صفحات ثقافية

فيروز في دمشق

null

فيروز تروي ظمأ الدمشقيين إلى بردى: ينسى الغفا عيوني إذا بنساكم

تصفيق حار لجملها السياسية … بعدما ساوت بصوتها بين السوريين …


دمشق – ابراهيم حميدي

–> حدث غير عادي ان تضرب مدينة ما موعدا مع فيروز ذات مساء. وان تكون دمشق هذه المدينة، فهذا امر ترتعش له جوارح قلوب السوريين. عاد صوت فيروز الى «عاصمة الامويين». وعاد اهل الشام على جناح الشوق الى فيروز… واستراحوا.

مساء الاثنين، كان استثنائيا في»بوابة التاريخ». كانت قلوب آلاف السوريين تخفق مع اقتراب شهب الليل. بعضهم حاذى بردى الى «مجده»، ونزل آخرون من قاسيون حيث تغفو دمشق. بعضهم بللته قطرات البرد، واستحم آخرون بعطر الياسمين. نسيوا جميعا فروقاتهم وحزموا في معاطفهم الكثير من العواطف لرشها في «دار الاوبرا» على مرمى التاريخ من ساحة بني امية.

في الحارات الضيقة من بوابة «دار الاوبرا» الى صالة العرض، استذكر بعضهم اللقاء الاخير بين فيروز ودمشق قبل ثلاثين عاما، وبينها وبين السوريين قبل 21 عاما في «مسرح بصرى» (جنوب البلاد). بينما كان آخرون، وما أكثرهم، متسمرين في منازلهم يتذكرون مواعيد ضربوها مع فيروز قبل عقود وعقود في الهواء الطلق في مسرح معرض دمشق الدولي. واكتفوا بالذكرى والاشرطة المسجلة والحنين، طالما ان الاجراءات والاسعار (بين 20 و200 دولار اميركي) تحول دون تكرار التجربة.

تخلى الجميع، ربما الجميع، عن هواتفهم وكاميراتهم. جلبوا هوياتهم الشخصية وارقامهم الوطنية. ووقفوا في خط طويل. تأبط بعضهم بعضا. الغوا مواعيدهم المهمة وامتيازاتهم وجلسوا في المقاعد المتسلسلة في الانتظار. لم لا؟ فيروز تفرض هيبتها، تذيب الفوارق وتكسر الحواجز وتفتح نوافذ للحوار تساوي الجميع في الانتظار والتأهب.

كان الموعد الغنائي لفيروز مع «احبابها في الشام اواخر الصيف، ان الكرم يعتصر». لكن المفاجأة انها جاءت في «برد الشتي» وما اعظم هول المفاجأة. ترفع الستارة. تقف «قرنفل» في الزاوية اليمنى لمسرح «دار الاوبر». تحمل مظلتها وتدير ظهرها الى الجمهور. وما ان تلف كتفها، حتى تهتز القاعة بألفي وأربعمئة يد تصفق لفيروز. دوي يصل الى ينابيع بردى حيث جاء «صوتي منك مثلما نبعك من سحبي» وتعرجات قاسيون حيث «ينهمر الصباح».

كان التصفيق الاول امتنانا للقاء الاول وتمرينا للموجات الآتية والمرتدة طيلة عرض مسرحية «صح النوم» على مدى ساعة ونصف الساعة. ولعل العنقودة الثانية من ارتجاف جدران الاوبرا كانت عندما فاجأت اهل الشام بقولها «ينسى الغفا عيوني اذا انا بنساكم»، وكأنها تستذكر انها «بالفعل غابت عن اهل الشام، لكن مالي بالغياب يد».

بعدها استسلم الحاضرون جميعا الى حضور فيروز، الى هيبتها. وبين الحين والاخر يتجاوبون مع الحوارية النقدية القائمة بين الوالي وقرنفل والجمل السياسية.

وعندما صحا من النوم الوالي ( انطوان كرباج) ليقول ان اهالي امارته التي ورثها، أباً عن جد، يتمتعون بـ «حرية التعبير» وعندهم «الحق بأن يصرخوا (في مطالباتهم) والسلطة عندها الحق في سد اذنيها»، راح الحاضرون يصفقون كما هو الحال مع قول مستشار الوالي (ايلي شويري) ان «الدولة تستطيع كشف السرقات عندما تريد» حتى لو لم تكن موجودة.

وبدا ان الحاضرين استظلوا فيروز ليرووا ظمأ الاشتياق الى تلك الكلمات المرهفة للاخوين رحباني. تلك المفردات البسيطة التي تلهب المشاعر: لم تسرق قرنفل خاتم الوالي كي توقع فرمانات الموافقة على طلبات فقراء الامارة، بل انه هو «الذي سرقني لأنه ضجران»، وكان يريد اللعب مع الريح. صحيح ان الوالي لم يستطع عقاب قرنفل سارقة الختم لأن القرار غير ممهور بختمه الضائع في «دولة الخشب» لكن «القمر بضوّي دون ختم». ألم تغني فيروز الى سماء الشام: «خذني بعنيك واهرب ايها القمر».

يستسلم الوالي الى رحيق قرنفل. ويقرر الخلود الى «النوم كي تختمي (طلبات) الناس كما تريدين». وتنتهي «صح النوم». لتبدأ الجولة الكبرى من التصفيق. يقف الجميع. في الصف الاول الذي ضم نائب الرئيس فاروق الشرع ووزير الثقافة رياض نعسان اغا والصفوف التالية التي جلس فيها كبار قادة الدولة ورجال اعمال كبار وسفراء، حيث ترتفع موجة كبيرة من التصفيق الى فيروز. تقابل الود بتحيتها الملائكية. ولسان الحال كل عضو في «حزب فيروز» يقول: «يا قلب تحملني هم الأحبة ان غابوا وان حضروا».

الحياة – 30/01/08

غابت السياسة وحضر الفن الجامع … فيروز في دمشق… العرض للنخبة وأشواق الجمهور بلا تلبية

دمشق – ابراهيم حاج عبدي

لم تشأ فيروز، التـي بدأت عروض مسرحيتها «صح النوم» أول من أمس في دار الأوبرا الدمشقية، أن تحقق آمال المؤيدين لحضورها في العاصمة السورية، أو توقعات المعترضين على هذا الحضور. لم تقل كلمة في بداية العرض قد يتم تأويلها سياسياً، واكتفت، كذلك، في نهاية العرض، بالانحناء للجمهور الكبير الذي عبر عن تقديره لها بالوقوف دقائق، وبحرارة التصفيق الذي لم يتوقف إلى أن غادرت فيروز الخشبة. ظهرت كطيف رقيق قادم من زمن البراءة، من أرض عذراء لم تعرف يوماً بشاعة القتل والدماء. حاولت أن تنثر الحب والصفاء في القلوب، وغادرت الصالة في شكل طقوسي.

وسيحظى بحضور فيروز حتى 4 شباط ( فبراير) نحو عشرة آلاف شخص فقط، لأن دار الأوبرا لا تتسع لأكثر من 1200 شخص. هنا يحتدم النقاش حول مكان عرض المسرحية، وحول سعر البطاقة التي تصل إلى عشرة آلاف ليرة سورية (نحو 200 دولار أميركي)، فالبسطاء، وذوو الدخل المحدود، الذين لا يرقى راتبهم إلى ثمن البطاقة الواحدة، وجدوا أنفسهم خارج الدائرة المحظوظة؛ تلك الدائرة التي اقتصرت على أصحاب «الياقات البيضاء» القادرين على شراء البطاقة، بينما أولئك الذين عشقوا فيروز في البيوت الطينية النائية، والحقول المقمرة، والمقاهي «المفروشة بالأسرار»… لن يتسنى لهم أن يعيشوا هذا «الفرح المخملي» مع فيروز.

وصوتها الذي يغني للبساطة والفرح والطفولة ويواجه الجشع والاستغلال والتسلط، لن يتمكن كثيرون من تحقيق حلمهم في رؤية البنت الشقية «قرنفل» (تجسد شخصيتها فيروز) وهي ترفع صوتها، بجرأة، في وجه الوالي البليد المستبد الذي يتحكم بأقدار البشر، ويبتز فقرهم وحاجتهم، فلا يختم في الشهر، بعد يقظته من السبات الشهري في «قصر النوم»، سوى ثلاثة طلبات، لئلا يستهلك الختم الأثري المصنوع من خشب الجوز العتيق، الذي يرمز إلى سلالة الوالي القوية، ذات الجبروت.

قرنفل التي انتظرت ستة اشهر، تحت المظلة، للموافقة على طلبها ببناء سطح لمنزلها المهدم، فشلت في الاهتداء إلى طريقة تقنع بها الوالي كي يختم الطلب، فتضطر إلى سرقة الختم، ولا تكتفي، عندئذ، بختم طلبها فحسب، بل تختم طلبات جميع الأهالي، ثم ترمي الختم في البئر. حين يصحو الوالي في الشهر التالي يجد أن معالم الساحة قد تغيرت إثر أعمال البناء والهدم، والزراعة، فيخبره مستشاره بأنه قد ختم الطلبات، جميعها، في المرة الماضية، لذلك ظهرت هذه التطورات. يندهش لهذا الخبر، ويهم بفتح الصندوق المغلق الذي يحتفظ فيه بالختم الثمين، فلا يجد شيئاً. تحوم الشكوك حول قرنفل التي تعترف بفعلتها، فيحكم عليها الوالي بالربط على فرس وحشية تسير بها هائمة في الطرقات والوديان طوال العمر. لكن الحكم يحتاج إلى ختم، وببساطتها المعهودة، تقبل قرنفل النزول إلى البئر لتعود بالختم المطلوب لتنفيذ الحكم الصادر في حقها. هنا يرق قلب الوالي الذي يعفو عن قرنفل، ويكلفها بالختم على الطلبات، منذ الآن، بدلاً عنه.

حكاية بسيطة، ككل الأغاني والمسرحيات التي أبدعها الرحابنة، غير أنها تنطوي على مقدار عميق من ثقافة التسامح. وبقليل من المجازفة يمكن القول، هنا، أن فيروز تدرك أهمية تقديم هذه المسرحية، مرة أخرى، في دمشق بعد مرور 37 سنة على عرضها، للمرة الأولى، في هذه المدينة. خلال هذه السنوات جرت مياه كثيرة في نهر العلاقة السورية – اللبنانية، وتعرضت المنطقة لتحولات دراماتيكية، بيد أن هذه السنوات وصلت، الآن، إلى أفق يصعب التفاؤل حياله في ظل الفراغ السياسي الذي يعيشه لبنان، ووسط الاتهامات المتبادلة بين بيروت ودمشق، في حين يشهد هذا الاحتفاء الواسع بفيروز على أن ألاعيب السياسة لن تؤثر في التقارب الوجداني والروحي الذي يجمع بين الشعبين، ولعل هذه المسرحية تسهم قليلاً في إنجاز «صحوة»، طال انتظارها!

وفي الوقت الذي حظي العرض الافتتاحي بحضور رسمي لافت تمثل في فاروق الشرع نائب الرئيس السوري، ورياض نعسان آغا وزير الثقافة، وبثينة شعبان وزيرة المغتربين، وسعد الله آغا القلعة وزير السياحة، لوحظ غياب رموز المعارضة السورية التي تحتج أصلاً على مجمل نشاطات احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية، إذ تتساءل: كيف لدمشق أن تكون عاصمة للثقافة، بينما يقبع المثقفون السوريون في المعتقلات؟ ولا بد من الإشارة إلى أن منظمي الحفلة لم يسعوا إلى استثمار اسم فيروز على نحو سياسي، فقد خلت أروقة دار الأوبرا من أية لافتة أو صورة أو شعار، وحتى الحضور الرسمي كان هادئاً، ومن دون أي ضجيج.

واللافت أن حضور العرض المسرحي لفيروز انطوى على تشدد أمني (منع الكاميرات، أجهزة التسجيل الصوتي، الهواتف النقالة… وأي شخص تضبط معه هذه التجهيزات سيتعرض لغرامة مالية، ولمغادرة العرض فوراً. إغلاق الأبواب قبل نصف ساعة من بدء العرض. إبراز البطاقة الشخصية أو جواز السفر عند الدخول…). هذه الإجراءات «المشددة»، ولّدت لدى بعض الصحافيين، مثلاً، انطباعاً بأنهم ذاهبون إلى «مؤتمر قمة» لا إلى سماع الصوت الحنون.

الحياة – 30/01/08

فيروز تفتتح عروضها في دمشق وعشاقها السوريون لم يتعبوا من التصفيق

30/01/2008

دمشق ـ من وسيم ابراهيم: عادت الفنانة اللبنانية فيروز لتحيي ليالي دمشق، وقدمت مساء الاثنين اول عروض مسرحية صح النوم امام 0021 شخص تعبت ايديهم من التصفيق وشكلوا كورسا ثانيا ردد معها حوارات المسرحية واغنياتها.

واكتظت دار الاوبرا بالمشاهدين وكان واضحا الحضور الكثيف للشباب، اضافة الي حضور عائلات باكملها. وبكي بعض الحاضرين لشدة فرحهم بعودة فيروز بعد غياب استمر 32 عاما.

وانتظر الجمهور في القاعة زهاء نصف ساعة ان يبدأ العرض بعد اغلاق الابواب، وحبس انفاسه وهو يترقب فتح الستارة. وكان التوتر والحماس يزدادان مع بث فاصل موسيقي تكرر مرتين، وفي المرة الثالثة جاء ايذانا ببدء العرض.

وبمجرد فتح الستارة اشتعلت القاعة بالتصفيق. وشيئا فشيئا ظهرت فيروز واقفة الي يسار الخشبة تحت مظلتها وظهرها للحضور، فيما بدأ الكورس في الجهة الاخري اول حوارت المسرحية، فخبا التصفيق تدريجا وتحول الحاضرون اذانا صاغية.

وطاب (اكرر طاب) للعديدين ان يبرهنوا شغفهم بصوت فيروز، فصاروا يرددون حوارات المسرحية التي بدا انهم حفظوها عن ظهر قلب. وكان البعض ينتفض ويبدأ بالتمايل، مفصحا عن اقتراب موعد احدي الاغنيات المعروفة في المسرحية الغنائية، ثم يسارع الي ادائها قبل صوت فيروز.

وصار التصفيق مثل امواج، لا تلبث ان تعود مصحوبة بالاهات مع كل اغنية تصدح بها السيدة، وخصوصا اغنية هب الهوي ، او مرفقة بالضحك اثر تعليقات ساخرة تصدر منها في الحوار، او مواقف وجمل طريفة للفنان انطوان كرباج (في دور الوالي) او الفنان ايلي شويري (في دور المستشار زيدون).

وجاءت اللحظة الاكثف تعبيرا عن مدي تشوق الجمهور السوري لملاقاة صوت فيروز في ختام المسرحية. فاذا كانت البداية السريعة للمسرحية كبتت رغبة الحضور في الترحيب والتصفيق، فان شيئا لم يمنعه من اشعال القاعة بالتصفيق والصراخ والهتاف باسم فيروز، وهب الجميع واقفا دفعة واحدة عندما ظهرت لالقاء تحية الختام.

واستمر هدير الترحيب والشكر في القاعة حتي بعد اسدال الستارة. وامل الحضور ان ترتفع مجددا من دون جدوي.

وتواصل ابتهاج الجمهور بحضور عرض فيروز الاول وهو يغادر القاعة. فهنا مشاهد “لا يصدق حتي الان اذا كان ما حصل حلما ام حقيقة ، فيعاجله صديقه بتعليق اكثر اثارة: الان يمكنني الموت وانا مرتاح بعدما تحققت اعز امنياتي“.

وشهدت المسرحية حضورا رسميا لافتا، ابرزه حضور فاروق الشرع نائب الرئيس السوري وبعض الوزراء والدبلوماسيين العرب والاجانب وعدد من الفنانين السوريين. وتم تمديد عروض المسرحية يومين اضافيين، لتصير ثمانية عروض بدلا من ستة، بسبب الاقبال الكثيف علي بطاقاتها قياسا بضيق المكان المخصص للعرض.

وتجاوز حضور فيروز الي دمشق مسألة عرض صح النوم ليصير احتفالا عاما بعودتها.

فلم تتوقف وسائل الاعلام والسورية عن تناول الامر ترحيبا وتأهيلا، وفتحت الاذاعات السورية اثيرها لتقدم فواصل تتكرر علي مدار الساعة، من اغنيات فيروز التي قدمتها الي دمشق.

وكان لافتا ان التلفزيون السوري ختم نشرة اخبار منتصف ليل امس الاثنين بتقرير مصور من اجواء العرض الاول، اضافة الي لقاءات مع اناس تحدثوا عن صوت فيروز الذي يبعث فينا الامل“.

وتضمن التقرير ايضا لقاءات مع اشخاص علقوا علي من انتقدوا مجيء فيروز الي دمشق ، في اشارة الي اصوات صحافية وسياسية لبنانية معترضة. وعلق احدهم انهم (المعترضون علي مجيء فيروز) لا يقرأون التاريخ ، وقال آخر فيروز ملك للعرب كلهم، السياسيون يذهبون بينما صوتها باق .

واستمرت اذاعة شام اف ام في تغطية اجواء العرض الاول مستقبلة اتصالات محبي فيروز حتي ما بعد منتصف الليل. وكانت الاذاعة غطت كامل تفاصيل حفلات فيروز، بدءا بوصولها الي الحدود السورية حتي باب الاوبرا، حيث لم يسمح لاي اذاعة او تلفزيون بالدخول.

واحتضنت دار الاوبرا معرضا لصور لفيروز تزامنا مع عروض المسرحية، شارك فيه مجموعة فنانين تشكيليين سوريين رسموا بورتريهات مختلفة للسيدة واهدوا لوحاتهم اليها.

وبادر كثيرون ممن حضروا المسرحية الي كتابة رسائل حب وتقدير لفيروز، في مبادرة من بعض الشباب السوريين تحت عنوان بطاقة حب دمشقية الي فيروز . ودعوا من يشاء الي كتابة رسالته لفيروز، مؤكدين انهم سيجمعون الرسائل في صندوق كبير يسلمونه لها شخصيا. (ا ف ب)

جمهـور فيـروز مزجـة أخـرى، الأغاني وابتسامة المغنية رسائل شخصية

ضحى شمس

دمشق :

فيروز وجمهورها السوري حكاية لوحدها. شيء كحكايات العشق الخرافية. شيء يجعل هذا الجمهور يتفنن في إظهار حبه كما لم يفعل أحد ملتذا بما يفعله كالعاشق الذي يفتش لحبيبته عن هدية لقاء. الإذاعات تذيع أغانيها لدرجة تكاد تشتاق معها الى سواها. الصحف لا تمل نشر مقالات الحب والترحيب. وفي حين طبع عشاق فيروز ، الفرع الإذاعي، وعلى حسابهم ، حملة إعلانات على الطرق للترحيب بها، تفتقت مخيلة مجموعة من الشبان يسمون أنفسهم «أصدقاء فيروز» عن فكرة طبع بطاقات تحمل من جهة صورتها ومن الجهة الاخرى فسحة لكتابة رسالة ووزعوها مجانا على «كل من يريد أن يكتب لها كلمة». وهي رسائل تكفلوا بجمعها لإرسالها اليها في نهاية إقامتها داخل «صندوق حب دمشقي» كما قال ناصر المنذر منظم النشاط. يضحك ريف، وهو شاب كان يقف أمام دار الاوبرا منتظرا دوره في صف بطاقات الالفي ليرة سورية، وهي الأرخص قائلاً انه عليها أن تستعد نفسيا لاستقبال «شوالات من رسائل الغرام» لا صندوق أو صناديق. أما طيارة الورق التي أراد فرع آخر من محبيها تطييرها فوق دار الاوبرا حيث تغني، فقد اضطروا بسبب الطقس العاصف الى التخلي عنها.

وان كانت فيروز هي الفرجة التي يستقتل الجمهور السوري للحصول على بطاقاتها «القليلة»، والتي مددت حفلاتها يومين، ويوما ثالثا أعلن عنه مساء امس وخصص للشباب بأسعار تناسبهم، فإن الجمهور السوري في هذه المناسبة، هم الفرجة الحقيقية. هنا ما زالوا يستمتعون باستذكار مشاهد حبهم لها، ويتبرعون لك برواية ما فاتك مشاهدته من آيات الغرام بها. هكذا، يخبرك موظف الامن عن شاب كان نائماً في سيارته أمام مقر بيع البطاقات بدار الاوبرا، ليكون أول الصف، وما ان أمسك بيده البطاقة التي اشتراها للتو، حتى انفجر بالبكاء منفسا عن كل توتر الأيام السابقة خوفا من أن لا يحصل على بطاقته. أما في المقاهي الشعبية، فقد رووا لنا مثلاُ كيف أن السوريين حملوا سيارتها على أكتافهم في حفل بصرى كما في «عراضة» شعبية حين يزفون عريسا. وهو تعبير سوري صرف عن الحب لم تحظ به أي شخصية من خارج سوريا، ما عدا جمال عبد الناصر، فكيف بالنساء.

«فيروز كود»

إذاً هي فيروز، هنا، كالحقيقة. هي فيروز وهي «قرنفل المسكينة» أو «العفريتة». لها ان تكون ما تريد. أما هم، جمهورها، فلا ينسون ان الاثنتين واحدة مهما تبدلت أسماؤها. وكلام أغانيها ومسرحياتها هو كلام فيروز. ينتخبون منه ما يعتقدون انه رسالتها المشفرة اليهم. أما اذا قرنت «الكلام» بابتسامة؟ فهذا دليل دامغ على انها رسالة من «الست»، فيبتسمون بغموض من فهم ما لم يفهمه غيره. يقولون ان بينها وبينهم شيفرة خاصة. «فيروز كود». يلملمون إشاراته من الاغاني، من حركة جسمها وتعابير وجهها، وحتى … لون فستانها، ثم ينظمونها حسب ما يرون. لا بل انهم يربطونها بإشارات الطبيعة «فالثلج لم يسقط صدفة للمرة الاولى منذ عقود على دمشق مع قدومها»، أما هي؟ فتبتسم لما يقولونه، وقد تضحك بسرور وغموض. أمن سعة مخيلتهم؟ أم لأنهم أصابوا في تأويلهم؟ لا أحد يعلم. فهي لا تكذّب ولا تؤكّد. فقط تبتسم بسعادة وتترك للحكايات الوليدة في كل مرة تلتقي فيها جمهورها في مكان ما، أن تحيا حياتها. فكلما كثرت الحكايات كلما اغتنت أرض الخيال العزيزة على قلبها.

هكذا، كانت قاعة دار الاوبرا هنا في دمشق، تشتعل بالتصفيق ما ان تصل في أغنية «هب الهوى» الى مقطع «ينسى الغفا عيوني اذا بنساكم». لا بل ان التصفيق، وخصوصا بعد كتابة الصحف عن الامر في الليلة الاولى، أخذ يبدأ أبكر فأبكر كل ليلة، حتى صار في مستهل الاغنية، خصوصا بعد أن ذكرته الصحف.

وهناك ليلة بعد ليلة، جلسوا في مقاعدهم القليلة التي جاهدوا جهاد المحبين ليحصلوا على كل واحد منها. أكان ثمنها يتجاوز قدرة دخلهم، أم كان الوقوف بالصف لساعات، حاملين هوياتهم التي يتم حجز البطاقات على أساس… الاسم الثلاثي الوارد فيها، شيء اعتبره بعضهم مذلاً، متعزياً ان الغني والفقير وقفا فيه جنبا الى جنب.. الى حد ما بالطبع. جلسوا ساكنين مترقبين لحظة اللقاء، ممسكين بأنفاسهم. كانوا ساكنين لدرجة اعتقدت الفرقة الواقفة في ظلام الكواليس، منتظرة رفع الستارة، أن الناس لم تدخل بعد الى القاعة. تكرر ذلك في الافتتاح الذي كان حضوره أقرب الى الرسمي، وفي الليلة التالية فالتالية. أما حين كانت الاشارة الموسيقية، التي تعادل دقات المسرح الثلاث، تصدح للمرة الاولى إيذانا انه «قرّب الموعد» لرفع الستارة، فقد كنت تفهم ما الذي تعنيه عبارة «كأن على رؤوسهم الطير»: ولا كلمة أو نأمة. كأنهم يخافون إن تحركوا أن ينتزع مقعدهم منهم. الموسيقى مرة ثانية، فصوت مسجل يطلب اليهم أن… «يجلسوا في أماكنهم»، ويمتنعوا عن استخدام آلات التصوير والهواتف النقالة. ولأنهم تقيدوا بكل ما طلب منهم فلم يحملوا أي ممنوعات من نوع الكاميرات والهواتف، رفعت الستارة تمام الثامنة والنصف، كل ليلة.

ترتفع الستارة بتؤدة، فترافق حركة انكشاف المسرح وظهور الفرقة، موجة عارمة من التصفيق ارتفعت حرارتها ما ان عثرت الاعين المشتاقة على فيروز تقف متوارية تحت مظلتها المسرحية «كوعد سحابة» ستمطر. وأمطرت. ما ان استدارت تواجههم بعد كلمتها الاولى في المسرحية، حتى عاد التصفيق ليمزق الهواء إرباً وهتفت حناجر باسمها تناديها. ليعود السكون على أتم ما يكون تسقطا لكل حرف تنطق به، لكل حركة. وفي العتمة، كنت ترى وجوههم التي أضاءتها أنوار خشبة المسرح، شاخصة ومأخوذة كما يفعل الاولاد المنصتين الى حكاية ما، يرون ما يروى لهم بعين المخيلة. هكذا، برقت عيونهم لسرقتها «ختم الولاية»، وضحكوا وتواطأوا مع فيروزتهم التي عادت لتطل من خلف «قرنفل» محوّرة أغنيتها «يللا تنام ريما» الى «يللا ينام ..عم إضحك عالوالي تينام». ومالت أمهات يهمسن لأولادهن انهن هدهدنهن على تلك الأغنية حين كانوا صغارا. في حين كانت صاحبة الاغنية الحقيقية «في مكان ما» في الكواليس تشرف على التصوير والمسرح وأمور أمها. أما حين أنشدت مقطع «يا بيّاع العنب» بصوتها ذي الدمغة الفريدة، فقد عاد ألف ومئتا شخص أطفالا، انطلقت آهات كأنها تحسر على زمن شخصي جميل، سرعان ما غرقت في عاصفة من التصفيق والدموع. دموع انتشلتهم منها حين عادت لشخصية «قرنفل العفريتة» التي كانت تنكر بظرف، سرقة ختم الولاية أمام المستشار. هكذا اختلطت الدموع بالضحك حتى كنت لا تستطيع أن تميز أي دموع هي. أما حين عفا عنها الوالي مستطردا بتلك الجملة الرائعة «ايه في جهنم، بس يمكن ما فيها حدا، لأنو الانسان أجمل من النار»، فقد انفجر تصفيق لم تكن تعلم ان كان لجمال هذه الفكرة الرائعة، ام لتنفسهم الصعداء إثر نجاة فيروز من عقاب الوالي. لا بل ان السرور بلغ منهم ان أحبوا هذا الوالي الذي اشترى، كما كل الولاة المتعاقبين علينا، رضاهم في الربع ساعة الاخير من المسرحية. فهمست إحدى السيدات للجالسة بقربها بارتياح «والله والي ظريف». أما حين سلم الوالي «قرنفل البسيطة» ابنة الشعب ختم السلطة لأن يدها «أرشق من إيدي»، فقد صفق الحضور بحرارة من يصوّت على أهم استفتاء سياسي. ألم نقل لكم؟ إنه «فيروز كود».

فيروز على كتف قاسيون

ديمة ونوس

عند الساعة الثامنة من مساء الاثنين، ارتسمت ابتسامة على ثغر قاسيون. ليست الابتسامة الأولى وربما لن تكون الأخيرة. فهو الشاهد الوحيد على ما يجري في دمشق. يطلّ عليها منذ زمن طويل. يتفرج على فرحها وحزنها ويصمت. لكنه قد يبتسم أحياناً. وابتسامته تكون غريبة بعض الشيء.

قاسيون يبعد الضباب وغيوم الشام الواطئة ويتأمل المدعوين وهم يدلفون إلى «دار الأوبرا» ليلتقوا بالسيدة فيروز. قاسيون لم يكن مدعواً. ومحمد الماغوط، إن تعب يرمي برأسه على كتف قاسيون لم يكن مدعواً. وأنطون المقدسي، قاوم أحلامه وعاش في دمشق ودفن فيها لم يكن مدعواً. وسعد الله ونوس، كتب كلمة يوم المسرح العالمي وألقاها على خشبة مسرح الحمراء في قلب دمشق لم يكن هو أيضاً مدعواً. «أهل الشآم» الذين التقوا بالست فيروز في الستينيات على أرض المعرض لم يكونوا مدعوين. أهل الشام، يصحون على صوت الملكة وهي تغني من وراء جدران البيوت. يصغون إليها ويحتسون قهوتهم الصباحية ويشردون وقد ترتسم على أفواههم ابتسامة غريبة.

جاءت فيروز إلى دمشق وأحيت الحفلة الأولى على مسرح «دار الأوبرا» رغم كل النداءات. كانت كصبية في العشرين من عمرها تتبختر على الخشبة، تغنج بمشيتها، تتمرد على الوالي النائم دائماً. تصرّ وتلحّ وترفض الصمت لأن «الحكي لم يخلق إلا لنحكي». هذا ما قالته فيروز. والصالة المخنوقة بالناس كانت تهتز من إيقاع التصفيق والصراخ. ما ان تلفظ فيروز جملة من جملها الثائرة عن فساد الوالي والدولة المصنوعة من خشب والختم المخصص لثلاث معاملات كل شهر حتى تعلو حدة التصفير والتصفيق. وأهل الشام لم يكونوا مدعوين. ولا مثقفوها المتمردون كفيروز. ولا قاسيون.

أهل الشآم الذين تجمعوا لساعات طويلة على باب «درا الأوبرا»، يلفهم الهواء الرطب والبارد طال انتظارهم دون جدوى. فالسيارات الفارهة وصلت قبلهم واستطاعت التسلل إلى البهو الفسيح وحصلت على بطاقات لفئة أخرى من أهل الشام. فئة لم تغادر بيتها ولم تنتظر في الخارج ولم تعصر ميزانيتها لتلتقي بالملكة. فقط استغنت عن سياراتها وسائقيها لبعض الوقت. وسائقو تلك السيارات الذين كلفوا بإحضار البطاقات لم يكونوا مدعوين أيضاً. لكنهم ابتسموا ربما عندما لمحوا اسم السيدة فيروز مطبوعاً في أعلى البطاقة. البطاقة التي رافقتهم للحظات قصيرة تفصل دار الأوبرا عن المالكي والمزة وأبو رمانة والأحياء الراقية الأخرى.

الشام التي سميت «عاصمة للثقافة العربية»، هل كانت مدعوة؟ الشام ليست مجرد ماضٍ يعبق بروائح الياسمين المتدلي على الجدران والهال المتبخر من فناجين القهوة وبردى يطفح بشعر نزار قباني وبصوت فيروز. هي أيضاً حاضر. وغادة السمان التي قرئت مقاطع من روايتها «فسيفساء دمشقية» خلال الافتتاح الرسمي تركت دمشق منذ زمن طويل. الرائحة لا تصنع وطناً. ومحمود درويش الذي كتب عن دمشق وقرئت قصيدته في الاحتفالية افتقدته دمشق. والحنين إلى الماضي، لا يغني الحاضر.

كثيرون انتظروا مساء الاثنين. ساروا في الشوارع المفضية إلى ساحة الأمويين حيث دار الأوبرا، ليلتقوا بالملكة. كثيرون تجمعوا في الساحة الكبيرة رغم البرد القاسي، أعينهم معلقة إلى قاسيون. وقاسيون يتعرّق، يتندّى، يتلوّن، يختبئ وراء الضباب، يسند الملكة على كتفه ويبتسم

(دمشق)

صــح النّــوم ودولــة الخشــب «قرنفل» ترفع المظلة عن حقيقة الاستبداد

فيروز في دمشق

=

مازن حيدر

يَستيقظ الوالي النّائم مرَّةً جديدة وتَعودُ الرواية تزهو ليلَةً أُخرى بألوان التغيير. يَستغرقُ الحُلمُ شهرًا أو سنةً أو ثمانية وثلاثينَ عامًا المدّة التي تفصلنا عن العرض الأوّل للعمل المسرحي وكما في كُلِّ مرّةٍ تنهضُ بنا الحكايةُ نحوَ عالمٍ مُتحوّلٍ يأبى إلاّ أن يَتمرَّدَ على الانتظار. نستلهمُ سردَنا هذا لـ«صحّ النوم» للأخوين رحباني من الحُلّة الجديدة المُتَجدّدَة للعمل الذي باتَ يَغتني مع كلّ عرضٍ لتَتَكَثّفُ وتتعَمَّقُ معانيه الأولى. فما هو ذلك الذي يدفعُنا الى جذبِ القصّة في كُلِّ مرّةٍ الى صلبِ الواقعٍ الذي نعيشُ فيهِ، وهل لنا أن نَستفيضَ بقراءة مضمون الرواية بمعزِلٍ عن البعد الموسيقي الذي أرادتهُ رؤيا المُؤلّف؟ نسعى في هذا العرض الوجيز، باستذكارنا ثنايا وتَفاصيل نقتطفُها من المسرحيّة ـ وان فضّلنا جزءًا على آخرـ أن نَتَعرّفَ أكثر الى العناصر التّي ميّزت صح النّوم والتي ساهمت في تماسُك العمل المسرحيٍ الغنائيٍ. يفترضُ موضوعُنا اذًا بعض الإلمام بالمشاهد الحواريّة غنائيّة وغيرغنائيّة التي سوف تكونُ مُحرّكًا أساسيًا لمجرى هذا البحث.

بدايَةً وفي الحديثِ عن المضمون ومدى ارتباطِهِ بالقيمة الفنيّة لا بُدَّ لنا أن نستذكرَ بإكبار دراسة الناقد نزار مروّة وتحديده لمعالم المسرح الكُلّي في إطار تحليلِهِ للمسرح الغنائي الرحباني. ففي عرض قراءة عمل مثل «هالة والملك» يقولُ مروّة انّ النصَّ والموسيقى والشعر يمتلكُ كلُّ واحدٍ منها قيمةً دراميّة مُستقلّة تتّحدُ في ما بينها لتعملَ على تجسيدِ الحالة المسرحيّة أو الشحنة المسرحيّة كما يُسمّيها. انَّ تحقيق التوازُن بين الموسيقى وبينَ الشعر والمسرح قد يدفَع بالعمل نحوَ التكامُل وبهذا تكونُ القصّة اطارًا تتَحقّقُ ملامحُهُ تدريجيًا بتضافر شتّى الوسائل والأساليب المسرحيّة، اذ يُمسي المضمون والشكل وحدَةً لا تتجزّأ. هذا وإلا بقيت القصّة أشبَهَ بخلفيّةٍ جامدة مُنفصلة عن طُرُقِ أدائها كما يكثُرُ الحال في الأعمال التي تَتّخذُ من التاريخ عنوانًا تكتفي به دون الغوصِ في المضمون. فمن الواضح انّ ثمّةَ فارقًا بين القصّة التي تحوي عناصر شبه مُستقلّة مُؤدّية للعمل المسرحي، وبين البناء المسرحي المُتماسِك بتشابُك عناصرهِ. أمّا النموذج الآخر فهو ذلك الذي يَتَبلور شيئًا فشيئًا حتّى الاكتمال فتأتي ولادتُهُ سلسة من دُونِ أن يستَبِقَ ملامحَهُ النهائيّة.

قرنفل

في صح النوم رأينا توازُنًا فريدًا بين المضمون والشكل أعيدَ إبرازُهُ في تجربة زِيّاد رحباني الجديدة. اذ انَّ المُعالجة الموسيقيّة بدت في أكثر الحوارات مُلتصقةً بالتطوّر الدرامي حيثُ نجدُ الايقاعَ يتَوتّر ثمّ يندفع تصاعُديًا اسوَةً بمجرى الحركة المشهديّة، بل نجدُ أن مُختلف الشخصيّات وأبرزها قرنفل (فيروز) وزيدون المستشار (أداء نصري شمس الدين في النسخة الأولى ـ اليوم ايلي شويري) تكتَسبُ ملامحها الأساسيّة من صميم التقطيع الموسيقي. تُستهلُّ المسرحيّة بانقسامٍ واضحٍ بين قرنفل وبين الأهالي أو الكورس الذي كان له دورٌ حاسمٌ في نجاحِ هذا العمل. قرنفل على يمين المسرح جاثمةً بمظلّتها أمّا الأهالي المترقّبون لظهور القمر فهم في حالة من الهذيان يُهلّلون للوالي الآتي. فجأةً يأتي وقعُ صيحة قرنفل «تركيبة!» كالصّاعقة على آذانِ الأهالي فيستفسرون منها مُندهشين أن ما هي هذه التركيبِة وما يجعلها تُعكّرُ عليهم صفوهم، فتُليها بـ«تركيبة وخيمة كركوز…». يوقظُ صوت قرنفل الكورس من نومه فيعودُ ليستدركَ حقيقة الأمور ويبدأ الأهالي همُ أيضًا بالتساؤلُ: «كيف رح يقدر الوالي يخَتِّم لكل الأهالي». هُنا تُؤمَرُ قرنفل وبأشد اللهجات أن تلزمَ الصمت «هس يا قرنفل! اسكتي يا قرنفل!» ليرتدَّ الكورس في لحظةٍ واحدةٍ من حليفٍ لسيّدة المظلّة الى مُوالٍ لقائد الحرس فيردفُ صارخًا ايه اسكتي اسكتي اسكتي! في هذا المشهد الأوّل تَحدّد العنصران الأهم في مُجملِ العمل. أولاً برزت شخصيّةُ قرنفل الفذّة تلك السيّدة التي سئمت رضوخ مَن حولها فأخذت تبتكرُ شتى الأساليب علّها تسترعي انتباههم وانتباه الوالي فحملت مظلّة تستعيضُ بها عن سطح بيتها المُهدّم بالثلوج وجعلت تُبالغُ في رفعِ نبرة صوتِها في كلّ ما تقولُ فتختصرُ مثلاً كلّ المهزلة بكلمة واحدة أو اثنتين «تركيبة وخيمة كركوز». أمّا الجانب الآخر فهو بالتالي الجو السّاخر الذي سيمتدّ ويغتني طوال المسرحيّة. ذلك أنَّ الطرافة في هذا المشهد الافتتاحي تكمنُ ليس فقط في رواية الوالي الذي يستيقظُ مرّة في الشهر لختم المعاملات أو حتّى في دور المظلّة بل أيضًا في تواطؤ الأهالي مع سلطتهم وبتماديهم في صونِ طقوسها البالية. تتّضّحُ هذه النزعة الهزلية في عرضِ المضمون في المشهد الثّالث عندَ دُخول زيدون، مُستشار الوالي، لطمأنة الأهالي عن واليهم: لمّا القمر بيصير بدر ويغمر قصر النوم/ مولانا بيتّاوب وبيوعا من النوم/ وبتعرفو انّو الوالي كل شهر بيرتاح شهر/ بيتنسّك بقصر النوم/ أكل وشرب ونوم/ لَمصلحة الأهالي. اذًا فطقوس الدولة تبدو هُنا هي أشبه بظاهرةٍ طبيعيّة غير مُرتبطة بفعل بإرادة الانسان فلا سبيل لردِّها. «وبتعرفو انّو الوالي…» أي أنَّ ما هو سارٍ في تلك الدولة بديهي ومعروفٌ واعتياديٌ ولا مجالَ لتغييره. أمّا المقصودُ من خلال التصوير الكاريكاتوري التصاعُدي الذي يُعبّرُ عنهُ النص فهو الوصول في المقطع الأخير الى ذروة الاستبداد بمصالح الأهالي فَننتقلُ من إيقاعٍ مُتدفّق شبه بهلوانيٍ في الجزء الأوّل الى أن تُختَتَمَ الجملة عندَ «لَمصلحة الأهالي» بإيقاع تطريبيٍ مُمدود تأكيدًا على عدم جديّة الموقف. تكتملُ حلقة السُخرية هذه بإدخال آلات النفخ الموحية بالرهبة فنسمع الكورس يؤدّي في جوٍ ملحمي وقور «لمصلحة الأهالي يتنسّك مولانا الوالي». انَّ قيمةَ الموسيقى تكمُنُ اذًا ليس فقط بقدرتها على الاقتران بتطورات النص بل بالآفاق والمجالات الرحبة التي تفتُحُها في إبراز المضمون وتجذيرهِ في ذاكرة المُتلقّي.

بعدَ التحيّة الحارّة التي قدّمها الأهالي لمستشارِ واليهم تعودُ قرنفل في مُحاولةٍ يائسة لردّهم الى الصواب وتعودُ الموسيقى الى إيقاعِها المرح. «أحسن أحسن دخلِك لشو السرعة العمر بيخلص والشغل ما بيخلص!» يُجيبُها المُستشار بنبرةٍ واثقة الى أن تُتعبَهُ أسئلتها المُتتالية فنسمعهُ يقول: «حاجي تحكي بدنا نشوف النّاس». فقرنفل لا تُنهرُ إلاّ عندما تمادت بإلحاحها اذ انّهُ وكما يقولُ الوالي في مشهدٍ لاحق يحقُّ للأهالي فتح ثغورهم وإطباقها متى شاؤوا كما يحقّ للسلطة عملاً بمبدأ حريّة التعبير سدَّ أذنيها. هكذا نرى أنَّ النبذة الترويجيّة لمسرحيّة صح النوم التي تُسلّط الضوءَ على موضوع استبداد السلطة في العمل الفنّي تغفل غالبًا أحيانًا أالتطرق الى عالمِ «خيمة الكركوز» أو«دولة الخشب» ـ كما ستسمّي قرنفل دولتَها من قعر البئر ـ أو الى صرخة تركيبة وما تحملُهُ من دلالاتٍ تختصرُ المضمون المسرحي بكامله. فالاستبدادُ هُنا ليس تمامًا ذلك الذي تطرُحُهُ مسرحيّة الشخص، والعدالة هُنا فاقدةٌ أصلاً لمعانيها فدولة الخشب ابتنت حدودها منذُ الأساس بأعرافٍ هزلية حتّى باتَ العيشُ فيها محكومًا بالرضوخ الكامل للُعبة الحُكم أو للتركيبة الأكبَر. أمّا الاعتراضُ على السائد فهو مسموحٌ بل مشروعٌ وبالوسيلةِ التي يفرضُها المُعترض ولكن حذارِ لمن يتجرّأ على تجاوز خطوط مطلبه الشخصي وزعزعة التقاليد حيثُ تنزلُ به أشدُّ الأحكام.

اذًا شخصيّة قرنفل العفريتة هي بكُلّ تأكيد نابعة من صميم الاطار المسرحيّ العام الذي ارتسمت صفاتُهُ الساخرة منذُ البداية أي حين رأينا «المنوضرجيّة» الى السمّاء يترقّبون بزوغ قمر واليهم النّائم. ففي هذا الجوّ السيريالي ترتئي قرنفل أن تُحدّدَ بدورها تُخومًا لا واقعيّة لعالمها تكونُ فيه الشمسيّة هُويتها الجديدة بها تتظلّل من العالمِ الخارجي الزّائف وعبرها تَتَنبَّهُ دائمًا لوجود هذا المُحيط، فالمظلّة تبقى الدليلَ القاطع على أن السطحَ لم يُبنَ بعد وأنَّ القضيّة لم تنم بل ما زالت تُقلِقُ حاملَها. واللافتُ هو تشبث النص المسرحي برمزيّةِ المظلّة حيثُ لم تنحرف عن معناها المُجرّد في أيٍ من المشاهد.

نقتربُ أكثر من دور سيّدة المظلّة عندما يستعرضُ زيدون مع الأهالي المُنتظرين غرضَ مُعاملاتهم. ومتى حانَ دور قرنفل بالكلامِ انقلبت الموسيقى فجأةً من تقطيعيّة مُتهادية الى مُتدافعة حتى الصخب عجّت بها آلات الايقاع الشرقي، فهُنا نسمعُ قرنفل وهي تَنهمكُ بمقطعها الشهير: «وحق من الله الي ست أشهر كاتبة معاملة وبعدها ما انختمت…» هذا المقطع الذي شاء المؤلفّان أن يكونَ أشبَهَ برمزٍ للعمل فكانَ يستُعادُ في آخر العرض لحظة تحيّة الجمهور. انّ هذا التناقُض المُتَعمَّد بينَ الجرس المنقور والمُتواصل أو بين النغم الدافئ والمُتفجّر عمل مُجدّدًا على تعميقِ ملامح الشخصيّة في المشاهد الأولى وعلى إغنائها بلونٍ كوميدي اكتملَ بلفتةٍ مُوفّقة من المخرج ـ برج فازيليان ـ حيثُ نرى اليومَ شابًا ساذجًا ـ أدّاه روني برّاك ـ يُرافقُ قرنفل نقرًا على دفّهِ ويتبعها كيفما اتّجهت وهي تصدحُ عاليًا تعبيرًا عن محنتها لزيدون المستشار. لكنَّ أهمية هذا المشهد تتجلّى أكثر فأكثر بالمبارزة المُتقَنة التي تجمعُ قرنفل بزيدون والكورس والتي امتزجت فيها الموسيقى بالتطوّر الحواري. «على مهلِك، يا قرنفل صوتِك عالي …» يَسعى المستشار هادئًا إقناعَ قرنفل بأن تُخفضَ صوتَها لئلا يستيقظ الوالي مذعورًا ويعود للنومِ من جديد. بيدَ أنّها تبريرًا لصوتها العالي تعودُ يائسة وبالزخم نفسه فتقتطفُ عبارةً من هُنا ومن هناك ممّا قالتهُ سالفًا علّها تُوصلُ شكواها فيعترضها في كُلِّ مرّة صوتُ زيدون القاطع بـ«وطّي صوتِك» الذي أخذَ يستنفدُ تدريجيًا كامل طاقته الصوتيّة الى أن نشعُرَ في نهاية المطاف أنّ مؤدّيَ العبارة قد لامسَ طبقتَهُ القصوى فاقتضى الأمرُ أن يتنحّى عن المُجادلة تاركًا المهمّة للكورس المُتأهّب. هكذا يرتفعُ صوتُ الكورس في نغمةٍ جليلةٍ «يا قرنفل وطّي صوتك!» وقد توهّجت في الاعداد الأخير.

قراءة جديدة

ولعّلَ أشدّ ما يسترعي انتباهنا في هذا المشهد هو هذه المُعالجة الجديدة للتوزيع الموسيقي وسير الحوارِ. أولاً لاحظنا إضافةً في بداية الحوار المُتوتّر بين قرنفل والمستشار أدّت بالرغم من طفافتِها دورًا ذكيًا في تعميقِ منحى الحوار الجَدَلي، فبعدَ «وطّي صوتك» تعودُ قرنفل بـ«سَطحنا هبّط» تستبدلُها مُستدركةً في نصِّ اليوم بـ«ما سطحنا هبّط» تثبيتًا لحقّها بالمُطالبة وبالنداء عاليًا. أمّا المعنى الجوهري الكامن خلفَ هذا الاجراء البسيط فهو إحكام الربط بينَ أطراف الحوار وتمتين أساليب التفاعُل بينَ الشخصيّات. وأمّا اللمسة المُجدِّدة التي تطبعُ نسخة صح النوم هذه بنَفسِ عصرنا فهي استخدام «ما» بمعنى «لكنَّ» الطارئة رُبّما على اللغة المسرحيّة الغنائية الرحبانيّة والتي تحلّ مكان التعبير «وِك» ـ وك سطحنا هبّط ـ مثلاً. في الملاحظة الثانية، وان كُنّا سنختصرُ الكثيرَ من مشهد المبارزة هذا، نذكُرُ النهاية العنيفة التي أُدرِكَت قيمتُها الدراميّة كاملةً فجاء ختامُها مُنفعلاً وبنبرةٍ حاسمة تليها فترة زمنيّة لم تَكُن مُقرّرة في النص الأصلي تؤكِّدُ على انفصال المشهد عمّا سَيليه أو رُبّما لتُتيحَ لنا في لحظةِ تأمّل استيعاب المشهدِ كاملاً. «وحياة الوالي غْلبتيني يقصف عمرِك شو قوِيِّة!».

هذا الترابُط المسرحي الذي أردنا تسليط الضوء عليه يتحدَّدُ اذًا بلفتات في غاية الدقّة بها يستيقيمُ المضمونُ الدرامي للعمل. فالنفس السّاخر الكامن وراء فكرة التقاليد الرّئيسة لم يتجلّ حصرًا عبر الكلمات أو عبر اللحظة الآنية على خشبة المسرح بل خلال خيط ترابط يصلُ الموقف الواحد بسائر الأحداث حتّى نشعُرُ أنَّ كلّ ما يدورُ في المشهدِ أمامنا يحدُسُ بما سيليه. خيطُ الترابُطِ هذا وعنصر التكرار هما لرُبّما التعبيران الأبلغ عن محور الأعرافِ والتقاليد السائدة كتنبّه الأهالي مثلاً أن يرشّوا المياه في السّاحة خشيةَ أن يَعطسَ واليهم فيعودُ هذا الأخير ويكلل خشيتهم المفرطة في مشهدٍ لاحقٍ بعطسته المدوّية. نذكُرُ كذلكَ كيفَ أنّه في مشهد نزول قرنفل الى البئر لم تلفت وهي المكان العميق الى عثورها على الختم بل اكتفت بـ«شيلوني شوي شوي» وكأنّها ربطت بطريقة غير مباشرة قلقنا على الختم بقلقنا عليها وهذا ما سيُؤكّده الوالي عند خروجها من البئر فهو لم ينسها بل نسي الختم. أمّا التقطيع الزمني العام فهو يغتني بتكرار مُتعمّد لبعض المشاهد نصًا وموسيقىً كما الموقف الافتتاحي في الفصل الثّاني الذي ترافق وتكرار مُتعمّد لموسيقى مشهد المنوضرجيّة في الفصل السّابق بل انَّ المقدمّة الموسيقيّة الثانية للعمل الغنائي هي بدورها استعادة مُعدّلة للمقدّمة الأولى دليلٌ قاطعٌ على رتابة التقليد واستمراريّته. نلفتُ الى دور التوزيع الجديد في إغناء هذه المقدمّة عُمقًا وبُعدًا.

لكنّ التكرار يأتي أيضًا تحضيرًا لنقيضهِ أي التغيير المُباغت أو الزلزال الكبير الذي تُحدثه سرقة الختم ثمَّ اكتشافها. نعودُ هُنا وان بلمحةٍ الى أحداث الفصل الثّاني حينَ ينزلقُ محور السخرية الى دائرةٍ عبثيّةٍ مُقفلة. فمُحاكمة قرنفل التي سرقت الختم لا تَتمُّ إلاّ بالختم عينهِ خوفًا من كسرِ التقاليد. «بس القمر عم بيضوّي بلا ختم!» تصدحُ قرنفل بإحدى وقفاتها الظريفة أمام الوالي المُحتار بأمرهِ مُستأثرةً بمصير الدولة فكيفَ للقمر أن يظهر ويضوّي بدون إتمام مُعاملته؟ هكذا تختصرُ قرنفل وقد رفعت عنها المظلّة بعد أن بنت سطحها كلّ سذاجة القوانين هازئةً في عزّ مُحاكمتها من دولة الخشب، وبعدَ أن تُصبِحُ هيَ الآمرة النّاهية تُقرر أن تُعيدَ الختم وأن تَسحبهُ من قعر البئر. وتعود السخرية لتبلغ ذروتها بعزوفِ الوالي عن ختمِ معاملة شاكر المُلحّة وإعلان رغبته بالنوم من جديد مُسندًا اليها مهمّة التختيم.

يتخلّى الإعداد الجديد لصح النّوم عن الطابع الاحتفائي بالعمل الرحباني الأوّل فنراهُ كما أشرنا إعادةَ قراءة لوحدته الفنيّة بلغةٍ مُتمرّسة تُحيي معالمَ العمل في النّص وفي الموسيقى. ومتى أقلـعنا عن حصر العمل برمزيّتهِ بل متى ربطنا هذه الرمزيّة بمُختلَف عناصر العمل الغنائي من حوارات وضبطٍ موســيقى أصــبحَ من الأمتع الوقوف على جماليّة العمل في حلّته الجديدة والـقديمة. عرضُنا هذا لم يكُن اذًا سوى قراءة مُوجزة لبعض محطاتٍ من العمل المسرحي لا تختصـرُه كامــلا حــيثُ يستحقُّ حتمًا التـوقف طويلاً في رحلته المُتجدّدة هذه.

دمشق

هل تنبت قرنفل دمشقية بعدك يافيروز؟

فلورنس غزلان

فيروز اصدحي ولا تهدأي، نشيدك محبة ، رسالتك سماوية وصوتك إلهي النغمة …أطلقي حنجرتك ليسمعهاأهل الشام ..فأنت خير من يفهمنا ويتفهم عطشنا ولوعتنا..

ــ كيف يمكننا أن نقتل جرب الفكر، الذي يأكل الجسد ويتفشى رعبه المرضي في قوامنا المجتمعي؟

ــ كيف يمكننا أن نخرج من هوة الوحل في هزيمة تستمر ، ويقف على حافتها من يدعي حماية أمة تموت حيواتها على أيديهم؟

ــ كيف يمكننا التغلب على تبعثر أجزاء الجسد الواحد شظايا في مساحة الوطن؟

نذهب في الحلم ، ونصطاد خوفنا .. ..نحبسه اليوم في الصدر ونأتي إليك يا فيروز..

لتكوني قرنفل ..سارقة الختم و مفتاح الأقفال ..الصبية الجريئة المتمردة على ولاة الحكم وطغاته…النائمون المتقاعسون عن حماية الأرض…النائمون عن حقنا والغافلون عن جوعنا…نراك قرنفلاً ..تخطف الختم والمفتاح لتطلق سراح الأسير والمظلوم ، لتكتب بمداد قلوبنا وبأغانيها ورنين صوتها ..ولترفع صوت الحق بختم المحبة وتعيد للوطن سبيل الحرية…ألا ترين أني أهذي، وأحملك ما لا طاقة لك فيه؟

الا ترين أني أحلم وأرنو…إلى ساحة الأمويين ، التي تصرخ اليوم بحشرجة …تفرح!؟…لكنها فرحة سكرى ..مغشوشة ..فرحة كاذبة ..نحبك نعم ..يحبك أهل الشام نعم..ولكل منهم في هواه طريق ومنحى وسلوك…

هناك من حضر ليسكره الصوت فينسى..وهناك من ينشد القوة ويشحذها من نشيدك…

وهناك من يتبحج ، أنك جزء من خطته ومن مكاسبه، يريد استخدامك في لعبته..لكني أعلم ويعلم أهل الشام معي …أنك أكبر من الاحتواء…أنك بعيدة عن اخطبوط السياسة..وصعبة على معادلات البهلوانات…فابقي فيروز التي عشقنا..ونعشق …فيروز الوطن والمحبة …فيروز رسولتنا للسماء وأجنحتنا مع رياح الحرية.

يا فيروز….نحن أمة خائبة ..خائبة بكثافة الموت المتمدد في أطرافنا والمنحدر نحو القلب…ليتملكنا العجز…ويصيب منا مقتلاً..ويدفعنا بالتالي للاستسلام….نحقد ..نكره ..نشتم ونلعن ..نمتلك في أحشاءنا أفظع المفردات وأنكرها..وفي معجمنا اليومي نحمل تشوهات الضحالة الثقافية ، التي عشعشت فينا منذ عقود ، وتركت ديدانها تنام في أحضان بلاهتنا…وتصل حدود الرجولة فتخصيها….

لأننا سمحنا لأيدي الموت أن تكفننا أحياء…لأننا سمحنا للخائضين في دمائنا أن يقرعوا طبول أعراسهم وأفراحهم …ويدوسوا جثثنا…لأننا سمحنا لنعالهم أن تطأ كرامتنا ..لأننا نصمت ونقبع في زاوية من ساحة الأمويين …ننصت لصوتك المعجزة ..عله يمسنا بنفحة سماوية ويسخر لنا تعويذة تنعش أرواحنا المدفونة وقلوبنا المُعَّمرة بأحقاد ولعنات …تلعن العتمة بصمت وتلعن الموت بخشية..وترمقك بانتظار الفرح الحقيقي..

تتطلع إليك العيون يا فيروز جائعة متسعة…تراك ولا تراك …يفقؤها الواقع وتحييها الذكرى…تعود إليها ملامح الأمس ، لكنها تظل في عماها ..غائبة مغيبة…قولي يافيروز …وعودي وعيدي ، فمن يسمعك اليوم ..هم مزيج من الأمس الناسي المتناسي، والحاضر الجاهل…والمستقبل الخائف…

لكن الجميع ينتظر ويأمل بقرنفل دمشقية يحملها صوتك مع الأمل….فربما …من يدري؟!

أبو ظبي
28/01/2008
خاص
صفحات سورية –

ادخال فيروز في المعركة السياسية اللبنانية

مالك التريكي

يحكي أن مقاتلي أحد فريقي الحرب الأهلية الإسبانية ألقوا القبض علي مسلح ارتابوا في أمره بعد أن رأوه متمترسا علي سطح بناية وهو يصوب مدفعه الرشاش في حركة دائرية مطلقا نيرانه كيفما اتفق في كل اتجاه، ولما سألوه مع أي الجانبين أنت؟

قال: لست مع أحد. فقيل له: وفيم قتالك إذن؟ فأجاب: إني أقاتل لحسابي الخاص!

هذه الحكاية مؤاتية جدا لتلخيص المسار السياسي للزعيم اللبناني السيد وليد جنبلاط. فقد تنقل الرجل بين كل المواقع واتخذ بالتعاقب، وأحيانا بالتزامن، جميع المواقف، ثم راح يسدد نيرانه كيفما اتفق حتي لم يبق له إلا السيدة فيروز يرميها بالمستدق من حصي القول السياسي، مجاريا في ذلك مواقف لسياسيين لبنانيين آخرين استنكروا عليها غناءها في دمشق.

وإذا كان من المفيد التذكير، في مطلق الأحوال، بأن الخصومة بين الأنظمة العربية ما كانت لتقف حائلا بين الفنان وجمهوره في أي بلد عربي (ولو لا ذلك لما كان لكوكب الشرق مثلا أن تغني في تونس عام 8691 في أوج فترة الخصومة بين بورقيبة وعبد الناصر)، فإن الأهم هو التنويه إلي أن ما تعنيه فيروز بالنسبة لجميع العرب لهو من الجلاء بحيث أن وسيلة إعلام غربية مثل نيوزويك قصدت رأسا بيت القصيد عندما كتبت عام 1987 عن حميمية العلاقة بين فيروز والأمة العربية، حيث أنها تعبر عن أفراح هذه الأمة وأتراحها .

هذا المعني هو من النصاعة بحيث أوحي لمحمود درويش نصا (أذكر أني قرأته في جريدة القبس الكويتية عام 1986) عن منزلة الأغنية الفيروزية في الضمير الثقافي العربي، وعن نبل رسالتها الإنسانية التي يصفها بأنها توق إلي إلغاء العدو من العلاقات بين البشر.

هذا المعني هو من البداهة بحيث كنا كثيرا ما نقول، تأسيا، مع زميلنا المذيع الفلسطيني الفذ ماجد سرحان رحمه الله بأن لم يبق ما يجمعنا، في زمن الفرقة المديد هذا، فيجعلنا أمة واحدة سوي حب العربية وحب فيروز، نعشق لغة الضاد ونبر من يبرها. ونحب فيروز ونهنئ النفس علي أن الذوق العام قد اصطفاها حتي صارت هي ذاتها صلاتنا الصباحية نجدد مناهل الوجدان بصوتها المستصفي من التبر والسلسبيل.

كان مما نقوله آنذاك تأسيا أن كل شيء ربما سينهار (وها انه لم يبق بعد عقدين من هذا الكلام سوي الانهيار سيدا مطاعا يتفقد خرابه كل يوم بمزيد من الخراب) لكن ما يجمعنا وسيبقي يجمعنا سواء قامت في بلاد العرب أنظمة وطنية أم لم تقم، وسواء زين لصدام حسين سوء عمله بالتورط العبثي في الحرب مع إيران ثم في احتلال الكويت أم أن أوهامه الستالينية قد صادفت أحلاما نابوليونية لدي الجماهير التي تيتمت منذ 1967 يتمين متزامنين في الكرامة والزعامة، وسواء حافظت الكيانات القطرية القائمة علي البقاء أم تشرذمت واحدة تلو الأخري عودا أعرابيا علي بدء جاهلي، وسواء سلك العرب طريق الوحدة أم لم يسلكوا، وسواء كنا نحن أمة العرب عقلاء أم مجانين في ركضنا الوحشي في برية الحلم الذي أتقنه روسو إتقانا حتي الهلاك: حلم السعادة بالسياسة… وسواء تمادت الدنيا، التي يسمونها الأسرة الدولية ، بأسرها في الظلم المطبق حسب الأصول أم أخطأت فأنصفت ذات مرة عن غير قصد، فإن ما يجمعنا وسيبقي يجمعنا من المحيط إلي الخليج هو الانتماء لوطن ثقافي هو اللغة العربية والحنين إلي حضن فني هو صوت فيروز.

ننتمي لوطن اللسان العربي المبين فنحب أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران وشكيب أرسلان ليس رغم كلاسيكيتهم الأخاذة بل بسببها. ولو قيض لنا أن تسألنا البريطانية (سو لولي) مثلما كانت تفعل آنذاك في برنامجها الأسبوعي في راديو 4: أي الكتب تريد أن يكون معك لو انقطعت عن الدنيا في جزيرة قفراء؟ لأجاب معظمنا: المصحف الشريف، أو ديوان أبي الطيب، أو أبي العلاء، أو كتاب الأغاني، أو الإمتاع.

ونحن إلي حضن فيروز الفني لأنها ليست من الفنانين المتميزين الذين يملؤون علي الجمهور حياته ويؤثثون أوقاته فحسب. ذلك أن هؤلاء الفنانين مهما بلغوا من أهمية في حياة الأفراد فما هم ببالغي المكانة السامقة التي تتبوأها الطبقة التي تنتمي لها فيروز، أي طبقة العظماء الذين يلبون أخلص الحاجات الروحية، ويبينون عن المكنون في ضمائر الأمم.

فيروز صوت فدرالي عروبي أكبر، بقيمته الوحدوية، من مجموع مكوناته القطرية: ملك ثقافي مشاع فليس يملكه أحد.

وأيا كان الأمر، فهل تصدقون أن هنالك علي وجه الأرض فعلا من يطلب من فيروز ألا تغني؟!

القدس العربي

02/02/2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى