السلطات السورية تعتقل مدوّنا، لتكمم ‘أنباء كاذبة’ومحكمة أمن الدولةما تزال تكافح الأمراض التي تصيب نفسية الأمة بالوهن!
علي الصراف
ميدل ايست اونلاين
أضافت محكمة أمن الدولة العليا في سوريا ضحية جديدة من ضحايا الأمراض النفسية التي لا شغل لهذه المحكمة إلا ملاحقتها.
فحتى لكأنها مستشفى لعلاج المشاكل النفسية التي تعاني منها “الأمة”، فقد أصدرت المحكمة حكما بالسجن لمدة 3 سنوات بحق المدوّن كريم عربجي (31 عاما)، بتهمة نشر “أنباء كاذبة من شأنها أن توهن نفسية الأمة”.
وتلاحق السلطات الأمنية في سوريا أصحاب الرأي والمدافعين عن الحريات العامة، لأنها تعتقد أن وجودهم مطلقي السراح “يوهن نفسية الأمة”.
ولكن، بعد الإلقاء بالعشرات من الكتاب والصحافيين والمثقفين خلف القضبان بهذه التهمة، فان السؤال الذي لا بد وان يثير الحيرة هو: هل انتعشت نفسية الأمة؟
ما لم تكن “الأمة” هي جهاز المخابرات الذي يعد على الناس أنفاسهم، فالواضح أن “نفسية الأمة” لم تنتعش لا عند اعتقال ميشيل كيلو، ولا أكرم البني، ولا فايز سارة، ولا علي العبد الله، ولا فراس سعد، ولا جبر الشوفي، ولا أنور البني ولا عارف دليلة، ولا العشرات غيرهم.
وما تزال تلك النفسية مصابة بالوهن. ولكن ليس لان هناك من “ينشر أنباء كاذبة”، بل لأن هناك، في رحاب السلطة، من ينشر “وقائع كاذبة” ويرفع بشأنها “شعارات كاذبة”، تدفع بالبلاد الى المزيد من الضعف وتراجع القدرة على معالجة مشكلاتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
الذين سمعوا عربجي وهو “ينشر أنباء كاذبة” قد لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة.
وفي المقابل فان لدى السلطات السورية من الوسائل لنشر “أنبائها الصادقة” ما يكفي للوصول إلى الملايين.
وما لم تكن تلك “الأنباء الصادقة” قليلة الصدق مع نفسها، فإنها ما كانت لتخشى مدونا ينشر “أنباء كاذبة”.
وعادة ما يتداول المدونون مشكلات تتعلق بحياتهم المباشرة. ويتحدثون عنها انطلاقا من خبراتهم الخاصة. وهو ما يعني إن ما يتحدثون عنه ليس “أنباء” (فواحدهم لا يزعم انه سي.أن.أن) بل وقائع. ثم أن انطباعاتهم عنها حتى ولو اتسمت بالحدّة وحتى ولو أضافوا لها شيئا من النقد، فإنها لا يمكن، بسبب من طبيعتها كانطباعات، أن تكون كاذبة.
ما يبعث على الوهن هو ليس انتقاد الحفر في الشوارع، وليس النقد الذي قد يوجه إلى السياسات الحكومية عندما تنقطع الكهرباء لساعات طويلة. ما يبعث على الوهن هو وجود هذا المشاكل والفشل في معالجتها. هذا هو ما يبعث على الوهن. وليس ما يقوله المدوّنون عنها.
تحاول السلطات السورية، كما العديد من الأنظمة العربية الأخرى، أن تسوّق صورة أقرب إلى الدجل عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السائدة فيها. وهي تصاب بالذعر إذا ظهر هناك من يشير بإصبعه إلى ظاهرة سلبية ما. وبدلا من معالجة الظاهرة، فإنها “تعالج” الإصبع بقطعه!
ما تفعله السلطات، بمكافحة النقد للظواهر السلبية، هو أنها تنشر ثقافة نفاق عامة تجبر الفقراء على الابتسام أمام الكاميرات الحكومية لكي يقولوا إن كل شيء على ما يرام، وإنهم لا يمكن أن يكونوا بحال أفضل من هذه الحال.
ولكي تضفي السلطات نوعا من العلاج النفسي الشامل على أكاذيبها الاقتصادية، فإنها تقرن “التقدم” الذي تحققه برامجها التنموية، بالمعركة ضد الإمبريالية وبتحرير فلسطين. وإذا ظهر أن هناك صعوبات لا بد من التحدث عنها علنا، فإنها تقرن هذه الصعوبات بذلك العلاج النفسي الشامل نفسه، أي إنها تلقي بتبعة تلك الصعوبات على الإمبريالية ومتطلبات تحرير فلسطين، والحصار الظالم، ومكافحة الإرهاب،..الخ.
من وجهة نظر مستشفى أمن الدولة، فان الوهن في نفسية الأمة، لا يأتي من العجز عن تحرير الأراضي المحتلة، ولا من العجز عن مكافحة التضخم وارتفاع الأسعار، وتراجع الخدمات الأساسية وانهيار البنية التحتية، وضعف مستويات التعليم، واتساع دائرة الفقر، وانتشار الفساد داخل مؤسسات الدولة.
هذا كله لا يصيب نفسية الأمة بالوهن، ولكن يصيبها بالوهن إذا دعا صحافي مثل فايز سارة إلى الإصلاح السياسي والاجتماعي باعتباره “حاجة داخلية وطنية ملحة في سورية منذ عشرات السنين”. أو إذا طالب كاتب مثل ميشيل كيلو باحترام حقوق الإنسان وبإقامة دولة القانون، أو إذا أنشأ مدوّن مثل كريم عربجي منتدى يتبادل أعضاؤه الشكوى من أحوال الزمان.
وتكافح السلطات السورية المرض الذي يصيب نفسية الأمة، فقط عن طريق الاعتقالات. إذ لم يسمع أحد بأي برامج (ولا حتى إذاعية) سياسية أو اقتصادية لرفع معنويات الأمة الهابطة. ولا تقوم السلطات بنشر الوعي ضد “الأنباء الكاذبة” بتقديم الدليل على صدق “أنبائها الصادقة”، من دون الحاجة إلى ابتسامات مزيفة على شاشة التلفزيون لفقراء يتحدثون الرفاه والنعيم الذي يرفلون فيه.
كل مجتمع فيه مشكلات. وكل اقتصاد يعاني من دورات صعود وهبوط. وكل عمل سياسي يستجلب نقدا. وبما أن الكثير من السياسات الحكومية تتعلق بخيارات ومفاضلات، فلا مفر من أنها ستواجه انتقادات من جانب أولئك الذين لديهم خيارات ومفاضلات أخرى.
الجدل والخلاف حول هذه الخيارات لا يثير الوهن. بالعكس، انه يضفي الحيوية على الحياة العامة ويمنح السلطة الفرصة، إذا ما ارتفعت بمقامها قليلا، لكي تجعل من مفاضلاتها شاملة أكثر، ومبنية على بدائل أكثر.
فقط عندما تحاول السلطات أن تخفي أعمالا غير مشروعة، وخيارات خاسرة، ومفاضلات مبنية على الفساد، فإنها تخشى الجدل بشأنها. وتحاول أن تُخرس الأصوات المضادة لكي تتستر على فسادها.
الفساد الحكومي هو الشيء الوحيد الذي يجعل المسؤولين يخافون من النقد ومن الإشارة الى ظواهر سلبية.
فقط “اللي على راسو بطحة” هو الذي “يحسس عليها”!
المسؤول الذي يدرس خياراته، ويكون أمينا بشأنها، لماذا يهرب من الجدل؟؛ والمسؤول الذي لا يجني لنفسه شيئا من تحت الطاولة، لماذا يخاف من النقد؟ والمسؤول الذي يتبع سياسات نزيهة وتتلاءم مع ما يراه من إمكانيات متاحة، لماذا يصاب بالذعر إذا قيل له أن هناك خيارات أفضل؟ لماذا لا يذهب ليتفحصها؟ بل لماذا لا يحول صاحب تلك الخيارات، إذا ثبت أنها دقيقة الحساب، الى مستشار شخصي؟
ولكن عندما يلقيه في السجن، فماذا يقول هذا المسؤول عن نفسه؟
ألا تكشف السلطات، بتصرفها هذا، إنها هي التي تنشر “أنباء كاذبة”، وإنها هي التي تصيب نفسية الأمة بالوهن؟
سوريا، كما غيرها، أعقل من أن تقع ضحية لأطباء نفسيين يحاولون معالجة المرض الخطأ والمريض الخطأ.
أولى بسوريا أن تغلق مستشفى المجانين هذا، لتلفت الى ما هو أهم: معالجة مشكلتها مع الأنباء الصادقة التي تصيب الأمة بالانتعاش أمام كاميرا التلفزيون فقط، بينما الكل يعرف أنها لا تنتج ما يكفي من الكهرباء، وان شوارعها مليئة بالحفر وبالعاطلين عن العمل.
عندما تتسع دائرة الفقر، وعندما تنهار الخدمات الأساسية العامة، وعندما يتراجع مستوى التعليم، وعندما يبدو الأفق السياسي مغلقا، وعندما يصبح التحالف مع الفرس هو “العروبة”، فهذا هو بالضبط ما يصيب نفسية الأمة بالوهن. وآخر مَنْ يمكن أن يوجه اليه اللوم بشأنه، هو هذا المسكين كريم العربجي.
فلا هو، ولا ألف من أمثاله، يستطيعون أن يلحقوا بسوريا الضرر، مثلما يستطيع أن يفعل أصحاب الخيارات الخاطئة في مستشفى الأمراض النفسية التابع لمحكمة أمن الدولة.