إشكالية الإسلام والغرب من منظور أيديولوجي محاولات لطرد العقل من الفكر العربي
كرم الحلو
إشكالية الإسلام والغرب أو الأنا والآخر شغلت الفكر العربي الحديث منذ القرن التاسع عشر تحت أشكال ومسميات مختلفة مثل الشرق والغرب، أو العرب والإفرنج أو دار الإسلام ودار الكفر. طرحت في مرحلة مبكرة مع رفاعة الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق وبطرس وسليم البستاني وفرنسيس المراش وأديب اسحق وعبد الرحمن الكواكبي وجمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده، وبعد هؤلاء مع أمين الريحاني وطه حسين وزكي نجيب محمود وسيد قطب.
وقد عرفت العقود الأخيرة منذ الثورة الإيرانية بصفة خاصة، اهتماما متزايدا بهذه الإشكالية التي لا تزال الى الآن في طليعة الإشكاليات الملتبسة أيديولوجياً، والمثيرة للجدل والنقاش، ان على مستوى النخب أو على مستوى الحركات السياسية.
في هذا السياق يأتي كتاب «الإسلام والغرب ـ الأنا والآخر»، مؤلف جماعي بإشراف محمد عابد الجابري، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2009 ليبرز السمات الأساسية التي تتحكم بنظرة كل من الغرب والإسلام الى الآخر سياسيا وثقافيا وتاريخيا، ويعالج العقبات التي ترتسم في وجه قيام حوار بناء من شأنه أن يقرّب كلا من الآخر.
في رأي كمال عبد اللطيف أن التجافي بين الإسلام والغرب يعود الى زمن بعيد، حيث شكّل الإسلام منذ ظهوره مشكلة لأوروبا، وقد عرفت العلاقة بينهما أطواراً من الحروب والمعارك، وإشكالا من التعاون والتلاقح، دون أن تنتهي الى تصوّر إيجابي يضع حداً لصراع تاريخي متجدد باستمرار، وما أطروحة فوكوياما في صراع الحضارات نهاية القرن الماضي، إلا دليل على عمق هذا الصراع المتواصل وحدّته.
تصدى الجابري لتفكيك عبادة ـ الغرب والإسلام ـ التي صارت اليوم مشحونة بدلالات غامضة تجمع بين قلق الحاضر والخوف من المستقبل، فرأى أن التقابل الذي يراد تضمينه كهذه العبادة غير مبرر وغير مشروع، لان الأمر يتعلق بمقولتين مختلفتين في الطبيعة، فالغرب مقولة جغرافية والإسلام دين. والغرب متعدد ويضم عدة دول وقوميات، كما أن الإسلام يحيل هو نفسه الى متعدد.
ومن هنا ان عبارة «الغرب ـ الإسلام» عبارة طارئة وغير أصيلة في الحقل الثقافي العربي، نقلت الى المرجعية العربية الإسلامية بالترجمة الحرفية من اللغات الأوروبية. فلم تكن كلمة «غرب» في هذه المرجعية تعني في يوم من الأيام وجود آخر يقع بالتحديد خارج بلاد الإسلام. أما «دار الحرب» فاصطـلاح أطلق على الــجهة التي تكون في حالة حرب مع الدولـة الإســلامية، سواء كانت تلك الجهة في الغرب أو في الشرق.
في المقابل، كلمة غرب في المرجعية الأوروبية غنية بالدلالات وهي لم تستعمل في العربية بالمضامين نفسها إلا في وقت متأخر نقلا عن هذه المرجعية، التي تندرج فيها عبارة «الإسلام والغرب» في السياق نفسه الذي تستعمل فيه عبارة «الأنا والآخر» التي تدين هي الأخرى بوجودها من الخطاب العربي المعاصر للترجمة.
وجه الاختلاف أن العربي المسلم يرى العلاقة بين الإسلام والغرب، كعلاقة تشابه أو اختلاف بين شيئين من أشياء العالم، بينما يرى العقل الأوروبي العالم، حيث وجود الأنا سابق ومستقل عن أي وجود آخر، من خلال شبكة تستحوذ فيها علاقة أساسية هي علاقة «الأنا» بـ«الآخر»، لا علاقة «آخر» بـ«آخر».
وعلى هذا فالغيريّة في الفكر الأوروبي مقولة تؤسسها فكرة «السلب» أو النفي، فالأنا لا يفهم إلا بوصفه سلبا أو نفيا لـ«الآخر». ومن خلال هذا التصوّر لـ«الأنا» كمبدأ للسيطرة، يتحدد موقــع «الآخــر» ودلالته في الفكر الأوروبي، أي بوصفه موضوعا للسيطرة أو عدواً أو مرآة من خلاله تتعرف الذات على نفسها، فالذات لا تعي نفسها إلا عبر آخر هو شرط في وجودها.
إن الغرب عندما يفكر في نفسه من خلال عبارة «الغرب والإسلام» فهو يفكّر في «الغرب» كـ«أنا» وفي الإسلام كـ«آخر» عدو، أو كموضوع للسيطرة أو كمصدر للخوف. لكن الأمر مختلف بالنسبة الى العقل العربي في ظل غياب مقولة الآخر بوصفها احدى المقولات الأساسية البديهية للعقل في مقابل «الأنا» أو «الذات».
ويرى الجابري أن ثمة أنماطاً من الوعي بالآخر ـ الغــرب ـ في القرآن، وانه يمكن مصادفة عبارات عدائية إزاء الآخر في كتب الــتراث الإسلام، انما نجدها بصورة أوسع وأوضــح في التراث الغـربي في القرون الوسطى، بل في كتابات بعض المحدثين من الكتّاب الأوروبيين.
هناك ازدواجية اذاً في الوعي على الجانبين: الإسلام بالنسبة الى الغرب موضـوع مزدوج، هو مــوقع وبترول وهو ايضا منافس. والغرب بالنسبة الى الإسـلام هو موضوع مزدوج ايضا. انه منذ أوائل القرن الماضي، المثل والقدوة، حرية وديموقراطية وتقدم، ولكنه ايضا وفي الوقت نفسه موسع واستعمار وهيمنة وامبريالية.
يتفق كمال عبد اللطيف مع الجابري في أن صيغة الزوج المفهومي «إسلام ـ غرب» صيغة ملتبسة لأنها تقابل بين مفهومين غير متكافئين نظرياً: أحدهما يحيل الى عقيدة، والآخر الى فضاء جغرافي مشحون بدلالة حضارية. ومن الصعب في رأي عبد اللطيف فهم بعض الخطابات الإسلامية من الغرب، واعتبار الغرب في نصوص بعضهم، كالمودودي، حضارة على أبواب الانتحار، وفي نصوص آخرين كالأفغاني وسيد قطب، مرادفا للمادية والإلحاد.
نحن إذاً بمواجهة خطاب بخطاب. خطاب المودودي بخــطاب هانتنغتون، وهما خطابان يتبادلان الحقد ويغذيان الجفاء المتبادل على الرغم من أنهما كتبا في سياقين مختلـفين. فكــيف يمــكن وسط هذه اللغة المدعمة للحقد المتبادل أن نقيم حواراً مشتركاً بين طرفين غير متكافئين؟
لا يمكن في رأي عبد اللطيف تحقيق تواصل قادر على إقامة جسور من التفاهم وتجاوز التجافي المتبادل، وإقامـة حوار يمهد لتــاريخ جــديد يقوم على مـبدأ الإيــمان بالاختــلاف والاعــتراف بالتنوع، من دون ضبط محتوى المفاهيم وفك الارتباط بين مفهومي الإسلام والغرب غير المتكافئين.
وهذا ما دعاه عبد الإله بلقزيز بالتثاقف النقدي الذي يمـثل اللحظة الأكثر توازنا في الوعي العربي المعاصر، اذ انه يبـدي سائر أنــواع الانفتاح على الثقافة الغربية، ويحفظ في الوقت نفسه حق مساءلتها نقديا. هذا التثاقف التركيبي هو الذي يحقق تجاوزاً جـدلياً وتراكما معرفيا جديدا، ومن دونه يبقى الموقــف العـربي من ثقــافة الآخر موقفاً لا تاريخيا، ورصين المقالتـين الانبهارية الاغـترابية أو التـراثوية الرفضوية.
في نظــرة ختــامية نرى أن الكتاب يسهم في بلــورة رؤية نقدية متقدمة الى إشكالــية الإســلام والــغرب التي شابها في الآونة الأخــيرة كثير من التوتر الأيديولوجي وردات الفعل اللاعقــلانية حيث ساد الالتباس المفهومي واختلط الموقف من الغرب بين وجهيه الحضاري والاستعماري.
ببحثه في الأسس الفلسفية لمفهوم الأنا والآخر في الفـكر الــغربي، كشف الجابري أبعاد التناقض الأيديولوجي بين الرؤيتين الغربية والعربية الإسلامية لإشكالية «إسلام غرب». بيد أن ما طرحه بعض الباحثين، على أهميته، من أجـل إنهاء التــوتر الإشــكالي بين الحضارتين الغربية والعربية الإسـلامية، قد لا يؤدي الى نـتائج ذات شأن، اذا لم ترفده تحولات سياسية واقتصادية وفكرية تمهد لتغيير أساسي وفعلي. فهل في وسع الإنســان العــربي في ظــل الأمية الكاسحة والتردي الثقافي الفادح أن يقيم حواراً نقدياً متكافئاً مع الحضارة الغربية؟ هل في مقدوره تجـاوز الاستعــلائية الغربية التي لا تزال تتعامل مع «الآخر» العربي الإسلامي تعامـلا براغماتيا لا يعير اهتماما لآخريته واختلافه؟ وهل كان الغرب الـحداثي أميناً لقيمه الحداثية في الحرية والمساواة والتقدم؟ ألم يجهد هو ذاته في محاربة الاتجاهات التحديثية في العـالم العــربي في القــرنين الماضيين، من أجل الإبقاء على حالة التبعــية والتــخلّف في هذا العــالم؟ ألم يكن زرعه إسرائيل الصهيونية في قلب الوطن العربي أســاس الإشكال المتمادي بينه وبين العالم العربي الإسلامي؟ وهل يمكن إنهاء هذا الإشكال من دون إعادة نظر جدية في سياسة الغرب وموقفه إزاء الآخر العربي الإسلامي؟
أسئلة كثيرة قد لا نجد إجابة عنها في الكتاب، ولكنه مع ذلك يفتح باباً واسعاً أمام مناقشتها، والبحث تاليا في مكامن العلل في الحوار العاثر حتى الآن بين الغرب والإسلام.
السفير