“نورتن المحروق” أولى رباعيات إليوت
يعتبر إليوت الينبوع الرئيسي لبعض شعراء العربية في الستينات من القرن الماضي. تأثيره كان كبيرا في تلك الحقبة، وقد اثمر شعراء كبارا مبدعين. كما ان معظم اعماله الشعرية والنثرية نُقل الى العربية بأقلام عديدة، مذيلة بشروح وتعليقات. وهذا ما لم يحظ به قبله شاعر غربي وحتى عربي. الا ان عمله الاخير “الرباعيات الاربع” لم يتناوله سوى قلمين: توفيق صايغ في لبنان، وماهر شفيق فريد في مصر، الذي نقل مجموعة أعمال اليوت الشعرية بكاملها، كما افادت مجلة “اخبار الأدب” المصرية. لكن حتى الآن لم تصل ترجمته الى السوق اللبنانية، على ما أعلم فلم يتسن لنا الاطلاع عليها.
هنا محاولة في نقل اولى هذه “الرباعيات” التي تعد في ذروة اعمال الشاعر، وفي ذروة الجمالية الرمزية. يقول واغنر: “ان العمل الأكمل للشاعر، يجب ان يكون عند انجازه الاخير، موسيقى كاملة”. ومالارميه في قوله: “ان الفن هو في احياء الذكريات، واعادة خلق كل شيء من طريقها، كان بلا شك السبّاق الى تلك “التحولات الصوفية” حيث الأشياء تحتفظ بجوهر الماضي. ان ايقاع الكلمات يتوصل الى الايحاء بما لم تستطع اللغة البشرية ان تقوم به حتى الآن. الشاعر يقودنا الى أماكن مميزة حيث النفس تعثر على سر الحياة الداخلية. هيلين غاردنر في كتابها “الفن عند اليوت” تقول في تحليلها للبنية الموسيقية في “الرباعيات”، ان حركاتها الخمس توحي كل مرة بخمسة فصول في دراما داخلية، فكرة جدلية (تضاد، رجوع، تقدم بطيء) تقود تكرار الثيمات، تجويقها موسيقيا وفق انماطها المختلفة. الفاتحة هي على العموم، مبنية على مناقضات يجب حلها. الحركة الثانية (مماثلة في كل رباعية) تبدأ بمقطع غنائي، يتبعه كلام عادي: الفكرة، وقد عولجت على نمط رمزي، تتنامى على اسلوب المحادثة. في الحركة الثالثة تكمن عقدة القصيدة، ومعناها الحقيقي يمهد للتوافق. انها اكتشاف وفي الوقت عينه انصهار لفكرتين اساسيتين. وقد اختصرت غاردنر ثيمات “الرباعيات” بثلاث نقاط: صلة الديمومة باللازمني، معنى التاريخ، اسرار التجسد والفداء. ويمكننا القول هنا عن بعض شروح قصائد اليوت، ما اورده اليوت بذاته عن المحاولات التي ادّعت شرح قصيدة مالارميه: “لا اذهب الى نكران اهمية تلك الابحاث عن الينابيع، لكني لم اجد قط انها زادت في متعتي. بالعكس، فأنا غالبا ما فكرت: اذا كان كل ذلك ما تضمه القصيدة، بمعزل عن التنسيق الموفّق للمقاطع اللفظية، فان هذه القصيدة ليست جميلة بقدر ما كنت اتصور. قد اكون مخطئاً، لكن عقلي يرفض بعناد ان يصدّق ذلك. واعود الى القصيدة، وأجد فيها ثانيةً، متعة كبيرة، في حين اني نسيت الشرح. بعض الشروح ليس في الواقع، سوى عرض لبعض الاعراض التي جعلت القصيدة تبرعم في عقل الشاعر. وهذا يبدو لي مثيراً للفضول لكن لا علاقة له بالقصيدة. وثمة شروح اخرى(…) تزعم انها تقدم لنا فلسفة كامنة في القصيدة. والحال ان الفلسفة كما يعرضها الشارح، لا تظهر لي جديرة تماماً بالقصيدة. غير اني لا استنتج من ذلك (بسبب انعدام التطابق بين شرح القصيدة ومتعتي بها) ان هذه القصيدة لا معنى لها، وان من الضروري لتكون القصيدة عظيمة ان يكون لها معنى، ولا حتى اني عاجز عن التمتع بقصيدة مع علمي بأن لا معنى لها”.
لندخل الآن الى اولى هذه “الرباعيات” وهي “نورتن المحروق” او Burnt Narton. انها اكثر “الرباعيات” احتشادا بالفلسفة. نسجت خيوطها الشعرية على منوال موسيقي. الرباعية اشبه بالحركات الموسيقية في سمفونيتها التي تدور قضاياها حول اسرار الكون بأسره. وهي تنبض في كل بيت من ابياتها بجمال النبرة، وحس الايقاع، ودقة الاختيار، وهذه كلها امتزجت بجلال الفكرة، وعمق المضمون، وسعة المرمى. وقد قُسمت خمس حركات: الاولى خاصة بعرض الفكرة، الثانية عن موسيقى الشعر، الثالثة فلسفية، الرابعة غنائية، والخامسة تلخيصية. وعلى هذا النسق وضع اليوت “الرباعيات” الاخرى. واختار اسماءها من وحي ذكرياته القريبة والبعيدة. و”نورتن المحروق” التي نحن في صددها، هي اسم قصر ريفي في مقاطعة غلوستر في قلب انكلترا، امضى فيه الشاعر بضعة ايام في صيف 1943.
ترمز كل رباعية الى العناصر المادية الاولية للكون: الهواء في الاولى، التراب في الثانية، الماء في الثالثة، والنار في الرابعة. وهذه العناصر بدورها تشير اشارات رمزية الى الطبيعة البشرية بمكوناتها. فالهواء يرمز الى قدرة الانسان على الاتيان بالفكر المجرد، والتراب رمز الجسد، والماء رمز الدماء التي تجري في عروقه، والنار هي اشبه بالروح. ويمتد مضمونها الرمزي ليشمل الفصول السنوية: الصيف المبكر في الرباعية الاولى، اواخر الصيف في الثانية، الخريف في الثالثة، والشتاء في الرابعة.
امام هذه الوفرة من الافكار والقضايا التي حشرها الشاعر في هذه “الرباعيات”، هاجمه بعض النقاد بشدة، واتهمه بتحميل الشعر فوق ما يحتمل. الا ان ذلك هو شأن القمم دائما. ومتى لم تكن القمم ملعباً للرياح؟!
تبدأ “نورتن المحروق” بالتأمل في الزمان، وترد فيها افكار متجانسة او متباعدة. وابياتها زاهرة بالافكار التي رددها هيراقليطس عن التغير الجاري والحركة. وبعض العبارات في ديمومة الزمان تذكرنا بأن اليوت استمع الى محاضرات برغسون في السوربون، في شتاء 1911 وكتب يومذاك مقالا انتقد فيه فكرته عن “الزمان الواقعي” وقال انها “ليست القول الفصل”. وثمة ابيات حول استرداد الزمان من خلال الوعي، توحي بذلك الجانب الذي استثار مارسيل بروست من فلسفة برغسون. غير ان المفارقة الكبرى التي اعتمدها اليوت في بناء هذه الرباعية، هي تلك القائمة بين الفكرة التي ترى الزمان مجرد وصل والرأي المسيحي القائم على التضاد، اي كيف ان الانسان يعيش “في الزمان وخارج الزمان”، كيف انه غارق في التيار الزماني، ومع ذلك يمكنه ان ينفذ الى الابدي بادراكه الوجود اللازماني داخل نطاق الزمان ومن فوقه. بل ان لحظات الخلاص من وطأة السيل المتدفق نادرة حتى لدى المسيحي، وان كانت هي وحدها التي تعوض عما، لولاها، هو وجود مظلم يذهب سدى. يتذكر اليوت لحظة من هذه اللحظات ذات الطعم اللاذع، لحظة من لحظات الطفولة في “حديقة الورد” الخريفية المليئة بأصداء الخطى، رمز الرغبات التي تسيطر على الذاكرة. الظاهر ان اليوت يستعير صوراً عديدة في بناء هذه الرباعية، من قصة “الظل في حديقة الورد”
لـ هـ لورنس، ولا سيما من المقدمة التي كتبها لورنس للطبعة الاميركية لمجموعته الشعرية “قصائد جديدة” عام 1920. ويا لها من قصة عجيبة لوردة تأتينا رائحتها من بعيد بعيد! وهذه الوردة، رمز الحب الارضي والسموي، كانت اولا، وردة الشاعرين الفارسيين حافظ وسعدي. وعطرها قد تجاوز الاجيال محملا المعاني الصوفية لدى الشعراء الصوفيين، والعصر الوسيط المسيحي، والتروبادوريين، والشعر الغزلي، ولدى دانتي، و”رواية الوردة”. وها هي تظهر في “الرباعيات” عبر لورنس وبروست ذاته، بالمقارنة مع زهرة اللوتس بايحاءاتها الجنسية. لكن الشاعر لا يدري لماذا يقودنا الى هذه الحديقة. هل يتعقب خداع السمانى؟ هذا الطير مخادع لأنه يقودنا الى رؤيا تظهر انها دائمة، بينما دوامها مجرد خداع. ونحن نخترق حجب هذه الرؤيا من اجل لحظة خاطفة براقة بين اشكال “غير مرئية” وموسيقى “غير مسموعة” ومناظر “غير منظورة”. ولكن “جاف هو الحوض، جاف هو الاسمنت، مسفوع الحافات”. المعنى الرئيسي هنا ان الحقيقة الكامنة خلف التجربة تبهر انظارنا. بحيث تجعلنا لا نتحمل الكثير منها، وعلينا لذلك ان نعود الى حماية وجودنا “غير الحقيقي” بالمفهوم الأفلاطوني. ان الطير المغرد لا يزال مخادعا. وأخال الشاعر هنا يتحدث عن الحقيقة كما نعرفها في العادة. ونحن على ذلك “لا يمكننا تحمل الكثير من هذا النوع من الحقيقة”، اذا كان تفسير اليوت لـ”الخوف” تفسيرا دقيقا. مع ذلك، فنحن نحتاج، بل وفي مقدورنا، في لحظة من اللحظات، الى ان نخلق حالة وجودية تقريبية لا يتسنى لنا الاحتفاظ بها بعد زوال تلك اللحظة في “حديقة الورد” او “تعريشة يضربها المطر” او “كنيسة معرضة للرياح وقت انخفاض الدخان” ان “الزمان لا يقهره غير الزمان”. الا ان هذا القهر ليس سوى امر عابر غير مؤكد. وعلى ضوء ذلك يحاول الشاعر ان يخلق صورا تحمل معنى الدوام واليقين، كشأن متصوفي العصور الماضية. لذا، نراه يلجأ الى “رمز الدرجات العشر” للقديس يوحنا الصليبي، التي تصعد عليها الروح الى الله. كما يلجأ اليه ايضا في تشبيهاته البائسة عن “السحابة السوداء” التي تزيل الغبطة والوضوح من رؤيا كل من يسعى وراء الحقيقة. لكنه لا يقوى على تحاشي تلك المرارة الحادة المتخفية في واقع الحياة العصرية المتشككة التي يرى نفسه في عراك معها. كما ان الظلمة التي يحس بها، هي في طبيعة الوجود وفي عقل الانسان الذي سيكون يوما ما من المؤمنين. فهل تأتيه هذه النعمة اخيرا؟ “وهل يلتفت الينا دوار الشمس”، رمز الله الابن، و”هل يشرد الياسمين البري على الأرض وينحني لنا؟” اشارة الى “العذراء” رمز المحبة.
“الثوم والياقوت في الوحل/ يسدّان قَبّ العجلة الغائص” (بيتان مستمدان من قصيدتين لمالارميه): الاول (الثوم) يشير الى الشؤون الحسية الارضية في هذا العالم، والثاني الى الشؤون الجميلة. وكلاهما يعمل على حجب رؤيا “نقطة السكون” عن عيوننا. و”نقطة السكون” ترمز الى عالم الابدية، كما “العالم الدوار” يرمز الى عالم الزمان. هذه “النقطة” لا تُدرك بالحواس. وهي، ان تكن بدون حركة، فانها ليست جامدة. وهذه الحركة غير المتحركة هي ما يسميه الشاعر “الرقص” وفي الرقص يلتئم الزمان والأبدية.
“ارتقاء بدون حركة/ تركيز بدون حذف، عالم جديد/ والقديم ايضا وقد بات واضحا، مفهوما/ في اكتمال وجده الجزئي”. “هذه اللمحة التصوفية العابرة خارجة عن محيط الزمان، ومع ذلك يتعذر علينا ادراكها الا داخل اطاره حينما تحاط بسياج من الحس المرهف الرقيق. لكنها تعبّر تعبيراً صريحا عن التخلص من الأنا وملذاتها، والصراع الشعوري واللاشعوري، ومستلزمات الجسد من راحة ورضا وألم وصراع. وما هي الا الحرية المتكاملة التي تستجيب فيها النفس تلقائياً لاشعاعات الروح، فيها يتحد العالم الصوفي الجديد بعالم الحس القديم داخل اطار هذه السمفونية الكونية التي تضم الماضي والحاضر والمستقبل، والتي تتابع حركاتها بين واقع الحس وخلود الروح” (د. فائق متى، اليوت، دار المعارف بمصر).
ولكن في اتحاد الماضي والحاضر والمستقبل، يصبح كل شيء حاضراً ابدا. فأين اذاً نعثر على ذلك الزمان المعزّي؟ يجيب الشاعر: لا في الفعل، لا في الشيخوخة، لكن في طهارة الفكر، في النور، في الطريق الصاعدة. ها هو الزمان مرة اخرى، هذا الكابوس الذي لازم الشعراء منذ فرنسوا ڤيّون حتى وردوِرْثً، هذا الزمان الذي يحس به الشعراء اكثر من الفلاسفة، على حد قول برغسون، انما يشكل الثيمة الاساسية للرباعيات الثلاث الاخرى. انه الزمان الذي يجعل ايامنا مقسّمة ومخيّبة للأمل: ماض، حاضر، مستقبل، دائما العقبة نفسها، دائما العرقلة نفسها! اليوت حلم بـ”لحظة لازمنية” ينسخ امتلاؤها الديمومة، حلم بتلك اللحظة الابدية التي تحدث عنها كيركيغور (هكذا ينطق بالدانماركية) وبروست. مثل هذه اللحظات هي الخلاص لكل قشر خارجي او داخلي. انها في هالة من “النور الابيض الساكن والمتحرك”. والشاعر يبحث عن مثل هذه اللحظات التي تديم بساطة الطفولة والجذور. وبما ان وسيلة الشاعر هي الكلام والكلمة، يمضي يبحث عن “الطريق المشرقة” في انجاز عمل اشبه بعالم صغير. (الكلمات، بعد التكلم/ تدرك الصمت. وليس الا بالشكل، المثال، /تستطيع الكلمات او الموسيقى، ادراك/ السكون كمثل جرة صينية/ تظل تتحرك ابداً في سكونها”. هكذا، بالفن يُقهر الزمان.
وبعد، نحن امام ما يسمّى “العمل المفتوح”. وما اوردته هو غيض من فيض، كما يقال، من التأويلات. وربما للقارىء اجتهادات اخرى. ولعل من الأفضل ان نأخذ بملاحظة مالارميه والمتبناة من إليوت، فقد تريحنا من كل ذلك ¶
I
الزمان الحاضر والزمان الماضي
حاضران ربما في الزمان الآتي،
والزمان الآتي محتوى في الزمان الماضي.
إن يكن كل زمان حاضر ابدا
فكل زمان يستحيل استرداده.
ما كان يمكن ان يكون لهو تجريد
لا يظل إمكاناً دائماً
الا في عالم التأمل
ما كان يمكن ان يكون وما كان
يتجهان الى غابة واحدة حاضرة دوماً.
في الذاكرة يصدي وقع أقدام
في الممر الذي لم نعبره
في اتجاه الباب الذي لم نفتحه قط
الى حديقة الورد. هكذا كلماتي تصدي في ذهنك.
لكن لأي هدف
تثير الغبار على اناء ورق الورد
لست أدري.
أصداء أخرى
تُقيم في الحديقة. هل نتأثّرها؟
أسرعوا، قال العصفور، أسرعوا، ابحثوا عنها، ابحثوا عنها،
عند الزاوية. وعبر البوابة الاولى،
في عالمنا الاول، هل نتعقّب
خداع السمانى؟ في عالمنا الاول.
يتنقّلون بدون ضغطٍ على الاوراق الميتة،
في حرّ الخريف، في الهواء الخفّاق،
وصات العصفور، مستجيباً
للموسيقى غير المسموعة والخفيّة في الأجمة،
وعَبَر النظر غير المرئي، لأن الورود
كانت تبدو كأزهار في مرمى النظر.
هنالك كانوا كضيوف لنا، مرحَّب بهم، ومرحِّبين بنا.
وهكذا تحرّكنا وإياهم، في تنسيق شكلي،
وعلى طول الممر الخالي، نحو دائرة سور البقْس،
لننظر الى الحوض المنزوف.
جافٌ هو الحوض، جافٌ هو الأسمنت، مسفوع الحافّات،
وإذ به يمتلئ بالماء من نور الشمس،
وتنبت زهرة اللوتس بهدوء، بهدوء،
ويتلألأ السطح في قلب النور،
وكانوا خلفنا، بأشباحهم المنعكسة في الحوض.
ثم مرّت سحابة، ونضب الحوض.
وقال العصفور، أمضوا، فالاوراق كانت مكتظّة بالاطفال،
المتوارين باضطراب، الذين كانوا يكبحون ضحكهم.
أمضوا، أمضوا، أمضوا، قال العصفور: الجنس البشري
لا يمكنه تحمّل الكثير من الحقيقة.
الزمان الماضي، الزمان الآتي،
ما كان يمكن أن يكون وما كان
تتّجه كلها الى غاية واحدة حاضرة دوماً.
II
الثوم والياقوت في الوحل
يسدّان قَبّ العجلة الغائص.
السلك المرتعش في الدم
يغنّي تحت الندوب المتجذّرة
مُسكّناً حروباً قديمة منسيّة.
الرقص على طول الشريان
والدورة اللمفاوية
ممثّلان في مسار النجوم
يصعدان للاصطياف في الشجرة
نتحرّك فوق الشجرة المتحركة
في النور على الاوراق المزوّقة
ونُصغي على الارض المبتلّة
في الأسفل، الى الخنزير البري وكلب الصيد مطاردة
يتابعان مسلكهما كما في السابق
لكن على وئام بين النجوم.
في نقطة السكون من العالم الدوّار. لا جسداً ولا بغير جسد.
لا من ولا الى؛ في نقطة السكون، هناك حيث الرقص،
لكن لا وقوف ولا حركة. لا تُسمّ ذلك جموداً.
حيث الماضي والمستقبل يلتئمان. لا حركة من ولا الى.
لا صعود ولا انحدار. لولا النقطة، نقطة السكون،
لما كان ثمة رقص، ولكان الرقص لا غير.
لا يمكنني أن أقول الاّ، “هنالك” كنا: لكن أين، لا يمكنني أن أقول.
ولا يمكنني أن أقول، كم مكثنا، لأن ذلك يُنزله في الزمان.
التحرّر الداخلي من الرغبة العملية،
الخلاص من الفعل والألم، الخلاص من القَسر
الداخلي والخارجي، وذلك محاطٌ
بنعمة من الحسّ، بضوء أبيض ساكن ومتحرّك،
Erhebung (ارتقاء) بدون حركة، تركيز
بدون حذف، عالم جديد
والقديم ايضاً، وقد بات واضحاً، مفهوماً
في اكتمال وَجْده الجزئي،
قرار رعبه الجزئي.
لكن ارتباط الماضي والمستقبل
المنسوج في ضعف الجسد المتغيّر
يصون البشر من السماء والدينونة
التي لا يستطيع تحمّلها الجسد.
الزمان الماضي والزمان الآتي
لا يسمحان إلاّ بوعي ضئيل.
فأن تكون واعياً لا يعني أنك في الزمان
ولكن في الزمان وحده يمكن اللحظة في حديقة الورد،
اللحظة في الكنيسة المعرّضة للرياح وقت انخفاض الدخان
يمكنها أن تُستعاد؛ مشبوكة بالماضي والمستقبل.
في الزمان وحده يُقهر الزمان.
III
هنا محطَ نُفور
الزمانُ القَبل والزمان البَعد
في نور معتم: لا نور النهار
الذي يكسو الاشكال بسكينة مشرقة،
ويحوّل الظلال الى جمال عابر
موحياً بالدوران البطيء بالديمومة،
ولا الظلمة التي تطهّر النفس
وتفرّغ الشهوة بالحرمان
وتنقّي العاطفة من الزمني.
لا امتلاء ولا خواء. ليس سوى وميض
على الوجوه المتوتّرة التي أنهكها الزمان
المعروفة عن الذهول بالذهول
الطافحة بالتخيّلات، الخالية من المعنى
خمولٌ وَرِم بدون تركيز
أناس وقُصاصات ورق تدوّمها الريح الباردة
التي تهبّ قبل الزمان وبعده،
الريح التي تشهقها رئات فاسدة وتزفرها
في الزمان القَبل والزمان البَعد.
تَهوُّع نفوسٍ عليلة
في الهواء الخابي، وخَمٌ
تحمله الريح التي تكسح تلال لندن المغمّة،
هَمْستدْ وكْلارْ كنْولْ، كامْدِن وبُطْني،
هايْغيتْ، بْريمْروزْ ولَدْغِيتْ. ليس هنا، لا
ليس هنا الظلمة، في هذا العالم المزقزق.
انزلْ بعدُ، فقط انزلْ
الى عالم العزلة الأبدية،
عالمٍ ليس بعالم، بل ذاك الذي ليس بعالم،
ظلمةٌ داخلية، حرمانٌ
تجريدٌ من كل ملكيّة،
تجفيفُ عالم الحسّ،
إفراغُ عالم الخيال،
تعطّل عالم الروح؛
هذه هي إحدى الطريقين، والأخرى
هي ذاتها، لا بالحركة
بل بالامساك عن الحركة؛ فيما العالم يتحرك
بنزعة غرَزيّة على مسالكه المعدنية
في الزمان الماضي والزمان الآتي.
IV
الزمان والجرس قد دفنا النهار،
السحابة السوداء تخطف الشمس،
هل يلتفت دوّار الشمس الينا، هل
يشرد الياسمين البري على الارض، وينحني لنا؛ والحالق والعُسلوج
هل يحاولان التعلّق والتمسّك؟
ومرتجفةً من البَرْد،
هل أصابع الطقوس تلتفّ
علينا؟ بعد أن يكون جناح ملك السمك
ردّ على النور بالنور، ثم يصمت، ويبقى النور
في نقطة السكون من العالم الدوّار.
V
الكلمات تتحرّك، الموسيقى تتحرك
فقط في الزمان، لكن الذي يحيا فقط
يستطيع فقط أن يموت. الكلمات، بعد التكلّم،
تُدرك الصمت. وليس إلاّ بالشكل، المثال،
تستطيع الكلمات أو الموسيقى، إدراك
السكون، كمثل جرّة صينية
تظل تتحرك أبداً في سكونها.
لا سكون الكمان، بينما يتردّد النغم،
لا ذاك وحده، بل التواجد،
أو لنقل إن النهاية تسبق البداية،
والنهاية والبداية كانتا دائماً هناك
قبل البداية وبعد النهاية.
كل شيء هو دوماً الآن. الكلمات تتوتّر،
تنقصف، وأحياناً تتفطّر تحت العبء،
بفعل التوتّر، وتتعثّر، وتنزلق، وتفنى،
وتبلى من عدم الدقة، لا تشاء أن تظل في موقعها،
لا تشاء أن تظل ساكنة. أصوات صارخة
مُعنّفة، هازئة، أو ثرثارة فحسب،
تهاجمها باستمرار. “الكلمة” في الصحراء
معرّضة أكثر لهجوم أصوات التجربة،
الظل المنتحب في الرقص المأتمي،
والنحيبُ بصوت عالٍ للوهم اللايُعزّى.
تفاصيل المِثال حركة،
كما في رمز الدرجات العشر.
الشهوة ذاتها حركة
ليست مشتهاة في ذاتها؛
الحب ذاته غير متحرك،
إنه علّة الحركة وغايتها لا غير،
لازمني، وبدون شهوة،
إلاّ من جانب الزمان
مأخوذاً بشكل تحديد
بين الكينونة واللاكينونة.
فجأة في شعاع ضوء شمسي
حتى والغبار ثائر
يرتفع الضحك الخفيّ
لأولاد بين أوراق الشجر
أسرعوا الآن، هنا، الآن، دائماً…
مضحكٌ هو الزمان الكئيب القاحل
الذي يمتد قبلاً وبعداً.
مراجع
– T.S.E liot, Collected Poems, Faber & Faleer 1963.
– M.L. Rosenthal, The Modern Poets, N.Y. U.S.A.
– F.O. Matthiessen, The Achievement of T.S. Eliot, N.Y. U.S.A 1958.
– Helen Gardner, The Art of T.S. Eliot, London, 1949.
– Georges Cattaui, T.S. Eliot, Editions Universitaires, Paris, 1957.
– د. فائق متى، إليوت، دار المعارف بمصر، 1966.
هنري فريد صعب
ملحق النهار الثافي