ثقافات متعارضة
نظام مارديني
بالأمس حلت الذكرى الثامنة لأحداث 11 أيلول 2001. وبداية، لا بد من القول أن هذه الأحداث وتداعياتها شكّلت منذ لحظة وقوعها، وما زالت، الأمر الأهم في المشهد السياسي العالمي، ويكمن السبب في أنها أحدثت أثراً بعيداً وعميقاً في العلاقات الدولية، إلى درجة دفعت بعض المتخصّصين بالقضايا الاستراتيجية إلى القول: بأن معالم “علاقات دولية جديدة” بدات تتبلور، وأن عمقاً جديداً لما يسمى بـ”النظام الدولي الجديد” بدأت غماره وتداعياته على نحو مفصلي وتاريخي ونوعي. ومن هنا ضرورة فهم هذا الحدث/ الزلزال ليس في راهنه، وإنما في تداعياته البعيدة المدى، واستحقاقاته الاستراتيجية التي أصابت بسهامها الإسلام ببعديه: الأصولي والليبرالي.
وتلك السهام، إنما جرى التمهيد لها قبل أحداث الحادي عشر من أيلول بسنين عديدة. أي عشية سقوط الاتحاد السوفييتي، وعبر نظريات فكرية “لقد انتهت الشيوعية، ولم يبق إلا الإسلام”، يقول جورج بوش الأب في عام 1991، باعتباره الخطر الأكبر على الحضارة الغربية، وما أنتجته من أنماط سياسية وثقافية واجتماعية خاصة، منها الديمقراطية وحقوق الإنسان. وبهذا المعنى استهدفت الحملة تقديم صورة مغايرة لحقيقة الإسلام للرأي العام الغربي، من خلال تصويره كدين للإرهاب والحروب والقتل والعبودية، الذي يرفض الديمقراطية، ويقمع الحرية، ويحمل في ثناياه الشر بكل أنواعه للغرب وحضارته”.
في البداية، كانت معظم المؤشرات تدل على أن اليد العليا ستكون للحرب.
فالهستيريا الأولية في الغرب ضد الحضارة الإسلامية (برلوسكوني في ايطاليا، وبعض الكهنة في النمسا)، قابلتها هستيريا مقابلة في الشرق لم تقتصر فقط على أسامة بن لادن وصحبه، بل طاولت أيضاً قطاعات من الشارع والنخب العربية. وقد ربطت هذه الأطروحات بين غياب الديمقراطية ورفضها، وتنامي ظاهرة الإرهاب في العالم الإسلامي، والشعور بالحقد والكراهية للولايات المتحدة والغرب والكيان الاستيطاني في فلسطين المحتلة، لهذا قالوا: “لم يعد الصراع الدولي اليوم صراع إيديولوجيات، بل هو صراع “حضارات”. فأطلقوا نظرية “صدام الحضارات”، المؤسسة على التصادم الحتمي بين الغرب والإسلام، بسبب ما تحمل كل “حضارة” من ثقافات متعارضة مع الأخرى. وقد جرت تعبئة إعلامية وثقافية، معادية للعالمين العربي والإسلامي، وشنّت حملة من التحريض المنظّم في وسط الرأي العام الغربي على الإسلام ومرتكزاته الفكرية والثقافية وبناه التعليمية. ومثل هذه الأجواء المشحونة دفعت مجلة رزينة كـ”الأيكونوميست” إلى الخروج في إحدى المراحل عن طورها، لتوجه تهديداً مباشراً إلى العرب والمسلمين “إذا ما كنتم مصرين على حرب الحضارات، فلتكن هذه حرب حضارات، وليربح الأقوى”.
إن نظرية “صدام الحضارات” التي طرحها صموئيل هنتنغتون، إنما استهدفت قبل وقوع أحداث الحادي عشر من أيلول، “تهيئة الرأي العام العالمي عامة، والغرب خاصة ذهنيا، لوقائع قادمة ضد الغرب من قبل المسلمين. لهذا جرى قبل الأحداث، تحويل النظرية إلى أشكال من الممارسة والتطبيق، بغية ترسيخ فكرة العداء الإسلامي للغرب، من خلال تصنيع مجموعات وتنظيمات إرهابية في دوائر المخابرات الأميركية والعربية “المعتدلة” والموساد، تلبس لبوس الإسلام، لأن أفرادها ينتمون إلى الإسلام، لتقوم بممارسة أنواع من الإرهاب البشع والمرفوض إنسانيا، حتى اكتملت الصورة المشّوهة عن العروبة والإسلام، وذلك من خلال الربط بينهما، لدى الرأي العام الغربي.
إن هنتنغتون، الذي يعتبر من أهم مفكري الغرب والولايات المتحدة، إنما كان المنظّر الأكبر لمرحلة ما قبل أحداث الحادي عشر من أيلول، إذ “يرى أن الصراع، لن يكون إيديولوجياً كما كان في السابق، أيام الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، ولن يكون الصراع طبقيا بين الفقراء والأغنياء، كما كان في القرن الماضي، ولا اقتصادياً أو اجتماعياً، بل صراعاً ثقافيا”. وفي هذا يعتبر هنتنغتون أن الإسلام هو العدو الرئيسي للحضارة الغربية، كونه يرفض ما أسماه بـ “الغربنة”.
مسلمو القرن الحادي والعشرين يمرّون في مرحلة انتقالية مريرة. لكنهم بدأوا يخرجون منها، والإسلام الليبرالي هو وسيلتهم للامساك بالامور، فالليبرالية في الإسلام والليبرالية في الغرب تتقاسمان عوامل مشتركة، لكنهما ليستا الشيء نفسه.
وكما هو معروف، الحركات الاصولية نمت كالفطر عالمياً طيلة ربع القرن المنصرم. واحدى المميزات الحاسمة لهذا الاهتمام المتجّدد بالاصولية هي الفكرة بان في وسع المرء الادعاء بان ثقافته مستقّلة ومعزولة ومتفوّقة على الثقافات الاخرى، كما ان لها حدوداً واضحة.
ولأن الإسلام الليبرالي له اهتمامات مشتركة مع الليبرالية الغربية، فان الاصوليين لا يعتبرون اجتهاداته “أصيلة” أو إسلامية. وبالطبع مثل هذه المعارضة تتجاهل التاريخ الطويل من الاستعارات الثقافية والنفوذ الفكري الذي عبر الحدود في اتجاهين بين الإسلام والغرب.
والحال أن إدانة الإسلام الليبرالي بأنه غير أصيل، تقود مباشرة إلى رفض التسامح معه، سواء كان على حق أو باطل. وهكذا يصف الاصوليون الإسلام الليبرالي بانهم “العم طوم” وهو تعبير يستخدمه الأميركيون الافريقيون لوصف الشخص الاسود الخانع أمام الرجل الأبيض.
إضافة، الى ان الجهل الغربي فرض تحدياً آخر على الإسلام الليبرالي. فلقرون عدة طوّر الغرب صورة عن الإسلام بوصفه “الآخر” السيئ والشرير. وقد تمت مطابقة الايمان الإسلامي مع التعصب، كما مع فولتير، والسلطة السياسية الإسلامية مع الاستبداد، كما مع تعبير “الاستبداد الشرقي” الذي وضعه مونتسكيو، والتقاليد الإسلامية مع التخلف والبدائية، كما مع ارنست رينان الذي قال: “إن الإسلام هو النفي الكامل لأوروبا. وهو مناف للعلم وقامع للمجتمع المدني. إنه البساطة السامية الساذجة التي تقيّد العقل وتقفل على كل الافكار الرقيقة وكل البحث العقلاني”. وبالطبع يتعين على الغرب وضع هذا التحيز جانباً، كما يجب أن يفهم بشكل أفضل الفروقات داخل الحركات الإسلامية. فقد كان عجز الغرب عن الايمان بان ثمة شيئاً اسمه الإسلام الليبرالي كارثة محققة.
المستقبل