حين يكذب الشعراء
محمد ديبو
تعد العلاقة الإبداعية والمتميزة بين الشعراء الشباب والشعراء الكبار واحدة من أهم الشروط الضرورية واللازمة لوسط ثقافي صحي ونزيه ومتطور تحكمه علاقات الإبداع, وتساعد الشباب على تلمس خطاهم الأولى على درب الشعر , عن طريق حوار وجدل يقام بين جيلين مختلفين يقدّم كل منهما للآخر ما ينقصه ليكتمل نقصان الشعر الذي لا يكتمل: الشعر الذي يجمعهم كمشروع وطريقة حياة , وأسلوب عيش , وأداة توازن في عالم لا توازن فيه, عالم تحكمه الفضيحة , ويتسيّد العهر مجالسه.
هذا على المستوى النظري والمجرد, على مستوى ما يجب أن يكون.
ولكن هل هو كائن فعلا؟
هل تشكل تلك العلاقة في شكلها الحالي, نموذجا مشجعا لعلاقة الشعراء ببعضهم البعض ؟
هل يساعد الشعراء الكبار شعراء الشباب: من يفترض بهم أن يكونوا شعراء المستقبل وحاملي مشعل السلالة ,على تجاوز أخطائهم , وتقديم تسهيلات النشر والشهرة والوجود لهم من خلال علاقاتهم وما يملكوه من معارف ومنافذ وجرائد وتجارب راكموها عبر تاريخهم الشعري .
ولكن بالمقابل هل الشعراء الشباب يملكون نظرة واعية ومتفهمة لهذه العلاقة والشكل الذي يجب أن ترسى عليه ؟
بمعنى ألا يشكل الشباب أنفسهم أداة فشل لتلك العلاقة من خلال كذبهم وتذلّفهم بطرق غير مشروعة للكبار , من خلال تقديم خدمات لا علاقة لها بالثقافة وغيرها.
أذكر على الصعيد الشخصي , أنني في بداية مشواري الأدبي كنت كثير الكذب فيما يتعلق بعلاقتي بالشعراء الكبار , فمثلا إذا صادفت الشاعر مظفر النواب في مقهى الروضة وسلّمت عليه وجلست معه لمدة ربع ساعة , كنت أتحدث مع أصدقائي بتفخيم, قائلا : اليوم كان عندي موعد مع الشاعر مظفر النواب وجلسنا لمدة ساعتين وتناقشنا في أمور الشعر والنثر والطاقة والإيروتيك وو…
هكذا كنت مصابا بشعور النقص تجاههم أكذب لأثبت أني أعرفهم , وأخترع قصصا لي معهم , وكلما ذكر اسم شاعر أقول أني أعرفه,
الأمر الذي أصبح يشكل ضغطا نفسيا وإبداعيا عليّ , إلى أن وصلت إلى وقفة مع الذات , راجعت فيها علاقتي بهم , وضبطتها على أساس معرفي وإبداعي فقط , متراجعا عن أخطائي , ومحاولا لملمة شظايا كذباتي المبعثرة.
السبب الذي دعاني للقيام بهذا التحقيق, أنني لاحظت أن الأمر عام وليس خاص كما كنت متوهما ,يكرره عدد لا بأس به من الشعراء الشباب , الذين يكذبون و يتباهون بمعرفتهم لمن هم أكبر منهم , متذلفين حينا وفارضين أنفسهم حينا أخر,محاولين استعراض عضلاتهم الشعرية ,في حين تكون علاقتهم بمجايليهم تحكمها المزاجية والشللية والتكبّر والنميمة.
هنا في هذا التحقيق نحاول أن نلامس إشكاليات تلك العلاقة , محاسنها ومثالبها, طبيعتها وجوهرها,من خلال رؤية الشعراء الشباب لها أولا , ثم سنرى نظرة شاعرة مكرسة ومعروفة في سوريا للأمر من زاوية مختلفة.
فكان سؤالنا الأول:
– كيف ترى علاقتك مع الشعراء الكبار إبداعيا؟
هل استفدت من تجاربهم؟
قل قلدّتهم في مرحلة ما لتتجاوزهم ؟
وكيف هي علاقتك معهم على الصعيد الشخصي , إن كنت تعرف أحدهم؟
أجاب الشاعر عبد الوهاب عزاوي قائلا:
أعتقد أن الشاعر الجيّد قارئ جيد من حيث المبدأ ويحتاج لذائقة جمالية عالية وحساسية خاصة تعيد إنتاج المادة المقروءة مع تشكيل موقف نقدي ضمني يتطور مع الزمن وأـذكر هنا نصيحة بشار بن برد لأبي نواس بحفظ عشرة آلاف بيت من الشعر ونسيانها و الأهم فعلاً هو نسيانها وذلك للخروج من عباءتها نحو مجهولٍ أجمل اسمه الشعر ..بهذه الرؤية قرأت العديد من شعراء الصف الأول كما يسمون في النصف الثاني من التسعينيات بدءاً بمحمود درويش والسياب وسواهم وأخص هذه المرحلة بالذكر دون ما سبقها لأن شعراءها الأكثر تأثيراً في مسار الشعر العربي الحديث في نقلته النوعية تجاه الحداثة ، وبالتأكيد كلما غرقت في تجربة أحدهم تتسرب كلماته ومفرداته وأحياناً هواجسه في شعري وهذا أمر ضروري جداً في البدايات والأهم القدرة على رصده ذاتياً كي لا يتغلب عليك بل لتخرج عنه بعد اختمار العلاقة والأمر يتغير كثيراً عندما توجد علاقة شخصية مع أحد هؤلاء الشعراء وهو مرهون أيضاً بنمط العلاقة ومدى صدقها فمن النادر أن تتشكل علاقة سليمة إبداعياً في مجتمع يعيد إنتاج القمع بأشكالٍ شتى وتسود فيه عقلية الإقصاء ولكن الاستثناءات موجودة دائماً فعلى سبيل المثال كان الشاعر نزيه أبو عفش من أول الذين اهتموا بتجربتي رغم قلة لقاءاتنا وبتشجيعٍ جميل خارج عن لعبة الانتهازية المتعارف عليها في الوسط الشعري السوري ..وأعتقد أن الزمن يغير كثيراً من فكرة الشعراء الكبار بل يدمرها تدريجياً ليستبدلها بفكرة شعراء متنفذين على أبواب النشر ولعبة الشهرة وهذا يجعل من العلاقات الإبداعية سوقاً للنخاسة في كثير من الأحيان وهذا يدفع ببعض الشعراء الشباب السورين إلى العزوف عن المشاركة ورفض الدخول في الأوساط الثقافية الأدبية وكذبها وحقيقةً أنا من هؤلاء الأشخاص.
أما الشاعر خالد الاختيار فقال:
قلائل هم –من بين الشباب- من يتفقون على مكيال بعينه لقياس أحجام الشعراء (الكبار), وعليه سأفهم من سؤالك أنك تقصد المكرسين إعلاميا منهم, لأقول أنّ العلاقة بهم باتت مؤخرا بالنسبة لي مغرقة في المزاجية, لدرجة يصعب عليّ أنا نفسي شرحها لـ(أنا نفسي), والجيد في الأمر أنني نادرا ما أضطـّر لذلك, كما أنـّه وشيئا فشيئا يمسي من الصعب عليّ و-السؤال عن العلاقة- أن أفصل بين ما هو إبداعي في أعمال أولئك الناس وبين ما يصدر عنهم من مواقف أو آراء فيما يتصل بالأدب وغير الأدب, أو بين ما هو شخصي تجاهي في حال كنت على صلة شخصية بأحدهم, وأعتقد أنّ ما تفوهت به للتو وصفة كارثيـّة بكل المقاييس على أكثر من صعيد!
نعم استفدت من تجاربهم,…. للأسف, ولكن برغم ذلك أعتقد أنّه لازال هناك ثمة فرصة لارتكاب الأخطاء ذاتها مجددا لحسن الحظ, وهذا أمر لا علاقة له من بعيد أو من قريب بكون المرء في سن أصغر.
أمـّا مسألة (التجاوز) تلك فشأن أعتبر نفسي غير معني به على الإطلاق, لا أحب أن أفكر أننا في ماراثون شعري, أو في سباق (نوستالجيّ) للتتابع الإبداعي, ولنعف بعضنا من الخوض في (نقديات) الموضوع المملة حقا على وجاهتها.
وللشاعر تمام تلاوي علاقة خاصة شخصية وإبداعية مع الشعراء الكبار يلّخصها بمايلي:
عندما التقيت بالشاعر جوزيف حرب قبل حوالي سبع سنوات في فندق المريديان باللاذقية (…)قام بدعوتي إلى طاولة العشاء التي كان يجلس إليها مع علي الجندي وطلال حيدر وفاروق شوشة وشاعرين آخرين من مصر وفلسطين. لقد كان كثيرا جدا على شاعر شاب, يحلم بلقاء شاعر كبير واحد, أن يدعى إلى مائدة عشاء يجلس إليها أربعة من الشعراء الكبار دفعة واحدة, لاسيما إن كان من يدعوه واحد منهم. قبلت الدعوة على الفور, هذه الدعوة كانت الفاتحة لعلاقتي بالشعراء الكبار ومعرفتي بهم عن قرب. هنالك صداقات أو لنقل علاقات معرفة ربطتني أيضا مع شوقي بزيع وعباس بيضون ونزيه أبو عفش وشوقي بغدادي وغيرها من الأسماء التي قرأتها في البدايات وكان لها ذلك التأثير الكبير والواضح على تجربتي الشعرية, هذا التأثير الموسوم بالمقابل بقلق التأثر بين السلف والخلف الذي مررت ربما بكافة مراحله التي تحدث عنا هارولد بلوم في كتابه بدءا من الانحراف الشعري وصولا إلى التضاد والقطيعة والسمو المضاد والتطهر وعودة الموتى. أما أدونيس فقد بدأت علاقتي به في جبلة عندما كان حاضرا في إحدى الأمسيات التي شاركت بها هناك. أدونيس وعلى الرغم من أنني لا ألتقي به إلا في جبلة إلا أنه لا ينسى أبدا أنني شاعر حمصي بالأساس, وكلما التقينا يبادر بسؤالي عن حمص وشعرائها. كنت قد أعطيته مخطوطا لمجموعتي الشعرية قبل حوالي ثلاث سنوات, ومع هذا فقد فاجئني بطلب النسخة المطبوعة منه عندما التقيته العام الفائت, الأمر الذي أعطاني انطباعا قويا ليس عن ذاكرة أدونيس القوية فحسب وإنما عن اهتمامه البالغ بأمر الشعراء (الجدد) أيضا.
لكنني أستطيع القول في النهاية أن شعر هؤلاء السلف هو ما يترك تأثيره الفعلي على تجاربنا ولغتنا, أما العلاقة الشخصية معهم فربما ينحصر تأثيرها في سعادتنا مستقبلا بعد أن يغيبوا عن هذا العالم .
وحول علاقة الشعراء مع وسطهم الشعري كان هذا السؤال:
– كيف ترى علاقتهم مع الوسط الثقافي؟ هل هي شللية تحكمها علاقات القربه والمعارف أم إبداعية تحكمها أصول المعرفة والأخلاق الأدبية؟
فيجيب خالد الاختيار:
من بعيد أقول, أنّ من العسير على (الكبار) -مناط سؤالك- أن ينخرطوا في شلليات وما شابه, فحتى لو تدبـّروا أمر أحجامهم التي لا تساعد عادة على هذا النوع من الأنشطة (التشلل)؛ فإنّ (أنياتهم) –جمع مفرده أي واحد منهم- بالتأكيد لن تسمح بذلك, ناهيك عن غياب التواصل الفاعل بين أفراد هذا في هذا الوسط برغم تغوّل الاتصالات فيما بينهم, فنادرا أن (تسمع) أنّ أحدا منهم قد (سمع) بالآخر, رغم أنّ (مسموعيات) هذا الأخير تطبق الآفاق بالتدريج مطلع كل مقال أو استكتاب.
ثمّ من قال لك أنّ المستشبين من الشعراء ليس لديهم شللهم الخاصة بدورهم
أما عزاوي فيرى:
عموماً نمط العلاقات محكوم بالمصالح بالدرجة الأولى وهناك مساومات خفية ولكنها معروفة سلفاً تعرض بضاعتك والآخرون يشترون حسب حاجاتهم ورغباتهم وأحيانا العلاقات الشخصية بمعنى الصداقة القديمة لها دور أيضاً والحق يقال فهذه من أقل الحالات إساءة للإبداع مقارنة بالسائد فهناك على سبيل المثال حكاية تروى عن إحدى الجهات التي ينشر المسؤول عن صفحات الأدب مادة مقابل زجاجة ويسكي ودون قراءة النص المقدم والكارثة تكمن عندما يتلوث الأشخاص الجيدون بسرعة وهشاشة حالما يصلون _ وهذا من النادر_ إلى مناصب سلطوية فيعيدون إنتاج علاقات السلطة والتهميش و المشكلة تتفاقم بسبب قلة المجلات الأدبية المستقلة وضعف الموجود منها بحيث أنها تولد متهاوية في كثير من الأحيان وللأسف يهرب معظمنا إلى النشر خارج سورية وبشكل أصدق نطرد لننشر في مجلات المهجر وبعض المجلات العربية التي تخرج عن عقلية القبيلة وأسيادها وكأننا مهجّرون إبداعياً في بلدنا إن رفضنا الدخول في اللعبة بشروطها الداخلية
وحول الظاهرة سألنا:
– نلاحظ ظاهرة سعي الشعراء الشباب للتعرف على شعراء أكبر منهم والتباهي أمام أقرانهم أنهم يعرفون الشاعر فلان والشاعر علان هل ترى في هذا ظاهرة صحية أم مرضية؟
كما نلاحظ أن لكل شاعر مجموعة شباب تدور في فلكه وترّوج له مقابل خدمات معينة كيف ترى ذلك؟
يجيب عزاوي:
للأسف هذا الأمر موجود ومعرفة الشعراء البارزين أمر مبرر إن كان في إطار التفاعل وليس التمجيد بل هو أمر ضروري بحثاً عن مشروعية في أوساطٍ أدبية لا تهتم بالأدب فعلياً ولكن المشكلة في تشكيل أحلاف ضمنية تجعل من الشعراء الشباب أبواقاً لفلان أو سواه وهذا أيضاً مقبول إن كان الأمر يتعلق بنقاطٍ خلافية وحراك أدبي فاعل يأخذ الناس فيه مواقفهم بحسب وجهات نظرهم وللأسف هذا مغيب في سورية وبالتالي يتحول لكوميديا سوداء عندما يصبح الأمر مجرد تبعية فارغة دون أي موقف نقدي.
أما خالد الاختيار فيرى:
من الطبيعي أن يكون لبعض القامات بلاط ومريدون وحوّيصة, تتباين استثماراتهم لهذه الصلات والروابط بتفاوت دوافع كل منهم, ففي حين تنحصر غاية بعضهم في التجاور والتحاور الإبداعيين, يكون حج الآخرين حولهم مرتبطا بتحصيل (فيزات) النشر والتسويق –الشاقـّة بالمناسبة-.
على أيـّة حال إن كان في هذا الوضع شيء من الشذوذ, فإصلاحه لن يتأتى بحال عبر تعميم التقذيع ونشر فتاوى سد الذرائع, فالمشكلة هنا –إن اتفقنا على أنها كذلك- لا تعدو كونها جزء -غير منظور يكاد- من ملحمة الخراب الفكري التي نحيا بين ظهرانيها, ونذكي نارها ربما حتى بحوارات من هذا القبيل, من يدري, وعليه فقد تكون هذه الظاهرة غير المستجدة -مناط السؤال- شرا لا بد منه, من دون أن أعتذر عن هذا التبسيط المخل.
وحول إن كان الشعراء الكبار يقومون بدورهم تجاه الشعراء الشباب؟
ويساعدونهم على شق دروبهم الابداعية؟
يقول عزاوي:
الغالبية لا تقوم بدورها بل على العكس تمارس الإقصاء على كل من يخالفها إبداعياً والمشكلة تكمن في سيطرة المزاج الشخصي وغياب النقد الأدبي الأكاديمي فشعراء التفعيلة يقصون شعراء النثر والعكس صحيح وكذلك الأمر بين تيار القصيدة الرؤيوية والشفوية..إلخ أي أن النص نفسه يتغير تقييمه بشكل كبير بتغير الشخص المعني بنشره ويبقى الرهان دائماً على الزمن وعلى إيماننا بمشاريعنا وبأن الشعر وجه للحياة لن ينتهي والجديد يعاني غالباً على مر العصور
في حين يرى تلاوي الأمر من منظور مختلف :
يبقى جوزف حرب بالنسبة لي هو الشاعر الكبير والأب الحنون الذي لم يتوان يوما عن مساعدتي في كل ما أحتاج إليه, بدءا من المشورات النحوية وليس انتهاء بأمور النشر, كنت أرسل له على الفاكس قصائدي الجديدة, وأستمع إلى رأيه وملاحظاته عندما نلتقي أو عبر مكالمات هاتفية مطولة بين سوريا ولبنان, ولا أنسى أبدا أنه عرض علي مساعدة مادية لنشر ديواني الثاني, هذا الأمر الذي لا بد لي أن أذكره كشهادة مني على عظمة هذا الشاعر وبلاغة إنسانيته وإيمانه بالشعر.
يمثل جوزف حرب بالنسبة لي نموذجا لما يتحلى به الشاعر الكبير من التواضع والأخلاق العالية والعطاء غير المحدود للشعر والشعراء, ولعل تأثيره الإنساني عليّ لا يقل عن تأثيره الشعري كواحد من كبار الشعراء الذين سخروا موهبتهم العظيمة وسنوات حياتهم لإنتاج دواوين شعرية مهمة.
إلى جانب الشعراء الشباب التقينا بالشاعرة رشا عمران التي تدير مهرجان شعري سنوي هو مهرجان السنديان الشعري,وسألناها عن رؤيتها لتلك العلاقة , وعن علاقتها مع الشعراء الشباب وعن طريق اختيارها للشباب المشاركين في مهرجان الملاجة, وإن كان أحدهم يتزلف لها بطريقة ما كي تسمح له بالمشاركة, فقالت:
دعني أولا أقول شيئا مهما ،، ما زال إحساسي بتجربتي حتى الآن هو إحساس من يتلمس طريقه ،، لم يراودني و لا مرة الشعور بأنني صاحبة تجربة شبه منجزة ،، هذا الشعور هو نفسه الذي يجعلني دائمة التوجس مع كل نص جديد أكتبه أو قصيدة جديدة أنشرها،،، وهو نفسه الذي يجعل علاقتي بالشعراء الشباب علاقة جيل شعري واحد مازال يبحث عن مكان له كي يثبت حضوره ،، وهنا أجد من الضروري القول أنني و بسبب انتمائي إلى الجو الثقافي منذ طفولتي بحكم البنوة فإن الوهج الذي كان يشعر به غيري من أبناء جيلي حين يلتقون بالصدفة بشاعر كبير لم يكن عندي ،،أنا لم اعرف طيلة حياتي غير الشعراء و الكتاب و الفنانين و المثقفين ،، عرفتهم بشكل مباشر و يومي ،، عرفتهم بكل لحظاتهم وتفاصيلهم ،، عرفتهم على حقيقتهم ،، بلا أوهام ،، بلا رتوش ،،لم يكن أي منهم نجما بالنسبة لي ،، لا أبي و لا غيره ،، هذا انعكس حاليا على علاقتي بالشعراء الشباب ،، أقصد الشعراء الأصغر سنا مني ،، خصوصا و أنا من الذين يؤمنون بأهمية الاختلاف و بضرورة التفرد ،، أن تؤمن بالاختلاف يعني أنك ترفض فكرة النجومية و ما يتبعها ،، يعني أنك ضد ظاهرة المريدين ،، ضد الاستنساخ ،، الاستنساخ الشعري ينتج شعرا معاقا ،، شعرا لا يعول عليه ليشكل مشهدا إبداعيا حقيقيا ،، ظاهرة النجم و مريديه تضيف إلى أمراضنا الثقافية مرضا جديدا ،، القداسة ،، يصبح الشاعر النجم مقدسا ،، و بنفس السياق سيصبح مريدوه مقدسين لاحقا ،، سينتفي هكذا أي حراك منتج و مفيد ،، أنا مع قتل الابن الشعري أكثر مما أنا مع قتل الأب ،، الأب بحكم الزمن سوف يختفي ،،الابن سوف يكون أبا لأبناء آخرين يشبهون الأب الأول ،، أعتقد أن هذا ضد مفهوم الحداثة بتطورها المعرفي و الزمني ،، ثمة شيء آخر أراه مهما أيضا هو ضمور فكرة الشاعر النجم حاليا بسبب ثورة الاتصال الحديثة التي تجعلك تمسك العالم بيديك وأنت في قرية نائية لا يسمع بها أحد ،،ثمة انفتاح معرفي رافق هذه الثورة ،، أشد تأثيرا من أي شيء آخر ،، أي شيء صار بمتناول أي احد ،، انكشف العالم أمام نفسه ،، و انكشف البشر،، لم تعد هناك أسرار حول أي شيء ،، لم تعد هناك أوهام أيضا ،، هذا أيضا يتعلق بالشعراء ،، أصبح الشاعر ،، أي شاعر كان ،، مكشوفا لدى قراء الشعر ،، عاريا ووحيدا ،، لا يغطيه شيء ،، و لا شيء يسعفه غير تفرد نصه و تميز تجربته ،، هذا أيضا ساعد على إزالة الحدود بين الأجيال الشعرية لمصلحة التجريب و الاختبار الشعري ،، اختبار للغة و للصورة وللجملة الشعرية و لعلاقة الذات الشاعرة بالعالم ،، هذا النوع من التجريب هو ما يجب أن يعول عليه لتشكيل مشهد شعري جديد ،، وهو نفسه الذي اعتمده في الدعوات التي أوجهها للمشاركة في مهرجان السنديان الذي أنظمه سنويا في الملاجة ،، لا يهمني لا الجيل و لا العمر و لا الاسم أكان مكرسا أم لا ،، ما يعنيني هو التجربة الجديدة و الشغل على هذه التجربة نحو تفردها من قبل الشعراء المدعوين ،، لهذا لا أكرر أسماء المشاركين أبدا و لا أدعو في سنة واحدة تجربتين متشابهتين .
هكذا أذن تتراوح أراء الشباب بين من يحصر العلاقة بالكبار بالجانب الإبداعي بعيدا عن علاقة شخصية ضارة, ومنهم من يرى أن العلاقة الشخصية قد تكون مكملا للعلاقة الإبداعية بما تفتحه للشاب من أفق ومساعدة على النشر وتجاوز لأخطاء البدايات الضرورية لتعلم الشاعر وتسلقه سلم الشعر, ومن يرى فيهم أباء كبار ممجدين تجب رعايتهم وتبجيهم وتحنيطهم والتبرك بشعرهم.
أيا يكن الأمر. وبعيدا عن الشعراء الكبار, ماذا عن مشاريعنا نحن الشباب؟
ماذا عن علاقاتنا ببعضنا البعض؟ هل تحكمها علاقات النزاهة الأدبية أم علاقات الشللية التي ندعي محاربتها؟
هل نعترف نحن ببعضنا حتى يعترف بنا الكبار أولا؟
هل نشتري ديوان شاعر شاب صدر حديثا لنتعرف على تجربته؟
أم ننتظر أن يهدينا نسخة معترفا بنا , وإلا فالويل والثبور؟
ونحن كيف هي علاقتنا بمن هم أصغر سنا منا؟
ألسنا “شعراء كبار” بالنسبة لهم؟ هل نرعاهم ونهتم بهم ؟ هل نكرس من وقتنا لمساعدتهم ومناقشتهم ؟ أم أننا نتجاهلهم وندير ظهرنا لهم؟
تلك الأسئلة , أرميها متعمدا ومستفزا لكي نبحث في ذواتنا وجوانيتنا بحثا عن أمراض نحملها نحن أيضا؟ تعلمناها ممن سبقونا , نهجوهم بها ونمارسها في نفس الوقت شئنا أم أبينا
فلينظر كل منا في ممارساته ومعاملته , وسيجد في نفسه “شاعرا كبيرا” يتصرف مثله ويفعل مثله ويقصي مثله ويتزلف مثله؟
راجعوا ذواتكم ؟ ثم حاسبوني.
ولكن ما سبق لا يعني إسقاط أخطاء الشعراء الكبار من الحسبان , وتخليهم عن واجبهم في رعاية المواهب الشعرية وفسح المجال أمامها لتأخذ دورها من الاهتمام والمتابعة, بل هم يتحملون قسما كبيرا ونحن نتحمل القسم الأكبر منه.
لأن الأمر في نهاية المطاف , هو أمر ثقافة واحدة , ثقافة ترفض الأخر وتحتقل باليأس والخنوع, ثقافة تقزّم العقل الحر ,لصالح عقل معتقل مصاب برهاب الخوف من التجرؤ على “الكبار “والكبريات.
وهنا يكمن دورنا , في العمل على تحرير العقل, والاعتراف بالأخر مهما كان مخالفا,والسعي لإيجاد مشاريعنا الخاصة بعيدا عن كبار لهم مشاريعهم الخالصة , هم أبناء مرحلة ونحن أبناء أخرى, نلتقي معهم ونختلف معهم , نلتقي في جوهر الإبداع الذي لا يقف عند كبير ولا يتوقف نهره عند أحد, ونختلف معهم شعرا ونثرا وفكرا وطرق تعبير جديدة علينا نحن إيجادها , والاختلاف عنهم بها, وإلا لا معنى لنا ولشعرنا إن كان سيعيد إنتاجهم بنسخ مشوهة.