فشل الثقافة العربية في الاونيسكو، التوزّع بين عقيدتين: واحدة للداخل وأخرى للخارج

دلال البزري
معانٍ كثيرة تنْضح من المعركة الفاشلة لوزير الثقافة المصري فاروق حسني في الاونيسكو. معانٍ كلها ترمز الى الرؤى والمسارات وطرق خوض المعارك… كانت كثيفة ومعبّرة عن حالة الثقافة العربية، وفي أعرق بلدان العرب، عن سيرة الوزير نفسه، عن المثقفين الذين ساندوه وعن الخطاب المحمول على اكتاف الطرفين.
في الشخصيات اولاً: واضحة هي الفروقات القائمة بين الوزير فاروق حسني وبين منافسته الفائزة البلغارية إيرينا بوكوفا. هو وزير منذ 22 عاما لعهد كان عمره آنذاك أربع سنوات. وزير على صورة هذا العهد، ثابت يبرع في البقاء على هذا الثبات، وأداته المواقف المتناقضة، ظاهرياً. وهي، إيرينا بوكوفا، إبنة بلغاريا الرسمية التي تسير قُدماً نحو الديمقراطية وبمعايير أوروبية، بعدما كان الحزب الواحد حاكمها. وهي فوق ذلك لم تنتقل من درجة الى أعلى منها إلا بإنتخابات نزيهة غير مطعون بها؛ منذ أن كانت مجرّد نائبة وحتى انتخابها على رأس منظمة الاونيسكو. هو حركة ثابتة، تدور حول نفسها، وهي حركة أخرى، تدرّجية، ترتقي بمواقعها عبر إنتخابات. شخصيتان تلخّصان الى حدّ بعيد سيرة بلديهما، أو سيرة منطقتهما. العربية الثابتة تراوح مكانها، والاوروبية الشرقية المنتقلة من… الى.
المعنى الآخر: المعركة التي خاضها 300 مثقف عربي مرموق تأييداً لفاروق حسني في معركة الاونيسكو، فضلا عن الاقلام المبعثرة هنا وهناك ذات الحماسة العالية نفسها للفنان الوزير المرشح، وكذلك الخلاصات التي بلغتها غالبية هؤلاء المثقفين حول نتيجة المعركة… كلها كانت شبيهة بموقف “الشارع” العربي من صدام حسين في معاركه، الفاشلة دائماً. ربطوا العزّة والكرامة والمكانة القومية بالمصير الشخصي للديكتاتور. فصار فاروق حسني رمز الوطنية المصرية والقومية العربية والعصبية الاسلامية، وحصناً من حصون الهويات الثلاث المعذّبة والمظلومة. غيّب هذا الحشد المعبأ من المثقفين ملامح فاروق حسني الوزير، ذا الإرث الإشكالي، بأقل تقدير، وأحلّوا على وجهه ملامح الحزن الملحمي… من اجل الوطن والحرية. وليكتمل التشابه مع صدام، صرخ المثقفون ” ليحيا البطل… بالروح بالدم…!”، وهلّلوا للنصر القادم لا محالة، وهم واثقون ثقة أهل التاريخ بفوزه. وعندما لم تتحقّق الاماني، وفشل الوزير، عادوا وصرخوا بأعلى حناجرهم: “مؤامرة صهيونية امبريالية”… “معركة مسيّسة”… “الكيل بمكيالين” الخ. تماما كما كان نظراؤهم يصرخون بعد واحدة من معارك صدام الخائبة.
حشد المثقفين هذا يدافع حتى الرمق الاخير عمّن يمسك بخيوط مسارهم وارتقائهم وامتيازاتهم وندواتهم ومقالاتهم وطلاّتهم التلفزيونية وسفرياتهم وجوائزهم… بمعنى آخر، الممْسك بوجودهم. جمهور يتحسّر الآن على الحق المهدور بلعب “دور ثقافي على الساحة الثقافية العالمية”. وخطابه يعيق هذا الحق ويقضي عليه من مهده، لأنه يقوم على عيبين اصبحا بنيَويَين بعد مرور ثلاثة عقود على الثبات فيهما.
العيب الاول: السلام، أو لا سلام مع اسرائيل. المقاطعة أو التطبيع مع اسرائيل. مصر وقعت معاهدة سلام مع اسرائيل منذ ما يقارب الثلاثة عقود. الرئيس الاميركي باراك أوباما في خطابه الاخير في جامعة القاهرة، والذي رُحّب به أشد ترحيب، ذكّر مصر بأهمية السلام بالنسبة لموقعها الدولي ودورها الاستراتيجي. اذن يفترض بالدولة المصرية، اذا ارادت لنفسها الثبات المرغوب، أن تطور هذا الدور. لكن الثبات نفسه يفرض عليها، من جهة اخرى، ان تغلق الباب امام مزايدات “الاخوان المسلمين” حول القضية الفلسطينية، وما تبقى معهم من قوميين ويساريين، وتجاوب “الشارع” المتأسلم مع هذه المزايدات. وكلمة فاروق حسني التي أُخذت عليه في دول الغرب، جاءت ردّاً على أحد المزايدين من النواب من “الاخوان المسلمين” في البرلمان: “سوف احرق كل الكتب الاسرائيلية…!”. هذه الكلمة كانت موجهة الى الداخل.
وبعدما قدّم الوزير اعتذاره الى الغرب من هذه الكلمة ـ الهفوة، ردّ احد مساعديه على مناهضي الاعتذار من على شاشة التلفزيون بأن الاعتذار لا يعني التطبيع مع العدو؛ ودليله ان الهيئة التي يرأسها والمخوّلة بترجمة الاعمال الادبية العالمية، لن تترجم الاعمال الاسرائيلية من لغتها الأم، أي العبرية، بل سوف تنقلها عن اللغة الانكليزية، المنقولة بدورها عن العبرية… وذلك منعا لشبهة التطبيع… أي ان الوزير، بالرغم من اعتذراه الى الرأي العام “العالمي”، ما زال ضد التطبيع ومع المقاطعة! لكنه في المقابل يدعو، إثباتا لصدق الاعتذار، قائد اوركسترا اسرائيليا الى دار الاوبرا القاهرية… والزغل الرسمي عريق: لا تعرف عن نشاطات تطبيعية تحصل في الوزارات المختلفة الا بعد “خناقة” يفجرها عادة أحد اعضاء “الاخوان المسلمين” المعارض، مثل وزارة الزراعة والبترول. والدولة التي يسير الوزير المرشح على خطاها وقعت اتفاقية سلام مع اسرائيل، وملتزمة بتطوير استراتجياته. السلام مع اسرائيل لا يناقش ابدا، مع ان الصخب دائم حوله، ومعه المشاجرات السياسية التي لا تنتهي.
وهذه المناوشات تقول الشىء ونقيضه. كلمة للغرب، للخارج، وكلمة للشعب، في الداخل. هنا، أدب ورقي وألفاظ وطقوس من التسامح والانفتاح والتعددية وقبول الآخر ولقاء الحضارات الخ. وهناك من جهة اخرى النار التي تلهب الجميع… لا أقل من حرق الكتب، وعلى يد مسؤول ثقافي، لا عسكري. تلك هي الوسيلة الذهنية المعتمدة من وسائل الثبات في الحكم. وإلا انكسرت الحلقة المفرغة…
العيب الثاني: العلاقة بالاسلام، او بالموجة الدينية، أو بايديولوجية “الاخوان المسلمين” والأسلمة الدائرة في المناحي المختلفة. والآلية الذهنية هنا لا تبتعد عن العيب الاول. فاروق حسني الوزير المدلّل لنظام يرعى ثباته عبر المزايدة في الداخل والاتزان في الخارج. قال حسني يوماً انه لا يحب الحجاب الاسلامي وان والدته وجدّته لم تلبساه. فتقوم الدنيا ولا تقعد. البرلمانيون الاعضاء في الحزب الوطني الحاكم، المعادون للاخوان، هم الذين صرخوا بأعلى الصوت إستنكارهم لهذه التصريحات وما تفيد عنه من “إستباحة لنسائهم الفاضلات” الخ. فيكون جواب حسني بالاعتذار عن هذه التصريحات. الاعلام الرسمي، وحتى العالمي، توقف عند هذا الاعتذار. فبقي راسخا لدى بعض مثقفينا من الذين عبأوا لمعركته في الاونيسكو “ان فاروق حسني فنان، رجل علماني مدني متنوّر، مكافح ضد الظلامية التكفيرية” الخ. ويريدون بذلك نسيان هفوات من نوع آخر؛ مثل معركة الوزير الشهيرة ضد “الروايات الثلاثة”، التي صادرها وهاجمها في البرلمان امام الاخوان وقال عنها انها “روايات بورنو”؛ وذلك بعد ارتفاع أصوات دعاة الحسبة والاخوان والازهرييين ضد هذه الكتب.
هذان العيبان يغذيان الثبات ويتسبّبان بنوع من الفوضى القمعية تجاه مواطني جمهورية المثقفين وغيرهم من المواطنين الأقل حظا. ليس الوزير وحده هنا مصدر القمع. الوزير يقف على خيط رفيع من الثبات، لا يستطيع ان ينتج غير هذا النوع من الخطاب، المغلق على نفسه، المكرّر، المعتذر دوما وابداً… والمولّد لردود قمعية.
أيضاً: من أين الرسوخ لكل هذه الملامح الثقافية التي تظهر عندما تحتك الملامح بغيرها؟ من انها لا تجد مخرجا لحلقتها المفرغة، لا اذا كانت ضد النظام، ولا اذا كنت معه؟ فاذا كانت المسؤولية الأكبر تقع على من يتولاها، فهذا لا يخفّف من مسؤولية المواطن البسيط، المثقف منه وغير المثقف. وسالفة منع كتب الشاعر اللبناني أنسي الحاج من البيع في مكتبات ومهرجانات القاهرة مثال حي: هي “الفوضى العارمة”، يصفها عباس بيضون، ويعجب بأمر الرقابة المصرية فيقول: “أعجب ما فيها ان أقوى متوليها ليست لهم صفة أو اختصاص أو مسؤولية رسمية. يمكن ان تقرر هيئة دينية أو مدنية أو محتسب من أي نوع أو شاعر مغتاظ أو حتى عمال المطبعة” (السفير 28 ايلول 2009).
المستقبل