هل حقا اختفت الطبقة الوسطى ؟
ميشيل كيلو
يكرر كثير من المفكرين والاختصاصيين العرب ، من ذوي التاريخ الماركسي أو القومي ، أطروحة ترى أن الطبقة الوسطى العربية اختفت أوهي في طريقها إلى الاختفاء ، نتيجة تحولات اجتماعية وسياسية وثقافية عرفتها معظم البلدان العربية خلال نصف القرن المنصرم ، بل إن عالم اقتصاد مرموق كالأستاذ رمزي ذكي أصدر كتابا حول هذا الموضوع وضع له عنوانا صارخا هو : وداعا للطبقة الوسطى .
ومع أن معظم من يتحدثون عن اختفاء الطبقة الوسطى ، أو حتى عن تبدل أو تقهقر دورها هم من المنتسبين النشطين إليها ، فإنهم يفسرون بما حدث لها تقهقر وتراجع العرب في الحقبة القريبة الماضية ، ويتجاهلون أن تشخيصهم يقفز عن حقيقة جوهرية هي أن اختفاء الطبقة الوسطى من شأنه أن يفضي إلى اختفاء المجتمع ذاته ، لما لها من وزن عددي فيه ، ولأنها الطبقة الأكثر علما ومعرفة وعملا وحراكا بين طبقاته ، أقله في بلداننا ومجتمعاتنا ، التي لم تعرف ثورة صناعية ، ولم تنقسم إلى برجوازية فوق وعمال تحت ، وإنما اكتفت ببلورة بروز صغير ثري في جانب منها ، وكم بشري فقير هائل العدد في الجانب الآخر ، بينهما ‘طبقة وسطى’ تتألف من مراتب وفئات متنوعة ، تضم عددا كبيرا من فقراء هذا الكم البشري الهائل ، منه على سبيل المثال لا الحصر الفلاحون الفقراء والمتوسطون وشرائح مدينية كثيرة، فيها كل من لا يستمد دخله من مصادر تتصل برأس المال أو بالعمل المأجور في الصناعة ، فهي إذن النسبة الأكبر من الشعب ، حتى أن بعض الدارسين والخبراء يعتقدون أنها تشكل حوالي70′ / 80′ من المجتمع السوري، إن نحن أخذناه كمثال .
لم تختف الطبقة الوسطى ، وليس بوسعنا أن نقول لها وداعا ، وإن كانت قد عرفت تحولات مهمة خلال الحقبة التالية للاستقلال وتكون الدول ‘ الوطنية ‘ أفضل وصفها بالمحلية – ، في أعقاب الحرب العالمية الثانية . وإذن ، فإن من الأجدى البحث في هذه التحولات ، عوض البكاء على زوال طبقة يعادل اختفاؤها اختفاء المجتمع ، وهو أمر لم يحدث بعد ، مع أن المجتمع العربي تعرض بدوره ، خلال الفترة ذاتها ، لتطورات بدلت طابعه تبديلا شديدا ، من الضروري أن تكون محل دراسة وتدقيق ، وإلا استحال خروجنا مما نحن فيه من احتجاز ، وشق طريقنا إلى خارج النفق ، الذي نتخبط فيه .
في نصف القرن الماضي ، شهدت الطبقة الوسطى تبدلات مهمة غيرت موقعها من الدولة والمجتمع : سياسيا واقتصاديا وثقافيا .
سياسيا : ما أن وصل العسكر إلى الحكم في بعض الدول العربية ، بعد هزيمة فلسطين الأولى ، حتى قرروا إخراج الطبقة الوسطى من السياسة ، لاعتقادهم أن ذلك سيكفل استقرار واستمرار نظامهم ، الذي تهدده أنشطة هذه الطبقة دون غيرها ، ما دامت البرجوازية والطبقة العاملة لا تملكان الوزن والحضور السياسي اللازمين لتهديده ، وتفتقران إلى برنامج يمكن أن يستقطب فئات وشرائح كبيرة من المجتمع ، يستطيعان بمعونتها قلب الأوضاع القائمة أو ممارسة ضغط فعال عليها . بما أن الطبقة الوسطى تمثلت ، في حقبة ما قبل العسكر ، في أحزاب سياسية متنوعة البرامج والأهداف ، فإن هؤلاء عملوا على خطوط ثلاثة متداخلة : احتواؤها وربطها بهم من جهة ، أو ملاحقتها وقمعها من جهة ثانية ، وأخيرا إبقاء جمهورها العريض ، غير المنخرط في الحياة السياسية ، بمنأى عن الشأن العام ، كي لا يبدل انخراطه فيه معادلات السلطة والدولة ، ويشكل خطرا جديا بالنسبة إلى الأمر القائم . هذه الخطوط الثلاثة تقاطعت عند مسألة جوهرية هي الحيلولة بين المثقفين ، باعتبارهم خطأ أم صوابا – ضمير الطبقة الوسطى ، وبين بلورة مشاريع أو خطط تغريها باستعادة الانهماك في الشأن العام ، وتحديدا منه الشأن السياسي ، من خلال تزويدها ببرامج من خارج ما هو سائد ، تستخدم لغة وأفكارا غير تلك المستعملة في المجال الأيديولوجي الرسمي ، يمكن أن يؤدي استخدامها إلى اضطراب معادلاته ، وخلق جو إن تطور تحول إلى حاضنة تغيير يبدل علاقات وتوازنات الداخل ، سواء منها علاقات وتوازنات السلطة والمجتمع ، أم علاقات وتوازنات السلطة . بقول آخر : إن ‘إسكات ‘المثقفين ومنعهم من ممارسة التفكير والنشاط بدلالات مجتمعية ، أو سياسية هو أحد مفاتيح استقرار الأمر القائم ، وسبيل من سبل إبقاء الطبقة الوسطى خارج السياسة كفاعلية مباشرة هدفها تغيير الشأن العام الكلي أو ممارسة تأثير مقرر فيه .
اقتصاديا : عوض العسكر الطبقة الوسطى ، أو بالأصح شرائحها العليا ، في الاقتصاد عن ما خسرته في السياسة ، ومنحوها دورا اقتصاديا أتاح لها المشاركة في نهب المجتمع ، وفتح أمامها سبل الثراء على حساب أغلبيته العاملة والفقيرة . حدث هذا من خلال وضع موارد الدولة في متناول شرائح من هذه الطبقة ، كفلت ربطها بالنظام وعززت استقراره ، وحالت بينها وبين الانحياز إلى المجتمع ، الذي حرم بذلك من خبراتها وأدوارها . هذا الدور الاقتصادي ، الطفيلي أساسا ، صار شكل حضور الطبقة الوسطى في الحياة العامة ، وبديل دورها السياسي الممنوع ، فمن غير المنطقي أن يقال : وداعا للطبقة الوسطى ، ما دامت تلعب دورا اقتصاديا جديدا ومهما ، له آثار خطيرة على الصعيدين الاجتماعي والسياسي ، لم تكن تلعبه في الماضي ، حين كان ‘النظام القديم ‘موزعا بين أثرياء المال والأرض ، الذي أسمته الرطانة التقدمية الشيوعية والقومية – نظام ‘البرجوازية والإقطاع ‘. إذا كانت الطبقة الوسطى قد خسرت دورها السياسي مع العسكر ، الذين اعتبروا وجودها في حقل السياسة مصدر الخطر الوحيد عليهم ، فإنها استعادت جزءا ، غير مباشر غالبا ، من هذا الدور ، عبر مغانم اقتصادية حصلت عليها ، مع ملاحظة أن هذا الجزء يتعين بدلالة النظام ومصالحه ، فلا يجوز أن يكون مستقلا ، حتى بمعنى نسبي عنها ، ويجب أن يبقى تابعا وجزئيا . في مقابل الافتراق السياسي ، قامت وحدة حال حقيقية وفعالة بين شرائح عليا متنوعة من الطبقة الوسطى وبين النظام السائد ، أرضيتها مشتركات اقتصادية تلبي حاجته إلى الاستقرار السياسي وحاجتها إلى الثروة ، ومن البديهي أن هذه ما كان يمكن أن تلبي في إطار المصالح الحقيقية للدولة والمجتمع وللشعب العامل والمحروم . بكلام آخر : إذا كان خروج الطبقة الوسطى من السياسة يمثل شرطا لازما لاستقرار النظام ، فإن دخولها إلى المجال العام من بوابة الاقتصاد هو شرطه الثاني ، ما دام يتم ويتعين تحت إشراف النظام وبفضله . هذا الدور يشعر الطبقة الوسطى أنها لم تفقد شيئا يستحق العراك مع النظام ، وأنها كسبت مكانا في السلطة ، تأمل أن توسعه وتحوله من مكان هامشي إلى موقع مقرر ، بقدر ما تتزايد ثروتها ويتعاظم وجودها لاقتصادي وثقلها الطبقي داخل نظام صار بدوره ضروريا لاستمرارها وإضفاء الشرعية على ثرواتها ، غير الشرعية في أغلب الحالات .
ثقافيا : هذا مجال واسع جدا ، سيكون من الصعب التحدث فيه تفصيليا في هذه العجالة . باختصار : مع انطفاء الرغبة في الاحتجاج ، وتلاشي القدرة عليه لدى ‘البرجوازية’ والعمال ، والشرائح العليا والمتوسطة من الطبقة الوسطى ، وبإغلاق سبل التواصل السياسي بين المواطنين عامة ، يلعب المثقفون دورهم بالنيابة عن مجتمع غائب لم يفوضهم التحدث باسمه ، مع أنهم سعوا إلى ذلك ، أو توهموه . بذلك ، بدا نشاطهم وكأنه خروج على السائد ، وعبرت إبداعاتهم ، أكانت أدبية أم فكرية أم سياسية ، عن هذا الخروج ‘ الاحتجاجي أو الثوري ‘ ، لأن مجرد وجودها كان يعني انتهاك محرمات وتخطي خطوط السياسات الرسمية الحمراء ، التي لطالما رأت في الدعاية للنظام وفي تعميم أيديولوجيته ، التي تزايد فقرها واكتسبت طابعا شعاراتيا / شعبويا تعاظم من يوم لآخر ، بديلا للثقافة ولما تحمله وتضمره من حيوية مجتمعية لطالما اعتقد النظام أنه أخمدها ، وأن كبتها والتخلص منها ضروري بأي ثمن ، وفي جميع الظروف والأحوال . الثقافة هي ، في حالتنا العربية ، طائر ضليل يغرد خارج سرب الأمر القائم ، وتتمرد بحكم طبيعتها ذاتها على قوانينه ، وتتذمر من حساباته أو تناهضها ، بينما تمارس الصعلكة والتحدي والدونكيشوتية رغم ضعفها وانقطاع صلاتها بالمجتمع الواسع وتعرضها رموزها للإهمال أو للاضطهاد ، وتشويه سمعتها وعزوها إلى أعداء يعملون لزعزعة الاستقرار تارة ، وموتورين يقوضون أمن المجتمع ويخربون علاقة النظام مع شعبه الراضي، الذي يعبر عن رضاه بصمته . المثقفون هم أصل الداء وسبب البلاء ، فلا بد من إبقائهم تحت العين وفي متناول اليد ، ولا تهاون في قطع أية روابط قد تقوم بينهم وبين الشعب ، أو بينهم وبين هذا القطاع أو ذاك من قطاعاته ، وإلا اختلت الموازين وفتحت من جديد الصفحة ، التي تم طيها قبل نصف قرن .
هل يمكن الحديث هنا عن اختفاء الطبقة الوسطى ؟. أعتقد أنه سيكون من الخطأ تأكيد هذا الاختفاء ، فالطبقة الوسطى ، كما تتمثل في مثقفيها ، هي الفاعل الغائب ، لكنه المرشح دوما للحضور ، عقب واحدة من أزمات النظام الكثيرة ، أو خلال واحدة منها . إنها القوة ، التي يراهن المثقفون على إحيائها واستنهاضها وإعادتها إلى المجال السياسي ، لاعتقادهم الصائب أنها قوة تغيير وعدالة وحرية .
ليس القول باختفاء الطبقة الوسطى صحيحا ، وإلا كنا كمن يقول باختفاء المجتمع . ومن الضروري ، بدل توجيه تهمة غير صحيحة إلى النظم تحملها مسؤولية اختفاء هذه الطبقة ، أن يتلمس المثقفون سبلا وأفكارا من شأنها إعادتها إلى دورها المأمول ، الذي يتوقف عليه ، دون أي شك ، مصيرنا الفردي والجماعي .
القدس العربي