ما الذي حدث لهذا الشعب العظيم وكيف وصلت به الأمور إلى هذا الحد؟
د.نضال الصالح
المتاهة: كانت تجوب شوارع المدينة وفي يدها ورقة وتسأل المارة” ألمانيا ألمانيا “؟
رن جرس الهاتف فاستيقذت مذعورا. نظرت إلى الساعة فوجدتها لم تتجاوز الرابعة صباحا. أنا أكره رنين الهاتف في الصباح الباكر، إنه في العادة يحمل أخبارا سيئة. رفعت سماعة الهاتف وقلت نعم. جاءني صدى صوت نسائي ليقول: ” أنا الممرضة بيجي، أنا آسفة لإزعاجك في مثل هذا الوقت ولكنني في حاجة لمساعدتك.”
بيجي ممرضة معروفة، تعمل في قسم الأطفال التابع لمستشفى السرطان وقد ألفت كتابا بعنوان ” أطفال قلبي” حكت فيه عن قصص مجموعة من الأطفال الذين دخلوا المستشفى لعلاجهم من مرض السرطان وماتوا بين يديها وهم يعتقدون أن الملائكة ستأخذهم إلى مكان جميل كله فرح ولعب أطفال. كانت قصص محزنة ومؤثرة جدا ولقد لقي الكتاب رواجا كبيرا مما دفع محطات التلفزيون للتسابق على إجراء الحوار معها كما تقدمت مجموعات متعددة من الشركات بالتبرع بأموال أو شراء بعض المعدات للمستشفى وخاصة لقسم الأطفال.
عرفت من الممرضة بيجي أن السلطات قد أحضرت إلى القسم إمرأة عربية مع طفلها وجدوها تائهة على الحدود السلوفاكية المجرية. بعثوها للفحص الطبي كالعادة بالنسبة للمهاجرين فوجدوا أن طفلها يشكو من سرطان الدم فحولوها وطفلها إلى مستشفى السرطان. أضافت الممرضة بيجي أن المرأة عربية ولا تتكلم أي لغة غير العربية ولم يستطيعوا التفاهم معها. أضافت” أنا لا أعرف من العرب غيرك وأريدك أن تساعدني في التفاهم مع المرأة”. وعدتها بالمجيء باسرع وقت. لبست ملابسي بسرعة وخرجت من البيت، ركبت سيارتي وتوجهت إلى مستشفى السرطان.
مرض السرطان له هيبته بغض النظر عن حقيقة يجهلها كثير من الناس أن أمراض القلب والشرايين أكثر فتكا بعدة مرات من مرض السرطان. زيارة قسم الأطفال في المستشفى يتطلب عزيمة وقوة إرادة، فمنظر الأطفال الصغار، حليقي الرأس منهكين من الكيماوي ومن سريان المرض في خلايا جسمهم يدفع الدموع إلى العيون. لم أستطع في كل زيارة أقوم بها إلى هذا القسم أن أمنع نفسي من البكاء وكنت أهرب إلى الحمام وأبكي هناك خوفا أن يراني الأطفال.
دخلت القسم وكان الأطفال ما زالوا نياما. توجهت إلى مكتب الممرضة بيجي وقرعت الباب. إستقبلتني بابتسامة قلقة ومسكتني من يدي وأخذتني إلى إحدى الغرف. كان هناك طفل صغير مستلقيا على السرير وبجانبه جلست إمرأة على أرض الغرفة. من لهجتها عرفت أنها عراقية ولكن صعب علي تقدير عمرها ففي تضاريس وجهها مرسوم كل الوجع والهم العراقي.
زوجها ترك العراق منذ فترة وذهب يبحث عن العمل في ألمانيا. بعث لها أن تلحقه ولقد بعث لها عنوان بعض الأشخاص الذين سيسهلون مهمة سفرها. باعت كل ما تملك، ومع أن زوجها كان قد دفع للوسطاء المبلغ المتفق عليه إلا أنها إضطرت أن تدفع في العراق مبلغا إضافيا.
جاءت مع طفلها مع مجموعة من العراقيين، وتبادلهم الوسطاء في الطريق حتى وصلت إلى مكان قالوا لها ولأفراد المجموعة هذه هي ألمانيا وتركوهم على الحدود السلوفاكية بدون جواز سفر، كل إلى مصيرة. تاهت وهي تجوب الطرقات وبيدها ورقة مكتوب عليها عنوان زوجها في ألمانيا. كانت توقف الناس وتقول لهم الكلمة السحرية “ألمانيا، ألمانيا” حتى أوقفها حرس الحدود ونقلوها إلى معسكر المهاجرين الدولي حيث اكتشفوا أن إبنها مريض بسرطان الدم.
حاولت أن أشرح لها بأنها في سلوفاكيا وأن ألمانيا بعيدة وأن طفلها مريض بسرطان الدم وأنه في حاجة ماسة إلى العلاج. كانت الدولة مستعدة لعلاجه على حسابها الخاص وكان عليها أن تقيم في المعسكر حتى يتقرر مصيرهما. ولكنها كانت ترفض ترك طفلها ولقد واجه المستشفى مشكلة في غاية التعقيد وكان السؤال المطروح أمامهم، ما العمل مع هذه الأم التي ترفض ترك إبنها؟ المستشفى لا يستطيع توفير الإقامة لها في غرفه أو أي مكان آخر. عرضت عليها أن تاتي وتقيم عندنا فرفضت. اتصلت بصديق عراقي جاء وعرض عليها الإقامة عندهم فرفضت. في النهاية وافقت الممرضة بيجي على إبقاءها بالسر بجانب طفلها على أن تخفيها أمام أعين المسؤولين في النهار.
تركتهم وذهبت إلى البيت وفي عقلي دوامة من الأفكار والأسئلة، ما الذي حدث لهذا الشعب العظيم وكيف وصلت به الأمور إلى هذا الحد؟ وما الطينة التي صنع منها أؤلئك الوسطاء الذين فقدوا إنسانيتهم واستغلوا مأساة هذا الشعب وأخذوا في المتاجرة بآلامة؟
كانت الساعة قد قاربت منتصف الليل عندما رن جرس الهاتف. كانت الممرضة بيجي من جديد وكانت منفعلة، صاحت” لقد أخذت إبنها وهربت”. قلت لها كيف وإلى أين؟ قالت ” غافلتنا وأخذت طفلها وهربت ولا ندري أين ذهبت.”
بحثوا عنها فلم يجدوها. بعضهم قال أنها كانت تجوب شوارع المدينة وفي يدها ورقة وتسأل المارة” ألمانيا ألمانيا ؟
شبكة العلمانيين العرب