية تلجأ اليها الدول في حالة الطوارئ أو لمواجهة عدوان خارجي أو اختلال في الوضع الأمني الداخلي، إلا أنها تبقى حالة طارئة غير مرغوب في استمرارها، حيث تنتج بوجود المؤثر وتنتهي بزواله. إن حالة الطوارئ تفرض بنص قانوني ولزمن معين ومنطقة جغرافية محددة. بزوال أسباب الطوارئ تعود الحياة إلى طبيعتها. لكن العسكر لا يمكنهم العيش مع المجرى الطبيعي للحياة. إن حياتهم نفسها تنمو وتتضخم وتتوحش من جراء إبقاء ما هو طارئ وموقت وشاذ، بتأبيد ما هو موقت، وحبس، أو تأخير ما هو من مسار طبيعة الحياة والمجتمع. ما يميز الدولة العسكرية الأمنية البوليسية اعتمادها الكلي على العنف، بجعل المجتمع عجلة عمياء تدور في فلك الحرب، سواء بالفعل أم بالكمون، بالدعاية التحريضية أم بالاستغلال القومي والديني. في حين أن الدولة المدنية تنظّم احتكار العنف بقوانين وضعية تلجم العكسر عن التدخل غير المراقَب وغير المسموح به.
نورد ما أسسته إيران، كمثال قريب ومعروف، كنظام ناشئ من رحم ثورة الملالي ووفق ترتيباتها المغلفة، لمشكلات لا تزال قيد التفجر وتتسبب في البقاء في وحل القمع والظلم والأسى، وما عاناه سكان إيران أخيراً نتيجة حراسة العسكر (الثورة التي لا تعرف نهاية) الرديئة للدستور (ولاية الفقيه) المستبد، وهو مثال على فشل قيادة العسكر للدول وعلى فداحة الثمن الذي تدفعه الشعوب المغلوبة على أمرها. يحيا العسكر على استثمار العنف في الداخل عبر التركيز المستمر على شبح الحرب أو ضرورة وجود جيش قوي يحرس أمن البلاد من أي اعتداء خارجي. ويحيا في الخارج على إدارة أزمات، أو حتى افتعالها. أزمات يمكن أن تكون حلولها أيسر وأخف بكثير من إبقائها قيد التأجج والتأزيم والتسويف. يبدو أن زوال الأزمة أو المشكلة كفيل زوال الحاجة إلى الثقافة والاقتصاد العسكريين، حيث ترهن الخطب والأفكار والمشاريع والخطط، ويتم تلبيتها ودعمها وفق لباس العسكر وعلى هدي حاجاتهم. تسعى السلطة العسكرية من خلال تحكمها بدوائر الدولة ومؤسساتها، إلى خلق أشباه لها ينفذون أجنداتها، وإجبار الطامعين بالسلطة والمال على ترويج أفكارها، في وقت تبذل فيه أقصى الجهود إلى إبقاء الأعداء أعداء مستمرين وخطرين. إنها تستنسخ المجتمع الذي تقوده على هيئتها، ملغية بذلك فرادة الأفراد المكوّنين له. بل تسعى في أمثلة أخرى إلى إبقاء المحيط الاجتماعي، من أطر قومية ودينية وأقليات، داخل كانتونات متحجرة تتبادل في ما بينها الجهل الحاقد والريبة المشتركة والضغينة المتكتمة. هكذا يتضاعف حضور الثقافة العسكرية على حساب دور الثقافة المدنية المتمثلة في القضاء المستقل والصحافة الحرة والبرلمان اليقظ والاشتغال الفكري النزيه. كلما قوي العسكر تضاءل دور الأفراد. في نموذج منغلق كهذا تسيطر الدولة تقريبا على كل جوانب حياة الفرد. لا تتسامح مع نشاطات الافراد والمجموعات مثل اتحادات العمال وجمعيات الصحف أو منظمات الشباب حين تكون موجهة ضد أهداف الدولة والنظام العسكري، بل تنشئ منظمات ونقابات ومجالس ملحقة بها تأتمر بأمرها. تحتفظ دول وحكومات كهذه، بالحكم من طريق الشرطة السرية (المخابرات) وباستعمال الدعاية المبثوثة عبر أجهزة الإعلام التي تمتلكها، وبإلغاء المناقشة والنقد والحرية، وبنشر أساليب الخوف واختلاق الأزمات الداخلية والتهديدات العسكرية الخارجية التي تزيَّف وتستعمل لدعم الوحدة من طريق الخوف. بدل أن تساهم الدولة في إعداد أفراد فاعلين ومستقلين، تقوم بإجهاض كل تطلع من هذا النوع. يتحول الأفراد من فاعلين مفترضين إلى خاضعين فعليين. وعوض أن يمدّوا الحياة بأفكار جديدة، يرزحون تحت قيود تقاليد ورؤى بالية. ومع فقدان الفرد حريته ومداه الذاتي المضغوط والمشوّه بالمخيلة العسكرية الأمنية، يسقط داخل شبكة من المخاوف والشكوك والإرهاصات تعطل فيه أعمق ما في إنسانيته. ومع مرور الوقت المعطل والمنتظر والمتشكك والخائف، يغدو الأفراد أكثر طواعية وخمولاً وتمثلاً للخضوع والطاعة. الأفراد الخاضعون بشكل كلي أو شبه كلي للسلطة العسكرية، وهم السكان المكوّنون لمختلف أنشطة المجتمع، يتحولون إلى أرقام لا تعرف الرفض ولا الجدال، وإلى أزرار بلاستيكية. وهذا ما يفقد المجتمع مرونته الفاعلة وحيويته الخصبة وتنوعه الطبيعي إزاء عروض الحياة المختلفة والمتحولة. لا يخسر الأفراد فقط ما يمكن أن يشكل مساهمة في المحيط العام، بل يفقدون الإحساس بالحاجة إلى ما هو أخطر من ذلك: الحاجة الدائمة إلى تطوير أنفسهم وإغنائها بالمعرفة ومتطلبات الحياة المتجددة. يواظب العسكر على تكريس حالة من التجييش المستمر وإطالتها وتصعيدها، بحيث انهم لا يفكرون سوى من خلال ما يفترض أن يكون ملبياً طموحات العسكر ومخاوفهم، والتي لا تعرف نهاية سوى الحرب المستمرة أو التهديد المستمر بالحرب.
مرة أورد ساراماغو قي مقدمة روايته “كل الأسماء” نقلاً عن كتاب “التجليات”: “أنت تعرف الاسم الذي أطلقوه عليك، لكنك لا تعرف الاسم الذي هو لك”. لقد أعطت الدول المتقدمة في حقوق الإنسان والمدنية مثالا يحتذى به حول الطريقة الحديثة في إدارة شؤون البلاد، حيث الدستور والقانون هما المظلة التي يستظل بها كل مواطن. لكن ثقافة النار والحديد تطفئ وهج الحياة الجميل والبسيط. وإذا ما انطفأ الألق الشخصي بنعال العسكر الضاجة، فماذا يمكن الأرقام والعتاد والانتصارات أن تقدم الى المستقبل غير الدم وسموم الأحقاد الوضيعة؟!
أيتها المعاول والهراوات والصواريخ العسكرية: العقل ليس دماً والحياة ليست حرباً ¶