صفحات ثقافية

محاكمـــة المتنبـــي

null
عباس بيضون
ذكرى المتنبي، كما تنبهنا مقالة الصديق منير مغنية ، لم تعد من مناسباتنا. مضت سنون على استعادتنا ذكريات كهذه. لم يعد المتنبي ولا أبو نواس ولا أبو تمام ولا ابن الرومي ولا المعري ولا ابن سينا ولا ابن خلدون ولا ابن رشد… ولا… ولا… الخ من حواضرنا الثقافية. يعلو الكلام عن الهوية والتراث والأصالة في حين يتراكم النسيان على أساطين التراث وينقطع ذكرهم. هذا لا يعني دعوة الى احتفالات كانت في حينها عديمة الفائدة وتبخرت مع المناسبة. كانت هذه معرض بلاغة ساقطة لكن أمراً كهذا يدل على ان بؤسنا الثقافي لا يقاس بالنسبة الى الغرب فحسب بل، بالأحرى، بالقياس الى صلتنا بتراثنا. ليس جهلنا بهذا التراث أقل من جهلنا بالعالم وليست صلتنا بأنفسنا امتن من صلتنا بسوانا. «البربرة» على الغرب ليست اوثق ولا أكثر معرفة من ادّعاء التراث والأصل، التراث وهو ما نزعم انه الذخيرة والعدة والمرجع والعيار مجهول ونزداد جهلاً كلما لذنا به وادّعيناه.
لا نعرف كتاباً مهماً صدر عن المتنبي من 50 عاماً. هذا على فرض ان الكتب التي صدرت من قبل مهمة. كل مستجدات النقد الأدبي وعلم اللغة وتاريخ الثقافة والمعرفة لم تحفزنا الى تجديد قراءتنا للمتنبي وسواه. بل نحن اليوم أقل دراية به من الأمس. وربما اتى حينٌ من الدهر لن يهتم بقراءته الشعراء، فحتى هؤلاء لن يجدوا سبباً لقراءة شاعر قضى منذ أكثر من ألف عام، وانبتّت الوسائل بيننا وبينه وتصرّمت الدوائر. ذلك ان شاعراً كالمتنبي يظل حيث هو في زمنه ورهن قراءة معاصريه. لم يتأقلم مع الأجيال التي تلت ولا نفذنا إليه من حلقة قريبة او معاصرة. إنه ماض منقطع قديم وإذا عرض على الحاضر بدا نابياً ومتأخراً. ليس أدل على ذلك من محاكمة المتنبي على قواعد الجمهورية والديموقراطية. أنت لا تعدم ان تجد من يحاسب المتنبي على مديحه للملوك، ومن يؤاخذه على انه استخذى امام كافور ثم نقم عليه. ومن يحاسبه على انه باع شعره في سوق الكساد كما قال هو. تلك محاكمة منصوبة للمتنبي منذ عقود ولا تدل إلا على جهل بالتاريخ والشاعر معاً. يستدرج المعاصرون الشاعر الى زمنهم ويحاسبونه بمصطلحهم ولا يهمهم ان هذا ليس زمنه ولا مصطلحه. يحاكمونه كما لو وُلد اليوم او البارحة القريبة ولا ينتبهون انهم لا يستطيعون بهذا المقياس محاكمة حتى الجواهري المتوفى حديثاً او أحمد شوقي. كان البلاط يومذاك غير القصر الجمهوري والمثقفون يومذاك كانوا غير المثقفين اليوم.
المهم ان المتنبي وسواه ينفذون إلينا مباشرة من الماضي، بدون حلقات وسيطة، هكذا يغدون مع الوقت حكاية مستغربة، او خبراً آبداً، او مجرد فولكلور. يفوتنا ان نشبكهم بأسئلة وتجارب ومجابهات مثابرة وراهنة: الزمن، السلطة، المثال، المجتمع، الذات المنقسمة، الواقع، الآخر، الحب، الموت… لا يخطر ان هذه ايضاً أمور تنتسج منها معاناتهم الشعرية ايضاً. إن لهم رؤيتهم للشعر وعالمهم. ان بعضهم، والمتنبي من هذا البعض، خلقوا عوالم، وانهم في اختيارهم للشعر والعالم يملكون رؤيا متكاملة تقيمهم أنداداً لأمثال شكسبير وغوته. إنهم ليسوا مجرد اخبار وروايات عن تقصد ملك ومغادرة ملك، عن توسل هنا وشقاق هناك، عن خصومة وولاء وطلب صلة ومبالغات مدحية.
يؤاخذون المتنبي مثلاً على انه طلب ولاية او انه اشتهى ولاية. هذا بالطبع ما يحسبه رومانطيقيون سطحيون من ابناء اليوم كثيراً على شاعر. بل من يظنونه مجافياً للشعر. فالشعر، كما يتخيلونه، اثيري هوائي، سباحة في المطلق، شفافية خالصة. حساسية فحسب بلا غرض ولا مادة ولا موضوع. أما الولاية، السلطة، فكثافة ومادة وغرضية، قد يكون هذا نموذج الفنان في فيلم عربي. ولن يفهم هؤلاء بالطبع كيف يسعى شاعر الى ان يتخطى الشعر، وكيف يكتب شاعر بقلب ملك كما قال المتنبي. وكيف يكون حلم السلطة هو ايضاً معاناة السلطة. كيف يكون حلم شاعر بالسلطة من ناحية أخرى، تعالياً على السلطة. وكيف يكون وعياً بالتاريخ والزمن والسياسة وكيف يكون عنصراً في رؤيا متعددة المصادر والموارد، رؤيا ديناميكية متفاعلة. كيف يكون طرفاً في «معاناة» متكاملة للعالم. لم يكن لشاعر قبل المتنبي أن يحلم بالملك وما كان لشاعر سواه ان يرى في الشعر سلطة، لا بد ان هذا من نتاج ظرف سياسي وفكري غدا فيه الطموح للملك مشروعاً، وأمكن للشاعر والملك، للشاعر والسلطة أن يتفاعلا، للسلطة أن تغدو بعداً في الشعر. لم يكن شاعر بالمرصاد لزمنه كما كان المتنبي وما كان شاعر ان يدخلن الزمن في رؤيته كما فعل المتنبي.
سنجد من يقول إن الرجل تعالى وتطاول وتكبر وإن بعض هذا كان سخفاً و«بهورة». يمكن لكلام كهذا بالمصطلح الراهن ان يبدو في مكانه، لكن المصطلح الراهن لا يعين على الفهم، فمرة شانبه يحاكم المتنبي بلغة صحافة اليوم وكليشهاته، ولا ننتبه الى زمن كان فيه الإمام سبب العالم، والقطب الصوفي كذلك، وكان فيه من يتأله، ومن يعد انصاره بالعودة بعد الموت، زمن يمور بالهرطقات والشطحات ولا بد ان ذلك كان من سبل الانتقاض على الدين الرسمي الذي حبس النبوة والألوهة والإمامة. نسب بلاشير ماسينيون وطه حسين كما نقرأ في مقالة منير مغنية المتنبي القرمطة، وقيل انه لم يذهب الى الصحراء ولم يقم بجولته الاولى التي انتهى منها الى السجن الا كداعية قرمطي. صح ذلك أم لم يصح إلا ان تأله المتنبي وتمرده على دهره (قدره) ومصارعته لزمنه لم تأت من لا مكان.
يصدح المغني بصوت قتالي وبطولي وهو ينشد شعر المتنبي فنعرف ان هذا هو فهمه لشعره، وأنه لا يرى فيه سوى بداوة وفروسية. فإذا اقترنتا بحكاية حبه المزعوم لأخت سيف الدولة، وقعنا على شاعر تروبادوري ورأينا، في افضل الحالات، نسخة اسبق لتريستان وايزولده. هكذا يفوت الكاتب والمغني والمخرج كل المحتوى الدرامي لشعر المتنبي الذي يكاد الصراع والداخلي وانقسام الأنا وتجزؤها بين الداخل والخارج تكون مادته الاولى. ثم إن قتالية المتنبي ليست ارتجازاً حربياً وفروسياً انها الخيال الملحمي، أي الخلق الاسطوري لولادة العالم في الصراع، انها الحرب الخيالية، المسرح الكوني للصراع والعنف حيث يُصنع العالم والدهر والزمن.
لا بد ان حكاية المتنبي المقاتل الزائف المتسول الطماع النفعي محب السلطة خادم الملوك وخائن الملوك هي ما يحب كثيرون بالمصطلح الصحافي الراهن وللكليشيه ان يروه. سيرون بنفس الطريقة في أبي نواس جحا جديداً. وفي أبي تمام معلقاً على شعوذات العرافين، وفي المعري أعمى نكداً. وفي ابن الرومي مسموماً. ذلك ان الماضي ليس شيئاً لمن لا يملكون حاضراً.
السفير الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى