كارثة التوريث والنهج البديل
محمد البلتاجي
التوريث مشروع حقيقي يجري التنفيذ (وليس الإعداد) له في مقدمة (وليس في خلفية) الواقع السياسي المصري, وهو محل الرفض منا ومن كل النخب الوطنية القلقة على مستقبل الوطن, لكن أحدا لم يطرح مشروعا ليكون بديلا عن التوريث ومنطلقا للتغيير يمثل الحد الأدنى المتفق عليه بين النخب الوطنية ليتعرف الشارع المصري على معالم السيناريو البديل عن التوريث, ومن ثم تجيء هذه المحاولة.
سيناريو التوريث والخطايا العشر
1- الحرص الشديد طيلة العقود الثلاثة الماضية ألا تبرز للساحة العامة أي شخصيات تكون محل التفاف وحب وثناء الجماهير, وسرعة تغييبها إذا تحقق لبعضها شيء من ذلك.
2- الحرص التام طيلة العقود الثلاثة الماضية على دوام فراغ منصب نائب رئيس الجمهورية رغم النصوص الدستورية التي كانت موجبة لوجوده, ثم جاءت التعديلات الدستورية التي جرت في مارس/آذار2007 لتنقذ فراغ المنصب من التعارض مع الدستور.
3 – ما تم في المؤتمر الثامن للحزب الوطني -سبتمبر/أيلول 2002- من إزاحة لقيادات حزبية تاريخية والدفع بقيادات جديدة من خارج الحزب إلى أعلى الهرم الحزبي واستحداث أمانات جديدة صارت هي المهيمنة على كل شيء (أمانة السياسات وأمانة التنظيم).
4- ما تم خلال الـ15 سنة الماضية من إجهاز منظم على كل فاعلية وحيوية لقوى المجتمع المصري التي يمكن أن يكون لها رأي في معادلة مستقبل الوطن, سواء في ذلك القوى السياسية (الأحزاب-الجماعات السياسية) أو القضاة أو النقابات المهنية أو الحركة الطلابية والعمالية أو نوادي أعضاء هيئة التدريس في الجامعات المصرية (وليس بعيدا عن ذلك معارك تكسير العظام الأخيرة مع الإخوان المسلمين, والتدخلات المباشرة في نوادي القضاة ونقابة المحامين ونادي تدريس جامعة القاهرة, ورفض تأسيس حزبي الوسط والكرامة).
5- ما حدث في 26/3/2007 من انقلاب دستوري شمل تعديلا بل تفصيلا (للمرة الثانية في أقل من سنتين) للمادة 76 –الخطيئة الدستورية- التي قضت باستحالة تقدم منافس مستقل إلا أن يوافق عليه الحزب الوطني -لزوم الديكور أو الحاجة- وذلك من خلال شرط تزكية 250 من أعضاء الشعب والشورى ومحليات 14 محافظة, بينما حافظت المادة نفسها على ديكور انتخابات وهمية من خلال سماحها بمشاركة أحزاب كرتونية ليس لها عضوان اثنان يمثلانها في كل المجالس النيابية والمحلية, كما أعطت المادة نفسها كل الصلاحيات في كل مراحل وفي كل إجراءات الترشيح وسير العملية الانتخابية وحتى إعلان النتيجة -دون تعقيب- للجنة الانتخابات الرئاسية التي تتكون من عشرة أشخاص بعينهم و يرأسهم رئيس المحكمة الدستورية العليا.
6- بقيت المادة 77 تسمح ببقاء الرئيس في السلطة مدى الحياة (دون تحديد سقف زمني لمدد الرئاسة بمدتين, وهو التحديد الذي كان محل إجماع القوى الوطنية وتجاهلته التعديلات الدستورية الأخيرة), وبذلك يصبح انتقال السلطة لأي من كان تأبيدا وتوريثا.
7- تلا ذلك ما حدث في انتخابات الشورى 11يونيو/حزيران 2007، حيث منع وصول أي شخص لا ينتمي للحزب الوطني إلى مقاعد الشورى الـ88 -باستثناء عضو واحد لحزب التجمع-. ثم ما حدث في انتخابات محليات 8 أبريل/نيسان 2008، حيث منع وصول أي شخص لا يرضى عنه الحزب الوطني لمقاعد المحليات الـ52 ألفا (وحدث هذا وذاك لضمان عدم حصول أي مرشح رئاسة مستقل على التزكية المطلوبة).
تلا ذلك ما حدث في 30 يونيو/حزيران 2009 حين اختار السيد رئيس الجمهورية المستشار فاروق سلطان بالاسم والانتقاء رئيسا للمحكمة الدستورية العليا، ليكون رئيسا للجنة الانتخابات الرئاسية القادمة, وتم هذا الاختيار بالتجاهل لجميع نواب رئيس المحكمة المستحقين لشغل المنصب, وبالانتقال إلي المحكمة العليا من خارجها, بعد أن كان رئيسا لمحكمة جنوب القاهرة (وهو الذي شهدت رئاسته لتلك المحكمة وقف إجراء انتخابات المهندسين والأطباء المعطلة لأكثر من 15 عاما, بينما أجرى انتخابات المحامين الأخيرة التي أعلن هو نتائجها في 1 يونيو/حزيران 2009, ليعقبها مباشرة ترقيته مساعدا لوزير العدل في 6 يونيو/حزيران 2009, ثم إعادة ترقيته لرئاسة المحكمة الدستورية في 30 يونيو/حزيران 2009).
9- ما حدث في فبراير/شباط 2009 من اعتماد مرحلة تسويق التوريث, وهي العملية التي أسندت لعشرات من القيادات الصحفية (المعروفة بولائها الكامل للتوريث والوريث وبتفرغها وتخصصها في الهجوم على خصوم التوريث) التي تم انتقاؤها وترقيتها وتسليمها العديد من المؤسسات الصحفية الحكومية, وفي هذا السياق –أيضا- تأتي الجولات والزيارات الداخلية والخارجية, وتأتي حوارات الشباب وطلائع الوريث غيرها.
10- الأهم من هذا كله هو الواقع الفعلي لمساحة الحضور السياسي للوريث الابن في الداخل والخارج بلا غطاء إلا غطاء المستقبل, وأوضح من ذلك حجم ومساحة الحضور التنفيذي للنائب أحمد عز بلا معقب –وفوقيته على جميع الساحات البرلمانية والحزبية التنظيمية والوزارية الحكومية بلا أي قيود ولا حدود- ومعلوم للجميع أن فوقية أحمد عز ليس لها من سند ولا غطاء إلا أنها ظل وانعكاس وامتداد لفوقية الوريث الابن وحجم سلطاته وصلاحياته الحالية (والتي هي مستمدة من قوة سلطاته وموقعه في المستقبل).
الاستبداد والفساد قرينا التوريث
كما هو واضح من الوقائع المذكورة وغيرها فإن تمرير التوريث ابتداء ثم استتباب واستقرار الأوضاع له -بعد حدوثه – لن يتأتى إلا من خلال استمرار كل صور الفساد والاستبداد:
*استمرار تزوير الانتخابات -رئاسية ونيابية ومحلية- وقمع الحريات العامة.
*استمرار ودوام الخطايا الدستورية (76, 77, 88) على ما هي عليه، وذلك لضمان ديكورية انتخابية دون منافسة حقيقية ودون إشراف قضائي على الانتخابات ولاستمرار التجديد للوريث ما دام القلب ينبض.
* استمرار وازدياد وتسارع الاحتكار السياسي والاقتصادي والجمع بين السلطة والثروة وسيطرة رأس المال على مقاليد الحكم ومقاعد الوزارات والمجالس النيابية وذلك للثقة في ارتباط هذه الطبقة بالوريث), ولعل عودة المرأة الحديدية ورامي لكح وغيرهما وإعادة إنتاجهم وتقديمهم للمجتمع المصري من جديد مؤشر لطبيعة المرحلة القادمة.
*استمرار مزيد من الإضعاف والإنهاك لمختلف قوى المجتمع، الأحزاب والنقابات المهنية والحركات الطلابية والعمالية والقضاة وكل مؤسسات المجتمع المدني والقضاء على أي أمل في قيامها وفاعليتها وحيويتها.
*استمرار تمديد العمل بقانون الطوارئ واستمرار إحالة المدنيين للمحاكم العسكرية والاستثنائية وذلك لمواجهة الخصوم.
*استمرار تقديم الثقة والولاء على الكفاءة والتخصص عند اختيار كل مواقع القيادة والمسؤولية من العمد والمشايخ إلى العمداء ورؤساء الجامعات والمحافظين ومختلف الهيئات والإدارات والمؤسسات.
باختصار شديد سيشكل التوريث حالة تراجع منظومي وحضاري على كل صعيد سياسي واقتصادي واجتماعي وقيمي, وستعود بالوطن والشعب إلى الوراء مسافات كبيرة ستحتاج إلى عقود طويلة بل ربما أجيال لتصحيحها وتداركها.
بعيدا عن شخصنة المعركة
لسنا في عداوة شخصية مع أحد, إذ إن خلافنا ورفضنا ينصب على عملية التوريث ذاتها, وموقفنا من كل الورثة سواء، وهنا أريد أن أصحح أولا مفهومنا للتوريث ليشمل كل نقل للسلطة بعيدا عن الإرادة الحرة للشعب والجماهير وحقهم الحر في اختيار رأس الدولة.
وهذا الأمر الذي لا يتأتى إلا من خلال تنافس حر, وممارسة انتخابية شفافة ونزيهة, ومناخ حرية كاملة –دستورية وقانونية، حزبية وفردية، إعلامية وجماهيرية- بما يتيح بالضرورة بروز الشخصيات العامة الصالحة للمجتمع, ثم حرية الترشح, وحرية اللقاء بين المرشحين والناخبين, ثم حرية التصويت دون قيود, ويضمن عدم تزوير إرادة الجماهير في أي مرحلة بأي وسيلة , وبما يعنى أن الشعب والوطن والدولة ليست ملكية خاصة تسلم من شخص لآخر بعيدا عن إرادة الجماهير.
تلك الإرادة التي هي بمنزلة برهان المواطنة وصك الملكية لكل مواطن في هذا الوطن, ويعبر عنها بحقه الحر في اختيار ممثليه لجميع مواقع المسؤولية في هذا البلد, ومن ثم فأي انتقال للسلطة بعيدا عن الاختيار الحر الشفاف هو توريث إذ إنه يعني التعامل مع الدولة والوطن والأرض باعتبارها عزبة وملكية خاصة.
ما البديل عن التوريث؟
نريد أن نمارس حقوقنا كشعب يحق له أن يختار قياداته –بنفسه ودون وصاية من أحد- ليحق له أن يحاسبها إذا قصرت, وأن يقومها إذا اعوجت, وأن يستبدل بها غيرها متى رأى أن اختياره لم يحقق آماله المرجوة, ولتتعامل قيادته معه وهي مدركة لملكيته لهذه الحقوق. وهذا الذي نريده لن يتأتى إلا من خلال:
1- تعديل المادة 76 من الدستور بما يتيح للمجتمع حق ترشيح من يراه مناسبا دون قيود إلا ضمانات الجدية, والمادة 77 ليكون الحد الأقصى للتجديد للرئاسة مرتين فيتوقف التمديد والتأبيد, والمادة 88 بما يحقق الإشراف القضائي الحقيقي على الانتخابات العامة.
2- شفافية ونزاهة الانتخابات العامة (الرئاسية والنيابية والمحلية) من خلال الضمانات المتعارف عليها دوليا (جداول الناخبين الإلكترونية-التصويت الإلكتروني-الإشراف القضائي والرقابة المجتمعية والدولية-حرية اللقاء بالناخبين وتكافؤ فرص الظهور في الإعلام الحكومي بين المرشحين، حياد الجهاز الأمني والهيكل الإداري للدولة وعدم تدخله بأي شكل من الأشكال-احترام أحكام القضاء وإلغاء مبدأ أن المجلس سيد قراره….الخ).
3- استقلال حقيقي للسلطة القضائية بعيدا عن تبعية السلطة التنفيذية ووصاية الأجهزة الأمنية, وعدم إهدار أحكام القضاء.
4- وقف العمل بقانون الطوارئ ووقف إحالة المدنيين للمحاكم العسكرية.
5- إطلاق الحريات العامة من قيودها المتعسفة ( حرية التعبير- حرية التظاهر- حرية التجمع والتنظيم المدني- حرية تأسيس الأحزاب وإصدار الصحف).
6- إطلاق الحريات النقابية والطلابية والعمالية وحرية العمل الأهلي وعدم التدخل الأمني في كافة أنشطة المجتمع المدني.
7- الشفافية في اختيار المواقع القيادية في أي من مواقع الهيكل الإداري للدولة ليكون الاختيار بناء على معايير الكفاءة والتخصص وليس الولاء والثقة.
هذا هو البديل عن التوريث, وليس البديل عن التوريث الإجابة عن السؤال الذي يحاول دعاة التوريث طرحه، وهو من هو الشخص الأجدر بموقع الرئاسة من جمال مبارك؟ فهذا سؤال خطأ ينبغي التوقف عن محاولة الإجابة عليه, لكننا نجيب عن السؤال الصحيح الذي ينبغي طرحه وجمع الرأي العام حوله وهو ما هو النهج البديل عن التوريث؟
هذه مطالبنا ومن خلالها يمكن أن نخوض معركة وطنية تاريخية ضد التوريث تجتمع عليها النخب الوطنية مع الرأي العام ليست موجهة ضد أشخاص بقدر ما هي موجهة ضد محاولة إرجاع البلد والوطن والشعب مئات السنين إلى الوراء ليس فقط على صعيد الديمقراطية والحريات العامة والممارسة السياسية بل على كل صعيد (سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي) بما سيصاحب تمرير التوريث من استبداد وفساد واحتكار (للثروات والسلطات) وما سيترتب عليه من تراجع قيمي وحضاري ليس فقط في الداخل بل يتعدي ذلك بانعكاسات سلبية خطيرة على مستقبل الأمة وقضاياها المركزية.