صفحات مختارة

قبول الآخر وترشيد الاختلاف

عمار علي حسن
بطت الفلسفة السياسية بين “القبول” و”الالتزام السياسي” حين ذهبت للإجابة على التساؤل: لماذا يتعين علينا إطاعة الحكومة؟ وهو السؤال الذي أثاره العقل الأوروبي حين شرع في مراجعة فكرة “الحق الإلهي للملوك” وراح يضربها من كل جانب حتى تهاوت صريعة تحت أقدام فكرة “العقد الاجتماعي” التي يعد المفكر الإنجليزي جون لوك من روادها. وتطالب هذه الفكرة بإبرام عقد بين الحاكم والمحكوم، يحدد الواجبات والحقوق المتبادلة. فيصبح من الواجب على المواطنين طاعة الحاكم ما دام الأخير ينفذ بنود هذا العقد، فإن أخل بها بات الطريق مفتوحاً للخروج على سلطانه.
وقد أفاض المفكرون السياسيون المعاصرون في ترميم الشروخ التي وردت على فكرة “العقد الاجتماعي” في طورها الأول، فأنهوا معضلة التناقض بين انتماء الفرد للدولة وبين رفضه للنظام السياسي القائم من خلال القول إننا حين نتخذ موقفاً سياسياً معارضاً، أو نمتنع عن التصويت للحكومة المتواجدة في السلطة، فإن هذا لا يعني أبداً رفضنا للإجراءات التي تم بموجها اختيار تلك الحكومة، وهي إجراءات تنطوي على الاعتراف بحق المعارضة في التعبير عن رأيها والوصول إلى السلطة، وهذا ما تتيحه النظم الديمقراطية.
وعند هذا الحد بدأت فكرة قبول الآخر، بوصفه هنا يمثل السلطة أو الحكومة، لتسيح في الجهات الأربع بحثاً عن مناطق جديدة لإنشاء روافد المصطلح وتجلياته وتطبيقاته، فظهرت تعبيرات مثل “الرأي الآخر” و”عدم إقصاء الآخر” و”عدم إلغاء الآخر” و”التعايش” مع الآخر .. الخ. وراح البعض يتوسع في تعريف الآخر إلى درجة وصفه بأنه “هو غيرك بعد عنك أم قرب”، ولذا فقد يكون أباك، وأمك، وأخاك، وابنك، وزوجك، وابنتك، وابن عائلتك، وجارك، وابن بلدك، وأخاك في الدين، وفي الإنسانية. وطفق آخرون يتساءلون عن المعنى الواسع لقبول الآخر: هل هو قبول الاستماع إليه والدخول في حوار معه؟ أم قبول التعامل معه؟ أم قبول التعايش برفقته؟ أم التزاوج والمساكنة؟ أم المحبة والتآخي؟ أم التساوي في كل شيء؟ أم التساهل في كل ما لديه من اعتقادات وسمات وأفكار وتصورات وتصرفات؟
وكل هذه أسئلة مشروعة في إطار المساجلات التي يخشى أصحابها من أن تكون فكرة “قبول الآخر” تعني بالضرورة التنازل له، والتسليم بكل ما يعتقد فيه أو يفكر به، والتساهل أمام سلوكه مهما كان معوجاً، وأمام أقواله مهما كانت مغلوطة. أو أنها تعني أن يتخلى الإنسان عما هو منوط به من تغيير أوضاع بائسة، أو محاربة أفكار هدامة، أو الأخذ بيد الناس إلى ما هو أفضل وأرقى دائماً.
ومثل هذه الهواجس تنبع من خلط أصحابها بين فكرة “القبول” وفكرة “الاتفاق”، فالأولى لا تعني الثانية في كل الأحوال والأوضاع. فالاتفاق يعني تحديد النقاط التي يجمع عليها أشخاص يهتمون بموضوع أو موقف مشترك. وقد يعبر عن مجموعة القيم والمعتقدات والاتجاهات التي يتخذها أعضاء ثقافة معينة، وتمثل إطاراً متفقاً عليه، بغية تحقيق التكامل الاجتماعي. ولذا فإن من الضروري أن يوجد قدر ما من الاتفاق حول شرعية النظام السياسي، وتوزيع الأدوار، وتحديد المسؤوليات، وبناء المكانة.
والاتفاق نوع من التضامن والمشاركة في القيم والأهداف والقواعد التي تحكم النسق الاجتماعي، وهو شعور بالوحدة أو الكيان الكلي، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن الاتفاق يأتي كاملا داخل هذا النسق في كل الأوضاع والظروف والأحوال. وهو قد يكون كبيراً في موضوعات معينة أو مواقف محددة، وصغيراً أو محدوداً بالنسبة لأخرى. وكذلك تختلف نسبة السكان الذين يشتركون في الاتفاق حول نقاط مرجعية محددة. ومن العسير تحقيق اتفاق أو إجماع مطلق في المجتمعات الكبيرة المعقدة، التي توجد بها طبقات مختلفة المصالح، وجماعات سلالية، ومذاهب دينية، وثقافات فرعية متنوعة، ومجتمعات محلية متعددة، وتوزيع غير متعادل للقوة والسلطة، والدخل، وتباين القدرات، وفرص التعليم، والموارد، والمهن والوظائف.
ويذهب التربويون إلى التأكيد على أن “قبول الآخر” ثقافة تكتسب منذ الصغر، وأنه يمكن تنمية فهم الطفل للآخرين من خلال ما يلي:
أ – تقدير الآخرين: عبر تمييز وقبول الاختلافات معهم، وتمييز القدرات والمواهب الخاصة، والأداء المتميز لديهم.
ب – فهم مشاعر الآخرين: من خلال تمييز واحترام مشاعرهم واحتياجاتهم، وفهم تأثير تصرفات الشخص على مشاعر وسلوك غيره.
ج – مهارات العيش في جماعة: وتتمثل في القدرة على التفاهم مع الآخرين، والتعاون داخل جماعة إنسانية رئيسية أو ثانوية، والقدرة على الدخول في صداقات، وإمكانية التشارك مع الآخرين عطاء وأخذاً، وتمييز مزايا العمل مع الآخرين، وفهم وتلمس الاحتياج للقوانين، والاتفاقات، بعد امتلاك القدرة على وضعها أو سنها ثم الامتثال للعيش في ظلها.
د -تعلم فض المنازعات: ويتم هذا عبر تنمية الحلول الملائمة لحل الخلافات، وضبط النفس في التعامل مع الرفاق وغيرهم.
وفكرة قبول الآخر راسخة في الأديان السماوية التي أنزلها الله لمصلحة البشر، واستقامة الحياة ورقيها. ويقوم تصور الإسلام لقبول الآخر، على آيات قرآنية محددة منها هاتان الآيتان، اللتان يقول فيهما الله سبحانه وتعالى: َ”وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا” … “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ”. وتقوم هذه الرؤية على عدة مبادئ، أوردها الباحث ممدوح الشيخ في كتابه المهم الذي وسمه بـ”ثقافة قبول الآخر” على النحو التالي:
1 – وحدة الأصل الإنساني كله بحيث لا يكون مقبولا مع الاختلاف أو الخلاف نفي الإنسانية عن “الآخر” بأي مبرر أو بأية صيغة.
2 – اختلاف الأمم إرادة إلهية، وهو من ناحية أخرى ابتلاء شأنه شأن كل الابتلاءات التي تمحص إيمان الإنسان.
3 – إن الاختلاف في الدين سنة كونية وجزء من حال التعدد في الكون الفسيح.
4 – جاء التعدد الإنساني بعد “وحدة”، وهو مرتكز مهم بني عليه مبدأ آخر مهم هو المساواة في الإنسانية، فكما أننا جميعاً نرجع إلى أبي البشرية آدم عليه السلام، فإننا جميعاً ننحدر من أمة واحدة تفرقت.
5 – أكد القرآن في مواضع عديدة وحدة الأصل الإنساني من حيث المادة التي خلق منها وعملية الخلق والفطرة التي فطر الله عليها الناس.
6 – عندما تحدث القرآن عن الطبيعة النفسية للإنسان لم يفرق في السمات المشتركة بين أمة وأخرى، ولا بين مؤمن وملحد.
7 – لم يكن إخبار المؤمنين بهذه السنن الكونية في الاختلاف والتعدد مقصوراً على مجرد اتساع “معرفتهم” فالقرآن كتاب هداية ومن ثم فإنه كما توجه للمؤمنين توجه إلى “الناس” مؤمنين وغير ذلك.
8 – تبقى العلاقة بين “الناس” في القرآن الكريم محكومة بقيود أخلاقية وحدود لا يجوز انتهاكها لأنها أوامر إلهية كرمت “الآخر” أيما تكريم عندما جعلت احترام إنسانيته واجباً شرعياً، بل جعلت العدل معه علامة من علامات التقوى.
9 – تأكيد الحياة البشرية على قاعدة المساواة التامة في الإنسانية.
10 – إقرار مبدأ أن الخير يجوز أن يتجاوز غير المؤمنين ليشمل أكثر فئات “الآخر” عداء.
وفي تقديري فإن الإعلام بمختلف وسائله إلى جانب التربية، مسؤول بشكل كبير عن تحقيق وتطبيق فكرة “قبول الآخر”، وهذا ما سأتناوله في مقال قادم إن شاء الله.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى