وفاة آخر العثمانيين الكبار تحيي ذكرى السلطنة
د. بشير موسى نافع
شيع في اسطنبول في جنازة ملفتة، يوم السبت الماضي، أرطغرل عثمان أوغلو، كبير الأسرة العثمانية، الذي توفي عن 97 عاماً. كانت الحكومة التركية، وفي استثناء نادر، قد سمحت بأن تجري جنازة الأمير العثماني في جامع السلطان أحمد، أحد أضخم مساجد العاصمة العثمانية وأجملها، والمعروف لدى الغربيين باسم الجامع الأزرق؛ والذي لا يسمح أصلاً بعقد صلوات الجنازة فيه منذ زمن.
وقد شارك في الصلاة والتشييع عدد من كبار حكومة حزب العدالة والتنمية، مندوبين عن رئيس الوزراء الطيب رجب إردوغان، المتغيب في الولايات المتحدة لحضور جلسات الجمعية العامة ومؤتمر مجموعة العشرين. كما شارك عدد من كبار الإعلاميين وأبناء بعض من أبرز العائلات المالية والاقتصادية في اسطنبول، علماء ومتصوفة ووجهاء ومندوبين عن جمعيات أهلية ودينية، بعض ممن تبقى من الأسرة العثمانية، وعدة آلاف من المواطنين. أرطغرل عثمان أوغلو ليس بالطبع آخر أبناء الأسرة العثمانية، فهناك الكثير منهم، يتوزعون على بقاع الأرض، وقد عاد عدد كبير من ابناء الأسرة بالفعل إلى تركيا في العقود القليلة الماضية؛ ولكن أرطغرل هو كبير الأسرة وآخر من تبقى من أمرائها الذين ولدوا في سنوات الحكم العثماني، وفي قصر يلدز على وجه الخصوص. وهو إضافة إلى ذلك حفيد عبد الحميد الثاني (حكم 1876 1909)، آخر السلاطين العثمانيين الكبار.
على نحو ما، يمكن القول ان الجمهورية التركية قد سددت بعض دينها للأسرة العثمانية، كما علق المؤرخ التركي البارز إلبر أوتايلي، مدير متحف طوب كابي سراي، على هامش الجنازة. في 1924، بعد عام واحد فقط على إلغاء السلطنة وإعلان الجمهورية، أصدر المجلس الوطني الكبير (البرلمان التركي)، بإيعاز من الجنرال مصطفى كمال (أتاتورك)، رئيس الجمهورية، قراره بإلغاء الخلافة. وخلال ساعات كان آخر الخلفاء العثمانيين، وكل أفراد الأسرة العثمانية، يوضعون في قطار متجه إلى القارة الأوروبية، مطرودين من البلاد نهائياً. استقر أرطغرل بصحبة والده في العاصمة النمساوية فينا، وفي 1933 هاجرت العائلة للمرة الثانية إلى الولايات المتحدة. تزوج أرطغرل من سيدة، سليلة الأسرة المالكة الأفغانية، ومعها عاش في شقة من بناية عادية في حي بروكلين بمدينة نيويورك، ومنها عاد إلى تركيا في 1992، وقد بلغ الثمانين من عمره. كانت الدولة التركية قد أعلنت عفواً (لم يعرف أحد عن ماذا) عن الأسرة العثمانية في 1974، مما سمح لمن رغب من أبنائها بالعودة إلى تركيا. ولكن أرطغرل لم يمنح الجنسية التركية إلا في 2004، بعد مقابلة له مع رئيس الوزراء إردوغان. في العديد من الأحاديث الصحفية التي أجراها خلال العقد الأخير، كرر أرطغرل عثمان أوغلو دعمه للنظام الجمهوري؛ وبالرغم من دفاعه، ذي الطابع الأكاديمي الهادىء دائماً، عن الميراث العثماني وارتكازه إلى الشريعة الإسلامية، فقد ذكر في الوقت نفسه بأن حركة التحديث العثمانية بدأت قبل زهاء القرن من إلغاء الخلافة والسلطنة، وأكد قبوله بالأسس العلمانية لتركيا الحديثة. ولعل الأمير العثماني الراحل، الذي كان يتحدث عدة لغات أوروبية بطلاقة، إضافة إلى التركية والإنكليزية، كان أقرب إلى مثقف غربي منه إلى الصورة التقليدية للسلاطين العثمانيين في حقبة ما قبل التحديث.
جاءت وفاة أرطغرل في لحظة حاسمة وحرجة من تارخ الجمهورية. على نحو رمزي، وبالرغم من أن أرطغرل لم يطالب يوماً بالعرش العثماني كما ورثاء الأسر المالكة الأوروبية الذين خسرت أسرهم عروش ممالكها، فإن وفاته تعبر عن نهاية أخيرة، نهاية ما بعد النهاية للسلالة التي أقامت واحدة من أطول الإمبراطوريات الإسلامية عمراً واتساعاً، وظلت لأكثر من ستة قرون جزءاً من توازن القوى الأوروبية، من ثقافة واقتصاد وحياة أوروبا، وشوكة في الخاصرة الأوروبية في الآن نفسه. وفاة أرطغرل عثمان أوغلو تؤشر إلى غياب آخر أمراء القصور والنشأة العثمانية. من تبقى من أبناء الأسرة، ولد في المنفى العربي أو الأوروبي، وبات أغلبهم لبنانياً أو مصرياً أو سويسرياً أو فرنسياً. لم يكن لدى أي من الأتراك، حتى أولئك الذين يحملون حنيناً ما للميراث العثماني، أدنى تصور لإمكانية استعادة السلطنة، أو أن خلافة عثمانية جديدة يمكن أن تنشأ. هذا تاريخ مضى، ومضى بعد انعطافة مأساوية وثقيلة الوطأة في تاريخ الشعوب العثمانية، انعطافة ما بعد الهزيمة البالغة في الحرب العالمية الأولى وتقسيم الممتلكات العثمانية إلى دول تحتلها الإمبرياليات الأوروبية وتتحكم في مصيرها. ولكن حتى التخلص من السيطرة الأجنبية وتحقيق الاستقلال لم يضع حداً لأزمات ما بعد الحقبة العثمانية المستعصية، ولم يصنع سلماً أو استقراراً يطمئن له، لا في الجمهورية التركية ولا في الجمهوريات والممالك العربية، التي ولدت من رحم الانهيار العثماني.
لم تخل الحقبة العثمانية من حلقات عنف وصراع، ولكن هذا العنف والصراع كان فوقياً ولم يكن مؤسساتياً؛ بمعنى أنه كان عنف التدافع بين القوى الحاكمة، أو بين بعض الطامعين من الولاة والأعيان وقادة الجند، من جهة، والمركز العثماني، من جهة أخرى. في جوهره، أقام الاجتماع السياسي العثماني مؤسسات مستقرة وحافظة للسلم. كانت الدولة العثمانية واحدة من أكثر دول الإسلام (وربما العالم كله) بيروقراطية، وتوكيداً على دور المركز؛ ولكن المركز العثماني لم يتدخل في أنماط تدين وثقافة وتعليم الرعية. وبالرغم من التحكم المركزي في المؤسسة القضائية، فقد أخذ القضاة التعددية الدينية والطائفية، كما العادات والتقاليد المحلية، في الاعتبار، سيما أن القضاة استندوا إلى مصادر وتقاليد قانونية متعددة، وليس إلى لوائح قانونية وتشريعية مركزية. وليس حتى بدء حركة التحديث في منتصف القرن التاسع عشر أن بدأ المركز تولي مسؤولية التشريع والتقنين. طوال الحقبة العثمانية، وفر نظام الملل لكافة مكونات الدولة الدينية (المسيحية المتعددة واليهودية) حرية إدارة شؤونها الداخلية والخاصة، باستقلال عن مؤسسة الحكم والدولة. وحتى مؤسسة الحكم ذاتها، التي هي مسلمة بامتياز ونظرت لنفسها باعتبارها حامية للملة والشرع الإسلاميين، كانت في حقيقتها مؤسسة متعالية، استلمت مقاليدها طبقة من أبناء الدولة أنفسهم، المدربين تدريباً مدنياً أو عسكرياً خاصاً لخدمة الدولة وضمان استمرارها، وليس عصبية عائلية أو قبلية أو جهوية. ولم يحدث أن ارتبط أحد السلاطين، لا بالزواج ولا بروابط المصلحة، بمجموعة إثنية أو قبلية.
ولأن الفضاء العثماني احتل الجوار الأوروبي المباشر، فإن الشعوب العثمانية كانت الأولى بين شعوب العالم التي تتأثر بصعود الفكرة القومية في أوروبا في القرن التاسع عشر. وبالرغم من أن توازن القوى العالمي أخذ في الاختلال آنذاك في صورة ملموسة، وأن السلطنة كانت تواجه تحديات اقتصادية وسياسية وعسكرية جمة، فقد حاول الحكم العثماني المتأخر المزاوجة بين موروث نظام الملل والخبرة الطويلة للاجتماع السياسي التعددي، ليجعل الفكرة القومية أخف وطأة في تأثيرها على الشعوب العثمانية مما أوقعته في القارة الأوروبية من حروب وصراعات دامية وباهظة التكاليف. ولكن تسارع التدخلات الخارجية، واستخدام القوى الأوروبية المختلفة للنازع القومي لخدمة مصالحها التوسعية، أطاح في النهاية بالسلم والاستقرار العثمانيين، وأدخل الشعوب العثمانية في البلقان والقوقاز والمجال العربي حمى الصراع والعنف الأهليين.
اليوم، وبعد مرور زهاء القرن، لم تزل الشعوب العثمانية السابقة تحصد مرارات الانهيار العثماني. العنف الداخلي في تركيا الجمهورية، الذي نجح مصطفى كمال في إخماده بقوة السلاح، انفجر من جديد في عقد الثمانينيات من القرن الماضي. وقد أوقعت هجمات حزب العمال الكردستاني حتى الآن ما يقرب من الخمسين ألف إصابة في تركيا، ناهيك عن التكاليف الاقتصادية الهائلة. وبالرغم من أن تاريخ المسألة الكردية في العراق يعود إلى بدايات تشكل العراق الحديث، وأن العراقيين ظنوا في أكثر من مناسبة أنهم وجدوا حلاً لهذه المسألة، فإن العراق مهدد اليوم بالتفكك ليس إلى عراق عربي وآخر كردي وحسب، بل ربما وإلى عربي سني وآخر شيعي أيضاً. التوتر الطائفي يعصف بكل الجزيرة العربية، من اليمن ودول الخليج إلى العربية السعودية؛ وتكاد كل دول المغرب العربي تواجه مشكلة قومية بربرية. أما في لبنان، حيث تحولت الطوائف إلى مؤسسات سياسية، فقد بات على الشعب اللبناني أن يتحمل عواقب انهيار دوري للسلم الأهلي وشلل مواز لمؤسسة الحكم والدولة. وبعد قرن طويل من المقاومة والتضحيات، تتسارع عجلة التسوية للمسألة الفلسطينية، لتجعل من فلسطين نموذجاً آخر لفشل الدولة الوطنية وإخفاقها. لا الدولة الوطنية الحديثة حققت الحد الأدنى من طموحات المشروع القومي العربي، ولا هي وجدت حلاً للمشكلة القومية الداخلية وتعددية الإثنيات. وقد وصل عبء ووطأة الدولة على عاتق الشعب والمجتمع مستوى لم تعد فيه الشعوب تكترث لمصير هذه الدولة.
ثمة محاولات، أو إرهاصات خجولة لمحاولات، تعمل على مواجهة فقدان الاستقرار الطويل الذي ولده نظام ما بعد الحرب العالمية الأولى. جدل كبير تعيشه تركيا حول مبادرة حكومة العدالة والتنمية للتعامل مع المسألة الكردية؛ تقارب سوري تركي غير مسبوق منذ العشرينات من القرن الماضي؛ وأصوات عراقية تتعالى لتجاوز مناخ الانقسام الطائفي والإثني الذي أوصله الغزو الخارجي والاحتلال إلى حافة الحرب الأهلية. ولكن ذلك كله لم يقترب بعد ولو قليلاً من الحكمة العثمانية المفقودة.
‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
القدس العربي