مرثية الخطاب وفصام الانتلجنسيا
بشير عيسى
1
في بلاد الرقابة، بلاد المنع، انتظرنا عقوداً طويلة كما انتظر البعض من أسلافنا زوال السيف ومقدس الكلام. خرجنا من سلطة النص وسلطة الفقيه بعد عقود طوال لنرى مؤدلجي الثقافة من حملة الشعارات ينادون بفجرٍ ملؤه الحرية. صار لهذه الحرية مؤسسات وأجهزة عسكر، وإعلام وبصاصون يراقبون كل كلمة وكل حرف، ودفاعاً عنها وخوفاً عليها نبت العنف فينا. كمّت الأفواه وصودرت الأفكار وتحولت البلاد إلى غير بلاد. انتصر الخوف علينا. أعدنا إنتاج الخليفة ببنطال وقميص. استنطقنا النص بأقبية الإعلام ليصير هو الآخر خطاباً مقدساً تمشي على هديه “ثورة الأحرار”. يأمرون بالطاعة وينهون عن السؤال والتساؤل. وكي لا تصير الحرية فوضى فتدخل من جنباتها ثقافة التخريب، قام كتّاب الثورة بسد كل المنافذ. سيّجوا نصب الحرية، أصبحوا حراساً وفرسان هيكل، يخوضون من مواقعهم بطولات الوهم ضد الآخر في ذاته. تملك العنف خطابهم فصار نصاً صنمياً، وصارت الثقافة طقساً للفحولة، فغابت عن رؤاهم إشارة الأنوثة ومخاضات ولادة الجديد. إنه شكلٌ آخر للعقم الذكوري الذي يعيد إنتاج الماضي بطبعة الحاضر. شكلٌ آخر لولادة الموت حيث الثقافة تنحر بذاتها منذ ان سوّق السيف خطابه.
لم نعد نرى للحقيقة وجهاً. صار الوجع والجوع، بل الإقصاء والموت، رأياً ووجهة نظر تحتمل تأويل الكلام في الخطاب. صارت البداهة جدلاً يستعيد “ملائكةً على رأس دبوس”. رحلنا في وهمنا نبحث عن عروبة الرحمن وشيطان الآخرين. بامتيازٍ، دخلنا النص، غصنا في أعماقه، تماهينا به، صرنا جزءاً من تكوينه. نحن المطلق والآخر هو الضلال وسقفه احتمال. لم نعد قادرين على القراءة منذ ان بلغنا. حملنا خردة الأسلاف في رؤوسنا تمائم تملك مفاتيح الغيب. أصبحنا كلاماً ميتاً فوق أوراقنا الصفراء، وحيدين في قلب هذا العالم، ننتظر أن يبعث الآخر المختلف الروح فينا ليعيد قراءتنا من جديد. ربما ترى الأنا بعدها ميلاداً أخّرته هجرة الجمع نحو رموز الآبدين.
2
كم تمنينا حين جاءنا العالم أن نكون جزءاً نابضاً منه. كيف مددنا يدنا من صحوة الموت للمختلف فينا، بعدما سمعنا “كلاماً” ينحني لنا لا ننحني نحن له، لنكون أقرب إلى المقدس لا الكلام. تآمرت الإنتلجنسيا هي الأخرى على نفسها، تحرضها ثأرية العقل بحقٍّ ضائعٍ مسلوب، فراحت تمارس من موقعها شكلاً آخر للإقصاء، يحركها ظلمها المكبوت وتستمد منه شرعية القيادة في الفكر والمعرفة، جاعلة من نفسها معقلاً ثقافياً لا يمر التغيير إلا من خلالها كسلطة معرفية تفرض قوانينها وشروطها في الكتابة والخطاب، لتقرر بعدها من منا نحن الكتّاب يخرج إلى النور ومن يبقى في الظل. هذا كلّه، في حالة متناغمة مع فصامها المدجج بالهواجس، قاطعةً الطريق عبر تأويل الخطاب وفق مقتضيات الحداثة عن كل ما هو مختلف، تحت مسميات أكثر حداثوية، تعيد من خلالها إنتاج تسلط معرفي يحاكي التسلط السياسي، على اعتبار أنها وحدها القيّمة على جميع سلطات المعرفة، وإن بخطاب مغاير.
هذه اليقينية تئِد كل عملية قطع معرفي من شأنه الخروج من النظم والأفكار المبرمجة إلى مرحلة أكثر خلقاً، مؤسسةً لحالة حراك يمكن ان تُخرج العقل من يقينياته، تقليدية كانت أم حداثية. ربما لا نستطيع أن نخرج من تاريخية جلدنا ولا وعينا الجمعي. تتحرك ذهنية الراعي والرعية، القائد والأتباع، الأمين والرفيق، والكل يعيد إنتاج التسلط من موقعه.
ربما تختلف المسميات، غير ان الممارسة والسلوك متماثلان في الطبقات والشرائح. فمتى نشفى من هذا الجرح النرجسي ونفتح الباب لفوضى الحرية؟ متى نترك للتاريخ ان يصطفي حراكنا الفكري؟