صفحات مختارةميشيل كيلو

أي مصيبة!

null
ميشال كيلو
كثيراً ما عزا عقل يساري عربي سائد فشل النظم العربية إلى كونها نظماً “برجوازية صغيرة”. وقد بدا له أن هذه “التهمة” قادرة على تفسير كل شيء، فالبرجوازي الصغير يتأرجح بين المواقف ويتفادى الخيارات الحاسمة، وهو لا ينتمي إلى قاعدة مجتمعية صلبة، لذا، تتسم قراراته بالوسطية والتردد، وتالياً بالضعف والفشل، بما أنه لا يعيش على حدود الوجود القصوى: أي من فائض قيمة رأسمالي أو من عمل صناعي مأجور، ولأنه ليس برجوازياً قحاً أو عاملاً حقيقياً.
في الصراع الإسرائيلي ضد العرب ـ لا يوجد صراع عربي ضد إسرائيل يبرر الحديث عن صراع عربي / إسرائيلي ـ زعم هذا العقل إن هزائم العرب ترجع حصراً إلى وضع أمرهم في يد البرجوازية الصغيرة، الناصرية منها والبعثية، واستنتج أن حسم المسألة الطبقية لصالح العمال والفلاحين سيتكفل بإصلاح هذا الخطأ وسيحقق النصر العربي المنتظر. بذلك، خلق العقل اليساري مشكلة وحلها على صعيد تأملي صرف، واعتقد، فوق ذلك، أن حله هو الحل الواقعي والوحيد للصراع الدائر في المنطقة.
لو فكر العقل اليساري المعني بصيغ ترى الواقع في تنوعه واختلاف مكوناته، والحقيقة من وجوهها الكثيرة والمتباينة، لوجد نفسه أمام واقع عربي أشد تهافتاً مما اعتقدت أي جهة في أي يوم، ولسلم بأن مصائب العرب تتخطى تفسيره السطحي، الذي يجمّل الهزيمة، ويخرج الواقع العربي من أسبابها، وينسب مأساة فلسطين لجانب جزئي وقليل الأهمية منه، مع أنها مستمرة منذ نيف وقرن، رغم تبدل القوى العربية الحاكمة وسقوط حلف “البرجوازية والإقطاع” على يد قوى برجوازية صغيرة، لم تعد صغيرة بعد أن كبرتها السلطة وغوّلتها، ورغم أن المأساة الفلسطينية الخاصة حملت دوماً دلالات وأبعاداً كاشفة تفضح المأساة الأعم: مأساة المجتمعات والنخب السياسية العربية، التي تعايشت مع هزائم مدمرة، أنزلها بها عدو من الدرجة العاشرة، تقوده برجوازية صغيرة فاسدة حتى نقي عظامها، انعدم شعورها بالمسؤولية إلى حد جعلها تندفع إلى خوض حروب سيئة الإعداد، انشغل جل قادتها في مسائل ليست عادة ضمن اهتمامات رجال الدولة، كتهافت رئيس دولتها على سكرتيراته ومساعداته، وتورط أعضاء النخبة السياسية والعسكرية في فضائح تنتمي تحديداً إلى عالم الجريمة المنظمة، وانخراط رؤساء وزاراتها في أعمال مشينة، أقلها جلباً للعار الرشاوى وبيع الذمم، حتى امتلأت السجون بالوزراء، وانهمك جنرالات الجيش في استخدام ما لهم من سلطة عسكرية لإرغام مرؤوسيهم على تنفيذ أوامر تدخل في نطاق الدعارة، وتلقوا رشاوى من شركات بيع السلاح وتسويقه، وقبلوا أسلحة مربحة، مع أنها ليست الأفضل لجيشهم، واستهانوا بأرواح جنودهم وزجوا بهم في عمليات ومعارك كان موتهم المجاني مضموناً فيها، فلا عجب أن شكلت عقب كل حرب لجان تحقيق قضائية انتهت جميعها إلى اتهام كبار القادة من سياسيين وعسكريين بالتقصير والإهمال وبالتسبب في موت جنودهم. ولا عجب إن بقيت النخبة الإسرائيلية، كالنخب العربية في نظم الحكم المغلقة والاستبدادية، ثابتة إلى حد بعيد، وأن يستعيد رئيس وزراء فاشل كنتنياهو موقعه القيادي، ويعاد إلى الحكومة والجيش من سبق أن طرد منهما بتهم مشينة. ولا عجب أخيراً أن لا تعني أحكام الإدانة والسجن نهاية الحياة السياسية أو المهنية لأي منتسب إلى طبقة سياسية ضيقة، يتكرر وصول أفرادها إلى السلطة في فترات زمنية متلاحقة، ليستأنفوا فسادهم وانحلالهم وتصرفاتهم المعيبة.
هذا الوصف، الواقعي، لحال العدو يوصلنا إلى سؤال واستنتاج. أما السؤال فهو: لماذا لا يقبل عدونا عروض تسوية عربية تسامحه بفلسطين وتفتح أمامه أبواب البلدان العربية وتتعهد أن لا تحاربه أو تقلق راحته تحت أي ظرف ولأي سبب؟. الرد الأكثر إقناعاً: لأن هذا العدو واثق من أن السياسات والنخب العربية منخرطة في تدهور حثيث سيجعلها تفقد الإحساس بوجوده، وسيزين لها محاسن الانسحاب التام والناجز من أي نزاع معه، مهما طغى وبغى واعتدى وتحدى.
والآن إلى الاستنتاج: أليس أمراً جللاً أن يهزم عدو على هذا القدر من التهافت السياسي والأخلاقي “خير أمة أخرجت للناس”، وأن تكون هزيمتها مرعبة إلى درجة أن نظمها الحاكمة لم تعد تجرؤ حتى على إلقاء نظرة غاضبة عليه؟. إن تفسير هزيمة عربية على هذا القدر من الفداحة بعامل واحد هو فشل البرجوازية الصغيرة هو ضرب مفزع من ضياع العقل، وإن فشلنا أشمل وأعمق من أي تفسير تبسيطي قدمناه إلى اليوم، إذا كان من هزمنا برجوازية صغيرة يتشكل منها معظم شعب إسرائيل، لو احتلت أرضاً فيتنامية أو أفغانية وحتى باكستانية، لكانت طردت منها طرد الكلاب، ولظهرت على حقيقتها وتبين أنها لا تساوي، في ميزان صراع جدي، فلطة بعير؟!.
لم يهزم العرب على يد شعب رائد في مجالات التنظيم الاقتصادي / الاجتماعي، والتقدم الثقافي والعلمي، والانضباط الذاتي الطوعي، بل هزموا على يد “لمامة” جمعت من هنا وهناك، غلبتهم بضعفهم وبحرمان شعوبهم حريتها وثرواتها، أكثر مما غلبتهم بتقدمها وقوتها. ألا يكمن هنا، وليس في طابع قياداتنا البرجوازي الصغير، أصل الداء ومكمن البلاء وأس هذه الهزائم الشاملة والمتعاقبة، التي نزلت بنا في الماضي، وتنزل بنا في الحاضر، وستنزل بنا في المستقبل أيضاً، إن بقينا على حالنا الراهنة؟.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى