ما الجديد في جهاد القرضاوي
راشد الغنوشي
“لم يتعرض مفهوم من مفاهيم الإسلام لسيل عارم متتابع من الإساءات إليه وإلى الإسلام والمسلمين من خلاله كما تعرض له مفهوم الجهاد، وقوعا بين “طرفي الإفراط والتفريط. فهناك فئة تريد أن تلغي الجهاد من حياة الأمة وأن تشيع فيها روح الاستكانة والاستسلام بدعاوى مختلفة كالدعوة إلى التسامح والسلام” يصفهم مؤلف فقه الجهاد “بأنهم “عملاء للاستعمار الذي بلغت عداوته للجهاد إلى حد اصطناع فرق اختلقت لها إسلاما بلا جهاد وجعلت همها الدعوة إليه مثل البهائيين القاديانيين.. وفي مقابل هؤلاء فئة تجعل من فكرة الجهاد حربا ضروسا تشنها على العالم كله، فالأصل عندها في علاقة المسلمين بغيرهم الحرب والأصل في الناس جميعا أنهم أعداء للمسلمين.. ما داموا غير مسلمين. (129)
وقد يلتقي هؤلاء الأخيرون مع بعض المستشرقين المتحاملين الذين عرفوا الجهاد كما هو في دائرة المعارف بأنه “نشر الإسلام بالسيف، فرض كفاية على المسلمين كافة وكاد الجهاد أن يكون ركنا سادسا” (ماكدونالد، دائرة المعارف الإسلامية. الترجمة العربية (ص2778)
1- تعريف الجهاد ومراتبه: ويتصدى المؤلف لهذا الغلو بطرفيه من خلال التحليل اللغوي لمادة الجهاد وتدور حول بذل الوسع، ومن خلال تتبع ورودها في القرآن والسنة ولدى فقهاء الإسلام، لينتهي إلى تفريق واضح بين الجهاد والقتال، فلقد ورد الأمر بالجهاد في القرآن المكي حيث لم يكن قتال بل مجرد جهاد دعوي بالقرآن “وجاهدهم به جهادا كبيرا” (الفرقان/52) كما ورد في القرآن والسنة وفقههما بمعان عدة تدور حول بذل الوسع في مجاهدة العدو ومجاهدة الشيطان ومجاهدة النفس، وهو ما يجعل الجهاد أوسع من القتال، فالجهاد كما نقل المؤلف عن ابن تيمية يكون بالقلب والدعوة إلى الإسلام وإقامة الحجة على المبطل، والرأي والتدبير فيما فيه نفع للمسلمين، والجهاد بالبدن وهو القتال”.
ويستعين المؤلف بالعلامة ابن القيم تلميذ ابن تيمية في الشهادة لتوجهه وتجلية مجالات الجهاد الواسعة التي تجعل من كل مسلم بالضرورة مجاهدا وليس مقاتلا ولا بد. ولقد توصل ابن القيم من خلال متابعته لمسار الدعوة الإسلامية إلى ضبط 13 مرتبة من مراتب الجهاد
1- جهاد النفس وفيه أربع مراتب: جهادها على تعلم الهدى، وجهادها على العمل به، وجهادها على الدعوة إليه، وجهادها على الصبر على ذلك.
2-جهاد الشيطان، وهو مرتبتان جهاد ما يلقيه من شبهات قادحة في الإيمان وجهاد ما يدفع إليه من شهوات ومفاسد.
3-جهاد الكفار والمنافقين وهو أربع مراتب بالقلب وباللسان والمال والنفس.
4- جهاد الظلمة والفساق وهو ثلاث مراتب باليد إذا قدر فإذا عجز فباللسان فإذا عجز فبالقلب.
ويعتبر المؤلف أن الجهاد ضد الظلم والفساد في الداخل مقدّم على جهاد الكفر والعدوان الخارجي، إلا أنه يؤكد أن المواجهة السلمية هي الأصل في الوقوف في وجه الظالمين “مستفيدين مما طور الآخرون من صيغ معقولة في مواجهة سلاطين الجور مثل البرلمانات المنتخبة والأحزاب والفصل بين السلطات”. (198)
كما يؤكد أهمية الجهاد الفكري والثقافي بإنشاء مراكز علمية إسلامية متخصصة تضم نوابغ الشباب المتفوقين في عقولهم وإيمانهم وإعدادهم فكريا وعلميا إعدادا يجمع بين تراثنا وبين ثقافة العصر.. لا ندعو إلى عزلة عن العالم بل إلى تفاعل ثقافي وحضاري، نأخذ منهم وندع وفق فلسفتنا ومعاييرنا كما أخذوا هم عنا قديما واقتبسوا وطوروا وبنوا عليها حضارتهم، ولكن ما نأخذ نضفي عليه من روحنا ومن شخصيتنا ومواريثنا الأخلاقية ما يجعله جزءا من منظومتنا الفكرية والقيمية الحضارية وتفقده جنسيته الأولى. (190 وما بعدها)
وبالعموم: يتوصل المؤلف من خلال استقرائه لفقه الجهاد في الإسلام إلى أن الجهاد نوعان: جهاد مدني وجهاد عسكري بمعنى قتال الأعداء إذا اعتدوا على المسلمين بالقوة، ما يقتضي الاستعداد لذلك عندما تتوفر دواعيه وهو نوع تعنى به الدول. وهناك الجهاد الروحي المدني ويشمل المجال العلمي أو الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والتعليمي التربوي والمجال الصحي والطبي والمجال البيئي والمجال الحضاري.
هدف هذا الجهاد المدني بذل الجهد في سبيل الله من أجل تعليم الجاهل وتشغيل العاطل وتدريب العامل وإشباع الجائع وكسو العاري وإيواء المشرد ومداواة المريض وتوفير الكفاية لكل محتاج وبناء المدرسة التي تسع كل تلميذ والجامعة التي تسع كل طالب والمسجد لكل متعبد والنادي الذي يمارس فيه هوايته كل محب للرياضة. (215)
2- أهداف الجهاد: الإسلام دعوة إلى السلم ويكره الحرب ولكنه لا يستطيع منعها ولهذا يستعد لها ولا يخوضها إلا إذا فرضت عليه، وذلك من واقعيته وإقراره بسنة التدافع لكنه عمل على الحد من كوارثها وإحاطتها بأسوار من شرائع وأخلاقيات. ولم يكن الإسلام استثناء في إقراره بحرب الضرورة، من الديانات الأخرى ومنها الديانة المسيحية التي كان أتباعها أكثر أصحاب الديانات صراعا وحروبا فيما بينهم وبين غيرهم.
ورد في إنجيل لوقا “جئت لألقي على الأرض نارا. أتظنون أني جئت لألقي السلام على الأرض؟” وفي أسفار العهد القديم دعوات متكررة للإبادة، فقد تعرضت سبعة شعوب كانت تسكن فلسطين لحروب إبادة لتطهير الأرض منها تطهيرا كاملا “إذا عبرتم الأردن وأنتم داخلون أرض كنعان فأبيدوا كل سكان تلك الأرض” (الباب الثالث من سفر العدد) ليس لتلك الشعوب التي أمر الرب شعبه المختار -بزعمهم- بإبادة كل نسمة فيها وتحريق مدنها من ذنب غير وجودها في الأرض الموعودة، وما اقترفته العصابات اليهودية الحديثة في فلسطين من مذابح و”ترانسفير” صورا مخففة منها.
للجهاد في الإسلام أهداف محددة لخصها القرضاوي في رد العدوان ومنع الفتنة أي تأمين حرية الدعوة وحرية التدين للمسلمين ولغيرهم وإنقاذ المستضعفين في الأرض وتأديب الناكثين للعهود وفرض السلام الداخلي في الأمة. قال تعالى: “وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصًلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله” (الحجرات/8) وإذن فليس التوسع والاستيلاء هدفا للجهاد المشروع ولا محو الكفر من العالم، فذلك مناف لسنة الله في التدافع والاختلاف، “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم” (هود/117-118) وليس من هدف الجهاد فرض الإسلام على من لا يؤمن به فذلك مناف أيضا لسنة الله في الاختلاف والتعدد وما خوله الله سبحانه للإنسان من حرية ومسؤولية. “لا إكراه في الدين” (البقرة/256). (423 وما بعدها)
3- أخلاقيات الجهاد: الحرب في الإسلام أخلاقية مثل السياسة والاقتصاد والعلم والعمل فكلها لا تنفصل عن الأخلاق خلافا للحرب في حضارة الغرب ليس من اللازم أن تنضبط بالأخلاق. يحكم الحرب عند المسلمين دستور أخلاقي، لأن الأخلاق هنا ليست نافلة بل جزء من الدين. ومن ذلك:
أ- تحريم الإسلام استخدام الأساليب غير الأخلاقية لاختراق الأعداء والاطلاع على أسرارهم عبر المحرمات كالجنس والخمر لاستدراج القائمين على تلك الأسرار.
ب- منع العدوان “وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين” (البقرة/190) وفسر الاعتداء بقتل غير المقاتل أو قتل النساء والأطفال والشيوخ والزمنى وأمثالهم ممن لا يباشر القتال كالفلاحين. (ص728). ومن أخلاقيات الجهاد تحريم المثلة بالعدو.
ج- الوفاء بالعهود وتحريم الغدر والخيانة “وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا” (الإسراء/33).
د- لا مشروعية إسلامية لاستخدام ما يسمى بأسلحة الدمار الشامل كالأسلحة الكيمياوية والجرثومية والنووية التي تقتل الألوف والملايين دفعة واحدة وتأخذ المسيء بالبريء وتدمر الحياة والأحياء، هذه الأسلحة يحرم الإسلام استخدامها لأن الأصل في القانون الإسلامي أنه لا يجوز قتل من لا يقاتل, وقد أنكر النبي عليه السلام قتل امرأة في إحدى المعارك، لكن ذلك لا يمنع الأمة بل يوجب عليها السعي لامتلاك هذه الأسلحة الرادعة ما دام غيرها يمتلكها ويمكن أن يهددها بها، ولا سيما أن العدو الصهيوني الذي اغتصب أرضها أمسى يمتلكها وأنه يجد في سفر التثنية ما يجيز له في البلاد القريبة أن لا يبقي فيها نسمة.
وأعجب ما في الأمر أن تمتلك أميركا والدول الكبرى هذه الأسلحة ثم تحظر على الآخرين امتلاكها. تمنعها عن البلاد العربية والإسلامية بينما إسرائيل تمتلك أكثر من مائتي قنبلة نووية. ولقد أسهم الردع المتبادل بين المعسكرين الغربي والشرقي في تحقيق السلام العالمي وكذا حصل بين الهند وباكستان. لا يجوز استخدام هذه الأسلحة إلا في حالة الضرورة القصوى، حيث تتعرض الأمة لخطر وجودي. (ص 592)
هـ- ومن أخلاقيات الإسلام دعوته المجاهدين إلى إحسان معاملة الأسرى. “ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا” (الإنسان/8-9). وبعد مناقشة مستفيضة للنصوص الواردة ولمختلف الاجتهادات حول الحكم في الأسير وخصوصا هل يحل قتله؟ انتهى إلى اعتبار أن الحكم النهائي هو الذي ورد في سورة القتال “فإما منّا بعد وإما فداء” (القتال/3) وقد يستثنى من ذلك مجرمو الحرب.
وعموما يقر القرضاوي ما ورد في مواثيق جنيف في شأن التعامل مع الأسرى. وبذلك يعبر القرضاوي عن سعادته بتطور البشرية في هذا الجانب -ولو على الصعيد النظري- في الاتجاه الذي دعا إليه الإسلام واجتهد في تطبيقه منذ 14 قرنا.
لقد أكد القرضاوي أن للحرب في الإسلام دستورا تنضبط به، استخلص من نصوص الكتاب والسنة وديوان تجربة الجهاد مواده فكانت كالتالي:
المادة الأولى: لا يجوز قتل النساء والأطفال والشيوخ.
المادة الثانية: لا يقتل العميان والزمنى ولا الرهبان ولا الفلاحون ولا الصناع ولا التجار.
المادة الثالثة: يحرم قتل المدنيين الذين ليسوا من أهل المقاتلة والممانعة.
المادة الرابعة: لا يجوز التمثيل بجثث القتلى من الأعداء.
المادة الخامسة: لا تهدم منازل المحاربين ولا تحرق محاصيلهم وزروعهم ولا تقتل دوابهم لغير مصلحة.
المادة السادسة: الرحمة بالأطفال والصبيان فلا يجندون للحرب إلا بعد بلوغهم وقدرتهم على القتال. (ص1167)
وكل ذلك يشهد على أن الجهاد هو من طبيعة سياسية تفرضها ضرورات الدفاع عن دار الإسلام بصد المعتدين عليها والدفاع عن المسلمين أن يفتنوا عن دينهم وعن المستضعفين عامة، فليس فرضا على المسلمين أن يقاتلوا الكافرين حتى يدخلوهم في الإسلام أو يخضعوهم لسلطانه طوعا أو كرها، فهو من قسم المعاملات وفقه السياسة الشرعية وليس هو من جنس فقه العبادات كالصلاة والصيام.. ومطلوب من المسلمين إذا اضطروا إليه أن يقدموا عليه متوكلين على الله بنيّات خالصة في ابتغاء وجهه سبحانه، ملتزمين بأخلاقيات ثابتة لا يحيدون عنها “فالجهاد إذا كان مشروعا وصحت فيه النية والتزمت فيه حدود الله وأخلاقيات الإسلام يعد من أعظم ما يتعبد الله به ويتقرب إليه (ص62) وذلك على غرار كل نشاط يقوم به المسلم سياسيا كان أم اقتصاديا سلميا كان أم حربيا.
قال تعالى”قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين” (الأنعام/161-162).
الجزيرة نت