عن تسييس التدوين وهراء النمطية.. محاولة توضيحية
“ورغم أن كل رياح المذاهب قد انطلقت من عقالها لكي تهب على الأرض، حتى تصبح الحقيقة في الميدان، إلا أننا نسيء فهم قوتها، نجرحها بالتقنين تارة، والمنع تارة أخرى..”(1).
الإنسان بطبعه كائن اجتماعي ولا يمكن له – بطبيعته البشرية – العيش منعزلاً عن أقرانه، إن حاجة العيش ضمن مجتمع يضم أفراداً آخرين يحتاج إلى آلية للتواصل معهم للتعبير عن النفس والحاجات والأفكار والآراء والنظريات التي تسهم في تطوير هذا المجتمع وبالتالي سينعكس هذا التطور على الفرد نفسه.
آلية التواصل هذه تشبه إحدى بروتوكولات أنظمة الشبكات في الحواسب إذ كيف يمكن لحاسوب أن يتحدث مع آخر دون أن يكون هناك لغة ما يفهمها الطرفان وقانون يؤطّر هذا التواصل ويسمح لكل طرف بإرسال البيانات ضمن فترة محددة وحجم محدد ويضع الخطوط العريضة لآلياته وأساليبه وإلا ستعمّ الفوضى.. ولأننا نستطيع قياس الأمر على الإنسان أيضاً من هنا كانت اللغة والحديث والكلام – والتعبير بشكل عام بالطرق المختلفة -.. هي أداة الإنسان للتواصل مع الآخرين.
“إن حرية الكلام شيء يتوق له الإنسان، وهو شوق ملح وبإصرار، وظاهرة عالمية. إن الكلام قد يكون من النوع الذي يرفع الروح المعنوية، ويؤدي إلى المعرفة والتنوير، وخاصة عندما يكون كلاماً عميقاً يتسم بالجدية. ولكن الكلام غالباً ما يكون مثيراً للخزي، وتافهاً. والكلام قد يكون مجرداً وغير واضح، ونظرياً. وهو يكاد يكون ابن عم الفكر، ولكنه غالباً ما يكون محدداً ومباشراً، وحافلاً بنداءات تحفز على التصرف، أو ملتفاً بحسن السلوك. والكلام قد يكون معقولاً، أو نابعاً من تفكير عميق، ومنظماً وناعماً. ولكنه غالباً ما يكون عاطفياً فوضوياً وخشناً، ومثيراً للغيظ والانزعاج. والكلام قد يؤكد ويثبت شيئاً وقد يكون كلاماً وطنياً ويساند القيم السائدة والنظام، غير أنه قد يكون أيضاً باعثاً على التحدّي، ومنذراً، ومغرياً، وقد يصل إلى حدّ الدعوة للخيانة”..(2)
انطلاقاً من هذا النزوع البشري للحديث والتعبير عن الذات وأهميته كانت أن نشأت ثقافة التدوين كإحدى أساليب الحديث وتبادل الآراء مع متصفحي العوالم الافتراضية (التي لم تعد افتراضية على الإطلاق وسنتحدث عن ذلك في تدوينة مستقلة).. وانتشرت كطفرة بسرعة مذهلة خلال سنوات قليلة مقارنة ببقية أدوات التعبير من تلفزيون وراديو وصحافة.. الخ(3)..
إن التعريف العام “للتدوين” الذي ذهب إليه لأول مرة “جورن بيرغر” Jorn Barger(4) أواخر التسعينيات لا يختلف كثيراً عن المتعارف عليه في هذه الأيام ولعلّ من أشمل التعريفات التي وجدتها هي ما ذهبت إليه بلوغر blogger خدمة التدوين المقدمة من غووغل حيث تقول:
“التدوين هو عبارة عن مذكرات شخصية أو ملاحظات شخصية – لستُ بارعاً بالترجمة -، حديث يومي، عمل تعاوني، منبر سياسي، مؤسسة إخبارية، مجموعة من الروابط، أفكارك الخاصة.. ملاحظات إلى العالم.. الخ..”.
لعلّ الخلاصة الأهم في هذا التعريف تأتي في نهايتها حيث يقول التعريف: “مدوّنتك هي أي شيء تريده أنت أن تكون هي“.. ترجمة للنص: “Your blog is whatever you want it to be”(5).
* * *
خلال بحثي عبر مواقع الانترنت لإيجاد أي تعريف محدّد للتدوين يرسم إطاراً معيناً له ويحدّد ماهيته بدقّة لم أجد موقعاً واحداً يملك الجرأة على رسم هذه الحدود، لا لأن الموضوع يتعلق بالجرأة وعدمها أو بسبب قلّة المعلومات المتوفرة على الشبكة أو بسبب قصور الباحثين في شؤون الشبكات الاجتماعية والمواقع التفاعلية.. بل الأمر كلّه يتعلّق بأن “لا حدود” معروفة للتدوين حالياً(6).
قرأتُ في مدونة متابعات عقبة رأيه الشخصي حول التدوين منذ فترة، وقرأتُ اليوم رؤيوية عمر مشوح صاحب مدونة المرفأ حول التدوين وهدفيته وقبل فترة مررتُ على مدونة متر الوطن بكام لهيثم أبو خليل الذي شنّ هجوماً حادّاً على المدونات التي تدعم الأنظمة الحاكمة .. ومررت أيضاً بالكثير من المدونين الآخرين الذين يتداولون تعاريف براغماتية بحتة للتدوين.
من الواضح أن هناك كم هائل من التشويش والضبابية حول ماهية التدوين لدى الكثيرين – سواء مدونين أو قرّاء مدونات -، وخلط واضح للتدوين كـ”تدوين” بالمعنى المتعارف عليه في التعاريف أعلاه وبين الأسس الإنسانية العامة ولا شك في هكذا أجواء أن يتوه المدوّن المستجد القادم إلى عالم التدوين ما بين الكتابة كما يُريد هو أو الكتابة كما “يُراد” له أن يكتب.
أودّ أن أطرح هنا عدة تساؤلات بسيطة، وأودّ أن أعرف نواحي القصور في جميع الإجابات البسيطة حتى نميط اللثام عن كل هذا الضجيج حول المفهوم:
– أنا أدوّن عن ذكرياتي مع أصدقائي هل أعتبر مدوّناً؟
– أنا أحب الحزب الحاكم وأؤيده بشدة، وأكتب عن ذلك حتى ولو كان ذلك الحزب ذا اتجاهات راديكالية أو رجعية أو دكتاتورية فهل أعتبر مسيئاً لمسيرة التدوين في بلادي؟!!
– أنا لا أكتب عن حقوق الإنسان ولا تهمني هذه الأمور.. لا تهمني الحملات التدوينية.. ولا يهمني شيء سوى الكتابة عن لوحاتي أو عن سيارتي أو حتى عن قطتي فهل أنا خارج إطار التدوين؟!!
– أنا مواضيعي تافهة جداً مفتوحة على اللاهدفية بمعنى آخر خردة لا قيمة لها لكني أدوّنها ولا أضع حسابات الخسارة أو الربح أو مَن يمكن أن يتضرر من هذه الكتابات أو مَن يمكن أن يستفيد منها بالشكل الأعم فهل أنا خارج الإطار التدويني؟!!
– تمتاز مدونتي بالسمة اللانفعية للمقالات والكتابات والخربشات إن صح التعبير هل تعتبر مدونتي بأنها “ليست مدونة”؟!!
لابدّ بأن الإجابات سوف تكون أبسط من الأسئلة نفسها فكل ما سبق أعلاه يعتبر مدوّنة بغض النظر عن كلّ من له رأي بأن التدوين له إطار محدد مختلف، يبقى أن نوضح الخلط بين المفاهيم الإنسانية العامة وبين مفهوم التدوين.
إن الدفاع عن حقوق الإنسان ومحاربة الشر ومساندة الخير، أو تحرير المعتقلين، محاربة المستعمر، محاربة الفساد، احترام حقوق الاخرين، احترام الملكية الفكرية، الكتابة بلغة مهذّبة، الابتعاد عن التعابير الحادّة والمثيرة للغضب، الالتزام بضوابط الكتابة الهدفية، الابتعاد عن الدعوة للعنف والعنصرية والكراهية والحروب. مناصرة المظلوم ودعم القضايا الإنسانية العامة والبيئة وحركات التحرر، والدعوة إلى دين ما أو مذهب ما أو طريقة ما وثنية أو إلهية.. أو الدعوة إلى تبني قيم الخير المطلقة والعدالة والمساواة والنضال من أجلها.. الخ
كل هذه الأشياء لا تتعلّق بالتدوين ومفهومه العام بل هي أشياء خاصة بشخص المدوّن ورغبته في ممارستها على مدوّنته أو لا، ولا يعني أن من يستخدم لغة مبتذلة في مدوّنته ومن يكتب ليدعم حزب ما رغم تاريخه الدموي ومن يكتب ليناصر قضايا الإرهاب أو يكتب لتضييق الخناق على مجموعة من البشر ومن يكتب للحكومات المستبدة ويناصرها ومن يتبنّى قضايا منافية للأخلاق..الخ هم ليسوا بمدوّنين..؟!!
بمجرد التفريق بين فكرة التدوين ككل ومفهوم الأفكار الخاصة للأشخاص القابعين خلف تلك المدونات واتجاهاتهم الفكرية كأشخاص مستقلين مجردين عن فضاء التدوين يسهل عندها معرفة ماهية التدوين.
إن الروح الإنسانية المتشكلة على هيئة “مدوّن” لا حول له ولا قوة والتي تطلب حرية التعبير لن تحصل على ما تريد في هذا الفضاء الجديد أيضاً، طالما أن التركيز يتم دائماً على المصطلحات لا على المفاهيم وتتوه القضايا والحملات التدوينية في متاهة التفاصيل الفنية. وفي النهاية سيكون صديقنا المدوّن الجديد في حالة أسميها “قلق تدويني- ذاتي” يصارع الظلال في سبيل معرفة ما سيدوّنه هل هو مقبول “تدوينياً” أم لا ضمن الحدود التدوينية المرسومة له من قبل أباطرة “تكنوقراط التدوين”؟!!
* * *
البعض قد يطرح مفاهيماً بريئة جداً للتدوين بناءً على أفكاره ومعتقداته الخاصة هؤلاء قد لا يشكلون خطراً على ثقافة التدوين ولا على مفهومه سواءً أتم ذلك بعلمٍ منهم أم بجهل..، لكن البعض قد يخفي ميولاً كامنة لفرض آلية محددة لثقافة التدوين سعياً لتنميطه بالشكل الذي يخدم أفكارهم أو مصالحهم، قد يكونون أصحاب منظمات.. حكومات.. أو جهات خارجية.. أو حتى أفراد.. تبقى الرقابة أيضاً غريزة اجتماعية بكل حال.
إن عالم التدوين سوق خصبة ومجانية للأفكار ومكان مريح جداً لتبادل الآراء والمدوّن هو مُخرج ومنفذ ومنتج وصحفي ومحرر وناشر وقاص وأديب وجغرافي وفيزيائي وباحث اجتماعي وأستاذ وطالب.. الخ يتحدث عن المناخ والسيكولوجيا والعلاقات والتاريخ والجغرافية والمؤسسات والدين والمذاهب والطرق والنظريات السياسية وكل شيء.. دون أن يوجد هناك حدّ معيّن يستطيع أحد ما أن يحدّده حالياً… الخ
إن حرية التدوين تسير جنباً إلى جنب مع حرية الفكر والتعبير والضمير وهي تعتبر قيماً ملهمة وترتبط بالصفات التي تحدّد مميزات الإنسان – قبل أن يكون مدوناً حتى -، في الماضي القريب كانت صحيفة واحدة تنشر إنجازات الإنسان وخيباته فصفحات الرياضة تسجل إنجازات البشر أما صفحات السياسة فلا تسجل سوى أخبار فشل الإنسان.. الأمر يقاس على التدوين أيضاً فهناك مدونات متخصصة في الأفكار الخلاقة وهناك مدوّنات متخصصة في الأفكار الهزيلة لكن في النهاية كلها تبقى” مدوّنات” وكلّ من يقف خلفها هم مدوّنون..
* * *
في النهاية هل يعني كلامي بأن كل مدوّن حر تماماً فيما يكتب؟!! وأن له كامل الحرية في أن يسرق نتاج الآخرين أو يدّعي ملكيته لأشياء ليست له، أو هل يحق للمدوّن أن يقوم بدعم جماعة تمارس الإرهاب والتخريب، أو جماعة تدعو للتطرف، أو جماعات تدعو للعنصرية والكراهية؟!! ألم تقل بأنه ليس هناك ثمة قانون محدد أو إطار معين للتدوين؟!! فهل يعني هذا الكلام بأن التدوين منفتح تماماً على كل شيء وبأن كل مدوّن يحق له أن يفعل كل شيء دون رقابة؟!!
هذه الأسئلة لا شأن لها بـ”المفهوم العام للتدوين” الذي يختصر بالنهاية بأن “التدوين فعل مدني تطوعي حُر وإن كل مدوّن يملك الحرية الكاملة فيما يكتبه”.. هذه الأسئلة تتعلق أكثر بالناحية القانونية لمفهوم الحقوق والقوانين الناظمة عبر الشبكة والتي لم تحدّد إلا في بلدان قليلة لحدّ الآن من جهة، ومن جهة أخرى بالضمير والوعي المنطقتين المقدستين للعقل لدى المدوّن وكيفية استخدامهما في مدونته.. وسنتحدث عن هذه النقطة في تدوينة قادمة مفصلة أيضاً.
أتمنى أن أسمع آراء كل من يمرّ من هنا من مدوّنين وقرّاء..
شكراً.. وعذراً للإطالة..
الهوامش:
(1) جون ميلتون: أريوباجيتيكا Areopagiticia، أعلى مجالس أثينا القديمة 1644.
http://en.wikipedia.org/wiki/Areopagitica
(2) Roadney A.Smolla : Free speech in an open Society ، 1992.
(3) تشير إحصاءات وورد برس.كوم wordpress.com إلى أن عدد المنضمين إلى عالم التدوين يزداد شهرياً بمئات الآلاف، وإن عدد المدونات الملغية أو التي يقوم أصحابها بهجرها يبلغ أقل من عُشر المدونات المستجدّة. راجع إحصائيات وورد برس على الرابط التالي: http://en.wordpress.com/stats/
الرابط التالي: يظهر معلومات تفصيلية عن التدوينات على صفحات الووردبرس: http://en.wordpress.com/stats/posting/
الرابط التالي يظهر مقارنة بين مستخدمي بلوغر، ووردبرس مع بعض العناوين المهمة حول نشاطات المدونين:
http://google.com/trends?q=wordpress%2C+blogger&ctab=0&geo=all&date=all&sort=1
تستطيع استخدام الرابط السابق لمعرفة شعبية برامج التدوين ضمن أية دولة.
(4)”جورن بيرغر” Jorn Barger: أول من وضع تعريفاً محدداً لمصطلح “التدوين” و”مدونة”.. المفارقة الغريبة في أن أول من وضع تعريفاً للتدوين بصيغته العامة هو أمريكي معادي للعنصرية للصهيونية، وإن من أوائل الدول التي قامت بتبنّي التدوين الرسمي لموظفي الحكومة هي إسرائيل، وإن من أواخر الدول ضمن تصنيف مستخدمي وورد برس هم مستخدمو اللغة العربية بنسبة 0.3% وأن السويدين يسبقونهم بثمان درجات في الترتيب بنسبة 0.9% رغم أن عدد سكان السويد لا يتجاوز تسعة ملايين نسمة من ضمنهم ثلاثة ملايين مهاجر. غريب أليس كذلك!!
راجع مدونة بيرغر على الرابط التالي: http://www.robotwisdom.com
(5) النص الكامل تجده على الرابط التالي: http://www.blogger.com/tour_start.g
(6) أقول “حالياً” وسأتحدث عن الموضوع بشكل تفصيلي في تدوينة مستقلّة. كيف ولماذا ومتى سنتوقع وجود هذه الحدود؟!!
http://medaad.wordpress.com/2009/09/08/bloggingdef/