قليلاً في شٍعْر محمد الماغوط
علي جازو
رأى فرويد أن الإنسان كائنٌ نائم في المقام الأول. النوم أرض الأحلام حيث رفقة الظلال وأطياف الصور وأحداث الذاكرة وخيالات الرغبة، وقلب الآلام الصامت. من النوم ـ بالمعنى الخالق للصور والأوهام الثمينة ـ عثر الماغوط، دون عناء ظاهر، على ممر سهل يصل الأحاسيس الخالصة بصور حيوية متوثبة. أجّجَ إمكانات النثر الحرفي والرؤية العينية مهملاً البعد الماورائي للشعر. تعلم بسرعة ودون خوف. جاء نيّئاً ومرفرفاً فحاز بذخاً حسياً خشناً يعينه لهاثُ طفلٍ مدهوش بمطالب روح عجولة ولا مبالية. لا يفكر الماغوط إلا عبر الصور، ولا تقدم الصورة سوى الشكل الحسي والحميم لعواطف منفعلة وصرخات هادرة. إن الخبرة الحسية بطبيعتها النيّئة المباشرة لا تتحول لدى الماغوط إلى تمثل عقلي أو فكري، إنما تظل لصيقة بما بدرت عنه وتشكلت وفقه. تشرق الجمل ، تدور على نفسها مؤكدة الإحساس بالصورة فقط. على هذا فإن الماغوط لا يعاني نقصاً في قوة الصور قدر ما ينوء تحت شُحٍّ غزير في التحولات الذهنية والتأمل الفكري. وما يميز صور الماغوط عدا اختلاطها غير المراقب وتلاحقها الفاتر أحياناً، قدرتها على البقاء في حالة من استمرار التنبيه على إحساس سريع أو منظر قصير. إنها تعمق الحس وتثبت الألم وتكثف النظر وتنقل الانفعال. قصائد صورية أشبه بممرات لامعة ومداخل غافية. لا نبع هنا. الحسية هي النبع. إنها أشبه بما أصطلح على تسميته بالصور اللاحقة after images وهي الصور التي تحدث وتدوم معلقة عند حاسة الإبصار المفاجئ بعد انتهاء مثيرها الحسي. شعر محمد الماغوط مصاغ من لوعة ومادة الحسية النافرة، والخشونة الضاغطة المتسرعة. شعرٌ نما وتشجَّر على وتيرة الشرود المتفجر، ومزاج الصحوة المباشرة الآنية، والبداهة الفطرية الآسرة! شعرٌ فيه الكثير من استبدان الشعر وتجسيمه المتصوَّر، بجمعه وإضغاطه وإرعاشه في اللسان والعين والجسد. شعرٌ كلامٌ طائرٌ أرضيٌ قال عنه الماغوط نفسه في مقطع من إحدى قصائده: ( أنا طائرٌ من الريف. الكلمة عندي إوزة بيضاء، والأغنية بستان من الفستق الأخضر..)، كذلك نقرأ مقطعاً من قصيدة (الصديقان) من ديوانه غرفة بملايين الجدران: (آه يا صديقي/ ما أشهى النسيم الذي مر بنا منذ عام/ في نفس الصيف/ونفس المكان/ كان باردا ولاذعا كالوحش/ يدخل سراويلنا كألسنة الخراف البيضاء). يذكرنا هذان المقطعان من شعر الماغوط بمقطع من قصيدة لفرناندو بيسوا من (راعي القطيع): “أنا راعي القطيع / القطيع هو أفكاري/ وكل واحد من قطعاني هو الشعور./ أنا أفكر بواسطة العينين والأذنين/ واليدين والقدمين/ والفم والأنف”. لكن الماغوط بالمقابل لا يتكئ على الطبيعة كما عهدناها في الشعر الرومنتيكي المتعالي والمعتمد على ذاتية متضخمة هي مزيج من الوهم العميق والاستبطان المجرد. إن محمد الماغوط لا يقصر حسيته الباهرة المتدفقة على ما هو من مدار الحواس فقط وتوسل الأحلام فقط. إنه يكتب وقدماه في الوحل ، إنه يكتب وقلبه يرتعش بين يديه، إنه يكتب وعيناه غارقتان في دموع السماء. ثمة هذه المادية البدائية المرتجَّة الشكاكة المتقلبة وقد عجنت وترسمت وفارت بظهور شديد، ثمة خيبة الجسد العاشق المهتز قاسية ممدوحة وشاملة.لا أثر لكد المخيلة المعيقة، بل هي تتدفق كما تحيا مضغوطة وهائجة وراغبة، إنها تتكاثف في حزن ضار، حزن قال عنه الماغوط إنه مثل الله موجود في كل مكان. على الأرجح أن الحسية الصلبة واليقين الدافئ والطبيعة الحرة والمقتناة، لريفي لم يألف نعومة وطراوة المدن الطيعة والمجاملة الثرثارة والخاملة والمهادنة، بلا تأمل بطيء ولا إرجاء كابت، هي طرق في التعبير وليست وسائل شبحية فقط! الوسائل المنَظَّرُ لها ، من قبل أدونيس مثلاً، لم تمنع الشاعر من نكران دورها المعيق وتسفيهها للفكر الحسي المتعضي بعضه من داخل بعضه، النامي من الداخل صوب الخارج، من سوداوية وبهجة الدم الشهواني إلى ممرات المدن الجامدة الحابسة. قصيدة الماغوط لا تتلقى صدى من خارجها ولا تنتظر حضناً يواسيها ولا تشكو جمهوراً واسعاً ولا تتزلفه. إنها تمنح وتعطى وتمضي غير مكترثة بمن أخذ واحتضن وحاز. فهي ـ كما لو أنها تتناسل وتنبثق بلا توقف ـ وبمهارة نادرة تتحول لدى الماغوط من شحنتها المأسورة إلى ذروة محتشدة وصادمة. الحسية هنا هي طريقة للتفكير أيضاً، واليقين الساخن أثر من آثار الحلم المنفعل لا السكينة الزاهدة، الغضب الارجواني لا الرضى الثابت، الحب المتسرع لا الوداعة الهانئة! الكلمة حس متجسد وانفعال ذهني متسرع وسذاجة مختارة وفكرة ملموسة وصور متفجرة. شعرٌ دفءٌ وحرارة توالد متدفق. شعر الماغوط لا يحرض على الصبر ولا المهادنة ولا القبول. شعر لم يجعل من الطبيعانية ملاذاً ولا هدفاً. فالماغوط لم يرفع الحس إلى تهويم غامض، ولا الطبيعة إلى قداسة مؤلهة، ولا الحسية الحميمة إلى شبقية مجانية. الحسية هي أسلوب مزدوج ومركب. إنها في الآن بديهية وممنوحة وغير قابلة للنفاذ. لذلك ربما سيحتفظ الماغوط بجمهوره السابق واللاحق من الأجيال الجديدة. فالجهل ـ أحد أسباب الشعر القوية ـ الذي يغذي الحسية الجائعة والنهم الفطري، مازال يغذي الجمهور. هو شاعر لم يكتب لأجل زمن بعينه، وربما على كل شاعر ألا يكتب لأجل زمن بعينه، فالزمن يمحو الجميع. الشاعر يكثر من الشعر حين يكتب القصيدة، وزمن الشعر مرهون إلى الانفعال الجمالي الأرقّ الأكثر سمواً والأشد قسوة وحرجاً وإرباكاً. واهمٌ من يتصور أن الشعر ينقذ، وواهمٌ من يظن أن الشاعر ينجو. وحده الشاعر يغرق فيما القصيدة تطوف فوق وجهه مثل تلويحة أو نظرة أخيرة بلا أمل في أي شيء سوى جعل الوداع نفسه قصيدة مستمرة ودافئة. إن قصيدة الماغوط لا تتراخى لأنها لا تفكر كثيراً ولا تتردد وهي تنكتب وتولد وتتبعثر. إن لحظة الكتابة ولحظة الفكر ولحظة الولادة ولحظة الفقد والتشتت واحدة ومختلطة. إنها مكونة من معرفة بسيطة قريبة لكن ممتلئة وزاحفة وفياضة، من ثبات ملتوٍ هو الخلاص والرفض، من طبيعة مرئية واضحة لكن سخية مرتعشة ونابضة. تخرج الكلمات، جارحة ومسننة ومبرية، من فم الماغوط. الفم مثل العقل يفكر ويرى ويحلم ويمسك من العقل والحلم جسديهما المدهشين الحزينين. كلمات مبرية خشنة. ولأنها ابنة الأنفاس المتحولة لا الإيقاع الجاهز، تتنبَّرُ وتتشكل وفق انبثاق حار وليد. شعر متدفق حين يستوي لدى الشاعر الكلام السهل والتصور المنفعل، فالصوتُ شقيق الفكرةُ، الانفعال القابضُ والحسية الجمالية المهيمنة مترافقان. على هذا يقدم شعر محمد الماغوط تجربة فريدة في عالم الشعر المعاصر. وهي تجربة ستدرك السنوات القادمة مدى عنفوانها المرير وتقلبها اليانع ورواجها المخدوم، إنْ لجهة تحول طاقة الكلام من التوتر الانفعالي إلى زخم واحتشاد الأحاسيس أو من جهة سهولة تقليد الماغوط، وهي سهولة خطرة ومرغوبة؛ كان من مساوئ اتباعها الجامد الركيك كثرةُ النماذج المنسوخة وغيابُ التجديد الحقيقي! أنْ يعاد إلى الكلام سحره، وأن يمضي السحر من وهم العفوية إلى الاختناق الحسي، ومن الأمل الخادع إلى الخواء الشرس، ومن الغد المأمول إلى قبْر كل لحظة وتجويفها كحلمات نهود قال عنها الماغوط بعد أن فقدت بهاء شكلها ومذاقها الإنسيابي إنها أشبه بغلايين مجوفة. خليط يائس من رفضٍ زاهٍ وتبعثرٍ فاتر، تمنحنا إياه إعادة قراءة الماغوط بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على رحيله، أو بقول جورج شحادة: على (كمال نومه الأخير).