صفحات ثقافية

موت الصورة في عصر الإعلام الفائق؟

null
محمد الحدّاد
كل صحيفة كتابة وصورة، ونحن الذين نقرأ الصحف عادة ما نهتم باسم كتبة المقالات لكن نادراً ما نهتم بمصدر الصور المنشورة فيها، مع أن هذه الصور لا تقل أهمية عن الكتابة في تمرير الأفكار والمعلومات وترسيخ الانطباعات في الذاكرة. ربما لهذا السبب لم يحظ الإعلان مؤخراً عن إفلاس مؤسسة «غاما» باهتمام خاص، لكن الذين مارسوا الصحافة في البلدان الفرنكوفونية يعلمون أن «غاما» كانت أحد ثلاثة مصادر رئيسية لصور الصحافة (جميعها يتخبط حالياً في أزمات مالية خانقة)، وأن الكثير من الأحداث الضخمة كانت تصلنا عبر صور مصدرها هذه المؤسسة، ناهيك عن الصيت الأسطوري لمؤسسة «غاما» التي كانت قد نقلت إلى العالم كله ثورة الطلبة في أيار (مايو) 1968. إنّ إفلاس غاما في عالم الصورة الصحافية يعادل إفلاس إحدى وكالات الأنباء، «فرانس براس» مثلاً، أو إحدى الصحف ذات الانتشار العالمي مثل «لوموند».
لماذا أفلست «غاما»؟ يقول مديرها إنّ سبب الإفلاس هو موت الصورة في عصر الإعلام الفائق (hyper-communication). لم يعد القارئ يهتم بالصورة الجادة، ولم يعد المثل الأعلى ذلك المصور الذي كان يقتحم أهوال القارات البعيدة والحروب الضارية ليلتقط صوراً نطّلع عليها كل صباح في صحيفتنا المفضلة. ولم تعد صور المجاعات والحروب ولا الإضرابات العمالية أو الطلابية ولا صور البؤس، بل ولا المواعيد السياسية الكبرى، هي التي تجلب القارئ. ما يجلب اهتمام القارئ هو صور النجوم التي تلتقط برضاهم أو بتواطؤهم، والأفضل أن تلتقط من دون رضاهم. من هنا سقط دور «كبار المراسلين» الذين كان يعهد إليهم بتصوير الأحداث الخطيرة، وقد سقط العشرات منهم ضحايا أداء مهماتهم. وبرز دور «الببارازي» الذين أصبحت كلّ الصحف مضطرة الى التعامل معهم، لأن صورهم هي التي تجلب القراء للصحيفة، وكل الصحف المحترمة وجدت نفسها مجبرة على مسايرة هذا الاتجاه، بل هي تتسابق لنيل هذا النوع من الصور، بينما انتشرت عادة المزاد العلني لبيع الصور التي التقطت بطرق مشروعة. إن الببارازي في عالم الإعلام يشبه دور المضارب (Trader) في عالم البورصة المعولمة، الجميع يدين هؤلاء علناً ويتسابق للاستفادة من خدماتهم.
ثمة مشكلة بلا ريب تتعلق بمستقبل حرية الصحافة والإعلام. كأن الناس أصبحوا يمارسون المنع من تلقاء أنفسهم ويهربون من رؤية حقائق العالم وبؤسه، لقد انهارت الأحلام الكبرى وتبخر الأمل في التغيير الجذري، فلماذا سيهتم الناس حينئذ بمشاكل هذا العالم؟ لكن أليس هذا الوضع الجديد خطراً على حرية الصحافة والرأي مستقبلاً؟
هنا يبرز معطى آخر قد يكون البديل المستقبلي لعمل كبار المراسلين قديماً. قد لا نكون مضطرين الى أي من هؤلاء مستقبلاً لكشف فضائح العالم، فأنا وأنت وأي إنسان يحمل هاتفاً نقالاً بكاميرا (أي كل الناس تقريباً) يمكن أن يقوم بهذا الدور. لدينا مثال جيد على ذلك حدث في فرنسا هذه الأيام. وزير الداخلية يتجوّل في جامعة صيفية نظمها حزبه السياسي، يتقدم إليه شاب ذو ملامح عربية ويطلب منه التقاط صورة معه، لم يكن يوجد صحافيون محترفون ولا كاميرات تلفزيون، يوجد فقط الوزير وبعض الشبان حوله، وفي اللحظة التي يقف فيها الشاب إلى جانب الوزير لالتقاط الصورة يدعوه أحد رفاقه باسمه: أمين، فتتوالى التعليقات حول أصله العربي. يقول أحدهم: إنه يتحدث اللغة العربية، فيضحك الجميع. ثم تقول إحدى المرافقات إنه عربي لكنه يأكل الخنزير ويشرب النبيذ (بمعنى أنه يمكن أن نثق به)، فيعلق الوزير: إذا كان الأمر على هذا الشكل فإنه غير مفيد، نريد شخصاً يكون بالصورة النمطية للعربي. تقول المرافقة: إنه العربي الذي نستعمله. يقول الوزير: لا بأس، إذا وجد عربي واحد فلا بأس، لكن إذا كثر عددهم تكثر المشاكل.
حادثة من حوادث العنصرية اليومية لم تكن لتبرز للوجود وتتحول إلى حدث إعلامي لولا أن مجهولاً كان يصور المشهد بالهاتف النقال. هذا المجهول ليس من كبار المراسلين ولا يعمل لمؤسسة أو صحيفة، كان موجوداً بالصدفة على ما يبدو وصدم لهذا المشهد العنصري فأعطى الصور إلى صحيفة «لوموند». من سوء حظ هذا الوزير أنه قد تخلص قبل أسابيع من أحد خصومه، وهو مسؤول أمني كبير، بإحالته إلى التقاعد بتهمة العنصرية! كان هذا المسؤول بدوره قد قال لرجل جمارك أسود اللون أراد تفتيش أمتعته: أصبحت مطاراتنا مثل إفريقيا. مشهد آخر من العنصرية اليومية التي انتشرت في أوروبا من دون رقيب ولا رادع. طالبت الصحافة والمعارضة أن يطبق الوزير على نفسه ما طبقه على ذلك المسؤول الكبير الذي أقيل من منصبه وأحيل على التقاعد. وتواصلت الضجة الإعلامية والسياسية عدة أيام…
هل يمكن لأحداث من هذا النوع أن تكون عنصر تفاؤل، أقصد طبعاً فضح الصورة المجهولة الهوية لمشهد عنصري، وليس المشهد نفسه؟ هل أننا في صدد الانتقال من وضع الى آخر لأسباب تكنولوجية وليس لأسباب أيديولوجية؟ هل انهارت الصورة الصحافية المحترفة والملتزمة نتيجة «دمقرطة» وسائل التصوير وانكشاف العالم كله أمام أنظار الجميع؟ هل سيؤدي ذلك إلى مزيد من التضييق على المعلومة والتلاعب بالعقول، أم أنه سيصبح عسيراً في المستقبل إخفاء أي شيء لأننا نتحول جميعاً إلى مصورين محترفين وأصحاب رأي في الصحف قادرين على فضح المسكوت عنه؟
إنّ مستقبل الديموقراطية في العالم رهن متابعة هذه التطورات الجذرية التي تحدث في المجتمعات المتقدمة، مع أنها قد تبدو قليلة الأهمية أمام الأخبار اليومية، ولا تتضح من أول وهلة خطورتها على مستقبل البشر.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى