صفحات مختارةعبدالله تركماني

أزمة المشروع القومي العربي وآفاقه المستقبلية

null
الدكتور عبدالله تركماني
مازالت الأمة العربية تنتقل من إخفاق إلى إخفاق، إذ نعيش اللحظة التي تلتقي فيها النهاية مع البداية، والتي تمتد جذورها في عمق التاريخ الحديث، تاريخ الأزمة الواقعية التي تعيشها المدنية العربية ذاتها، بما هو تاريخ استبعاد الأمة من ساحة المبادرة والفعل والمشاركة العالمية. والأزمة العربية الشاملة المفتوحة هي من تلك الأزمات التي تتقلص فيها الاختيارات إلى اثنين لا ثالث لهما: إما الغرق في الأزمة والدخول في مسلسل من التدهور والفوضى والانحلال والضياع. وإما تجاوزها إلى وضعية جديدة تماماً، انطلاقاً من التفكيك الواعي للوضعية القائمة المأزومة والشروع في عملية بناء جديدة، بمنطلقات واستشرافات جديدة كذلك.
إنّ التجربة الواقعية للمشروع القومي العربي قد أثبتت، خاصة بعد هزيمة يونيو/ حزيران 1967، أنّ هناك أزمة فعلية في بنية هذا المشروع. إذ أنّ الهزيمة لم تكن لتحدث، أو على الأقل في المدى الذي بلغته الآن، لو لم يكن للمشروع القومي ثغراته وعيوبه ونقاط ضعفه. وقد وصّف عبد الله العروي هذا الفشل خير توصيف، حيث قال ” قد يئست من أن أرى المؤلفين العرب يكفّون يوما عن الثرثرة ويعدلون عن غرورهم المفرط. كنت قد مللت التشدق بخاصيات العرب، وسئمت الكلام عن الاشتراكية العربية والفلسفة العربية والإنسان العربي ورسالة العرب الخالدة، كما لو كنا نبدع كل يوم فكرة جديدة ونظاماً جديداً، مع أنّ الأمر لا يتعدى ضم كل عربي إلى ما هو معروف ومبتذل عند جميع سكان الدنيا … فعم الغرور وصدعت الدنيا بثرثرة أنصاف المثقفين، ولجأ إلى الصمت كل من بقي له نزرٌ من استقامة الفكر والتطلع إلى إنتاج جدي ومجدٍ “.
وبالرغم من هزيمة المشروع القومي، يبدو أنه من الضروري التمييز بين مفهوم العروبة ومفهوم الحركة العربية، فالعروبة تيار فكري متجذر في المنطقة العربية، يتمحور حول قضايا الهوية والانتماء والخصوصية القومية والنهضة والتحديث والتنمية، وغايته هي إقامة الدليل على أنّ الشعوب العربية جميعها تنتمي إلى أمة عربية واحدة. أما الحركة العربية فهي تيار سياسي، حاول تجسيد هذه الفكرة من خلال برنامج سياسي، للانتقال بالواقع العربي من حالة التجزئة إلى حالة الوحدة، ولكنه فشل فشلاً ذريعاً.
أهم أخطاء التيارات القومية
إنّ الأيديولوجيا القومية العربية، بتفاوت بين تياراتها، لم تدرك بعمق مفاعيل الهيمنة الإمبريالية وقوانين عملها في العالم العربي، ليس كونها عاملاً خارجياً فحسب، بل – أساساً – دورها في إعادة صياغة البنى الداخلية العربية لتكريس التجزئة. فبالرغم من إدراك هذه التيارات لضرورة التحديث والتنمية لكنها استنكفت عن الأخذ بالمضمون المعرفي والبنيوي للتحديث، حيث وقعت في ” التلفيق ” حين استخدمت مفهوم التحديث ولكنها قطعته عن أصوله المعرفية في آن واحد. فالوسطية الانتقائية بقيت خياراً، في النظر والعمل، لدى هذه الحركات.
كما أنّ مفكري الحركات القومية العربية ضغت عليهم النزعة الثقافوية، فأهملوا التنظير للدولة القومية، فقد كان اهتمامهم منصبّاً على التجزئة القومية وضرورة الوحدة العربية أكثر من اهتمامهم بقضية الدولة، التي حلموا بتحقيقها، فبقيت قضية التنظير للدولة قضية تابعة للقضية ” الأصل ” وهي الأمة. والأصل في هذا التقصير أنهم انطلقوا من أنّ الدولة العربية القطرية الحديثة ” معوّق ” للدولة العربية الواحدة، لأنها ” تكرّس ” الأمة داخل الحدود القطرية، بمعنى رفضوا مبدأ الدولة/الأمة، وأكدوا دائما على مبدأ الأمة/الدولة، أي أن تنشئ الأمة العربية دولتها القومية.
وأساس الخطأ هو أنّ التيار القومي، خاصة عندما وصل إلى السلطة، لم يعطِ المسألة الديمقراطية اهتماماً يذكر، بل أنه كان ينظر إليها كعائق أمام التنمية، وأمام دور الحزب ” الواحد ” أو ” القائد “. فالتعددية الفكرية والسياسية، وتنوع المجتمع العربي قومياً وطائفياً، كانا يعنيان ” الانقسام ” و ” التجزئة “، فلم يرَ التيار القومي فيهما مصدر إغناء للتجربة القومية.
وفي الواقع لم يتعرف المفكرون القوميون العرب، في بادئ الأمر، على الدولة كجهاز متكامل، بل كعناصر مبتورة عن جهاز متكامل للدولة، ومنعزلة عن نظرية متكاملة للدولة. فمصادر القوة لم يروها في الدولة، التي تتطلب إرساء القواعد المادية والتنظيمية والفكرية لبنائها، وإنما بدت لهم ثقافية الطابع. وحينما تعرضت كتاباتهم لدعائم الدولة السياسية فقد ربطتها بفكرة مثالية عن الوحدة القومية، أكثر مما ربطتها بالقوانين والمؤسسات والجيوش والاقتصاديات.
لقد اهتم العرب بـ ” مظاهر السلطة ” أكثر مما أهتموا ببناء مرتكزات الدولة الاقتصادية والاجتماعية والقانونية، فالبلدان العربية استوعبت المظاهر الهيكلية لجهاز الدولة ولعملية التبقرط، ولكنّ مفهوم الدولة نفسه ظل شبه غائب. ويبدو أنّ مكمن الإشكال راجع إلى أنّ الدعوة القومية العربية، بالرغم من الزخم الذي واكبها في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي خاصة، لم تبدع آليات تحققها وإنجازها في معترك التاريخ.
علينا أن نعترف – اليوم – وبكل المسؤولية: أنّ معظم خطابنا السائد هو خطاب العجز وتبريره بمبررات لا تمت إلا إلى منطق العجز وسيكولوجيته والاكتفاء بمجرد بيانات تدين وتشجب وتحتج … ثم التوقف عند حد تقرير المسلمات والبديهيات إبراء للذمة بعد كل كارثة ومصيبة، انتظاراً لكوارث ومصائب أخرى من أولئك الأعداء الظالمين، فإلى أين سيؤدي مثل هذا الخطاب الذي يعيد إنتاج ذاته بلا تفاعل مع الواقع ؟
إنّ دوران الساقية الخطابي، في ترداد البديهيات: عدوانية الغرب وتحيّزه ضد الإسلام والعروبة، واستبداد الأنظمة الحاكمة وعجزها، من دون الانتقال من هذه المسلمات إلى معالجات معرفية، تحليلية ونقدية، لواقع كل مجتمع عربي والخروج ببرنامج عمل وطني لإصلاح فساده وإعادة بنائه، نقول لن يؤدي مثل هذا الدوران الخطابي العبثي إلا إلى المزيد من تضخم هذه الظاهرة الصوتية، عدا التنفيس الكلامي عن إحباط أصحابها وتغطية عجزهم ليس فقط عن المواجهة الفعلية، وإنما عن تلمس الوعي النقدي اللازم والإحاطة المعرفية والموضوعية بالوقائع المحيطة التي يمكن أن تؤدي للخروج قليلاً من دائرة الأوهام والوعي المغلوط.
التغيّرات العالمية وإمكانية نهوض موجة قومية جديدة
إنّ المتغيّرات العالمية الجديدة، خاصة أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 وتداعياتها، تطرح إمكانية نهوض موجة ثانية للقومية في العالم، ستواجهنا بتساؤلات جديدة، وتحديات جديدة أيضاً، مما سيتطلب قدراً كبيراً من العمق في المراجعة ونقد الذات وإعادة الصياغة الفكرية والسياسية لقضايا المسألة القومية العربية، منطلقين من أنّ مسألة إنجاز الأمة – الدولة الحديثة هي جوهر تلك القضايا.
وتبدو أهمية إعادة طرح قضايا المسألة القومية العربية، من وجهة نظر تحاول أن تكون جديدة، حين نعرف أنّ القرن الواحد والعشرين سوف يشهد إعادة طرح واسعة لمشكلة الأمة والقومية. ففي الوقت الذي ينزع فيه العالم، أكثر من أي وقت سبق، إلى أن يتعولم وإلى أن يخترق حدود الدول وسياداتها، وفي الوقت الذي تتعاظم فيه التبعية المتبادلة ما بين أمم العالم سياسياً واقتصادياً وثقافياً وإعلامياً، وفي الوقت الذي تتسارع فيه حركة الرساميل والبضائع وتتضاعف السيولات المالية العابرة للقومية، وتتحكم الشركات المتعددة الجنسيات في الاقتصاد العالمي إنتاجاً واستهلاكاً. وبكلمة واحدة في الوقت الذي يتحول فيه العالم إلى ” قرية كبيرة “، في هذا الوقت يُرَدُّ الاعتبار، على نحو لم يسبق له مثيل، إلى عدة مصطلحات قومية مثل: الهوية، والأصالة، والخصوصية. وتدب حيوية في النزعات القومية والإثنية التي يبدو أنّ قلق العولمة قد أيقظها في كل مكان من العالم.
كما أنّ العالم يتجه نحو قيام تكتلات بشرية كبرى، سواء على مستوى قومي أو قاري، تشكل مجالاً حيوياً في الاقتصاد، وعنصراً رئيسياً في الأمن، وضمانة فعلية للاستقلال السياسي، وشرطاً ضرورياً للتحرر من الهيمنة الخارجية. وقد أصبح واضحاً أنه في القرن الواحد والعشرين لا مكان للشعوب والدول الصغيرة التي لا تنضوي في كتل بشرية ضخمة تزيد في عددها عن مائة مليون نسمة على الأقل، وتزيد في مواردها عن حجم معين يمكّنها من الصمود والاسقرار.
وسوف تكون مشكلات التلاؤم مع الظرف الكوني مطروحة على مخططي السياسة العربية، سواء كان التخطيط رسمياً في القمم العربية أو بصورة غير رسمية عند قادة الرأي العام. فمن هذه المشكلات اثنتان تخصان تحدياً مشتركاً يؤثر في العلاقة التي تربطهم بالولايات المتحدة الأمريكية: أولاهما، مدلول رد الفعل الأمريكي على حدث 11 أيلول/سبتمبر 2001، بالرغم من الخطاب الجديد لإدارة الرئيس أوباما، خاصة شرط العولمة الذي من دونه يمتنع التعايش بين الحضارات. وثانيتهما، الفعل المخلص من نتائجه على نهضتنا: وجوب الإصلاح الديني في الحضارة العربية – الإسلامية. واثتنان منها تهمان تحدياً مشتركاً يؤثر في العلاقة التي تربطهم بأوروبا: أولاهما، مدلول تحقيق أهم مقومات الوحدة الأوروبية، الشرط المادي لاستقلال الإرادة السياسية. وثانيتهما، الفعل الممكن من الاستعداد للتعامل مع الجار العملاق الجديد، وحاجة العرب إلى تحقيق الحجم الاقتصادي والسياسي المناسب لرفع تحديات العولمة. والأخيرة تخص العوامل المؤثرة في علاقة العرب بإسرائيل وتتعين فيها المشكلات الأربع السابقة تعيناً لصيقاً بوجود العرب. ففيها أصبحت مسألة اندراج العرب في التاريخ الكوني مسألة بقاء أكثر مما هي مجرد تلاؤم مع الظرف الدولي. ذلك أنّ سر قوة إسرائيل، التي قد تكون العائق الأساس أمام تحقيق شروط علاج الإشكاليات الأربع السابقة، نابع من جمعها خيوط السلطان المادي والرمزي في التحديين الأولين لكون سياساتها تنتهز ما توفره سياسة أمريكا وأوروبا من فرص، ما يجعل حصر التصدي لها بالطرق التقليدية وفي الشرق الأوسط وحده أمر غير مجدٍ.
ويبقى السؤال عن مكانة العرب في ظل العولمة سؤال عن مكانتهم عموماً في التاريخ، وبكلمة واحدة فإنه دون أن ينجز العرب الدولة ـ الأمة فلن يكون لهم مكان لا في العولمة ولا بعدها كما لم يكن لهم مكان من قبل العولمة. إنّ فكرة الدولة ـ الأمة بدأت تظهر جديتها وأهميتها في ظل العولمة أكثر من ذي قبل بسبب التناقض الكبير بين السلطات السياسية والمجتمعات العربية، فالمجتمعات العربية تنتمي زمنياً وبصورة ما إلى عصر العولمة فيما النظام السياسي في الوطن العربي ينتمي إلى مرحلة ما قبل الرأسمالية، ولما كانت السلطة السياسية وخطابها ومفرداتها وعلاقتها بالعالم فإنّ هذه السلطة أصبحت عقبة أمام الطبيعة التوحيدية للعولمة، فالذي يرى العالم ” قرية كونية ” مثلاً صار أولى به أن يرى العرب ” قرية واحدة ” وبالتالي المسألة هنا سياسية وليست حضارية أو أخلاقية أو اجتماعية.
نحو إعادة هيكلة الفكر القومي وطرح قضاياه
بعد أن انهار عالم كامل من الوقائع والأحلاف والمسبقات والمفاهيم والمبادئ والأوهام، لا بد من مراجعة فكرية جذرية للخطط والسياسات والمُثُل والعقائد والأفكار التي بلورت الإخفاق العربي وقادت إليه. إنّ القطيعة المطلوبة مع الفكر والإشكاليات والأطروحات القومية القديمة تفترض الإمساك بالجوهر والإحالة إليه، والامتناع عن الدخول في التفاصيل. إضافة إلى أنّ إعادة هيكلة هذا الفكر تقتضي تعيين المحاور والمستويات التي تستدعي إبراز المشاكل والأزمات التي كانت الحركة العربية  تخفيها أو تمر عليها مرور الكرام. وإذا كان وضوح الرؤية شرطا ضروريا لنجاح أي عمل، فإنّ الرؤية الواضحة ” لا تنبثق إلا عبر قطيعة مع الرؤى القديمة ومحاولة تصفية الحساب معها نهائيا “.  باعتبار أنّ الحق قبل الاعتقاد، والعلم والمعرفة قبل الأيديولوجيا، والواقع الموضوعي قبل الميل الذاتي والتفكير الرغائبي. إضافة إلى أنّ الفكر السائد في العالم العربي – بشكل عام –  يكاد يغلب عليه الطابع الأيديولوجي الخالص، ويتسم بالهشاشة النظرية التي لا تتيح الامتلاك المعرفي لحقائق الواقع وضروراته واحتياجاته وحركته المستقبلية، ولهذا فهو أقرب إلى تكريس الواقع القائم وإعادة إنتاجه.
ويتجلى ذلك في كون أغلب الفكر العربي يعيش ثنائية دائمة لا يرى نفسه إلا من خلالها: ثنائية الحديث والقديم، السلفي والمتجدد، الأصولي والمعاصر، الديني والعلماني .. الخ  وهكذا ” لم يقم الفكر النظري العربي في العقود الماضية، وبقدر تبنيه لهذه الثنائية كواقع ثابت وطبيعي، إلا بإعادة إنتاجها وتجديدها “. وكان من نتيجة ذلك ” أنّ الفكر العربي المعاصر لم ينجز – بعد – النقلة الكيفية الضرورية للدخول في العصر والاشتراك في إنتاج علوم اجتماعية عالمية الآفاق وعلى مستوى التحدي التاريخي، الأمر الذي يترتب عليه خطر جسيم ومخيف هو خطر  ” تهميش ” العرب في إنتاج المستقبل الإنساني “.
إنّ الإشكاليات السابقة تفرض علينا أن نعيد طرح قضايا المسألة القومية العربية، وخاصة الوحدة والتجزئة، على نحو جديد، منطلقين من أنّ مسألة إنجاز الأمة – الدولة الحديثة هي جوهر تلك القضايا. ومن هنا تبدو أهمية تجديد الخطاب النهضوي العربي على قاعدة: أنّ الدولة الوطنية/ القطرية الديمقراطية تشكل أساس دولة الأمة الحديثة. لذلك نعتقد أنّ الحاجة تزداد إلى بحوث ودراسات عديدة، تتناول إشكاليات المسألة القومية العربية من الوجهتين التاريخية والنظرية، وقد يساهم ذلك في منح الوعي والعمل السياسيين رؤى مستقبلية مفيدة. وتبدو أهمية ذلك، إذا عرفنا أنّ استعمال المفاهيم والمصطلحات قد أحيط بالغموض والالتباس، فاستُعملت المفاهيم في غير محلها، وساد الاضطراب بعضها الآخر. فمفاهيم مثل: الأمة، القومية، الوطن، الحركة الوطنية، الحركة القومية، لم تُستعمل بدلالاتها الحقيقية دائماً. ولم يكن هذا الخلط للمفاهيم بريئاً تماماً، بل ارتبط – في أغلب الأحيان – بتغطية موقف سياسي لدى استعمالها.
وإننا إذ نمارس النقد العلمي للوعي القومي العربي التقليدي نطمح إلى تصفية كل ما هو متأخر فيه لربطه بالكونية والتقدم والديمقراطية، لأنّ هذا المضمون يشكل النقطة المركزية   للمسألة القومية العربية. فالخطاب القومي يجب أن يرتفع إلى مستوى التحديات التي تجابهه، إذ أنّ الوحدة القومية ليست مجرد تجميع لأجزاء العالم العربي، من خلال أزلية الروح الخالد، بل هي محصلة لسيرورة تاريخية، ثقافية وحضارية، بما يحقق الشرط التاريخي لقيام الدولة القومية الواحدة.
أية وحدة عربية في المستقبل
إنّ مشروع الوحدة العربية هو جوهر الحركة القومية العربية، بمثل ما هو هدفها في الوقت نفسه. ولذا فقد لازم الهدف الحركة منذ نشوئها، وتطور معها نمواً وضموراً، وصعوداً وهبوطاً. ولكنّ أغلب المشاريع الوحدوية كانت من نمط الوحدات التي تفقد شعار الوحدة أهميته وجديته، حيث أنّ بعضها جاء تعبيراً عن محور سياسي عربي ضد محور عربي آخر، كما أنّ بعضها الآخر قد جاء على أمل حل بعض المشاكل السياسية أو الاقتصادية الطارئة. وبشكل عام يمكن أن نلاحظ أنّ هذه التجارب انطوت على جانبين: أولهما سلبي، حين أُفرغ شعار الوحدة العربية من مضمونه التحرري، وحين أفقد جدية وثقة الجماهير العربية بالوحدة. وثانيهما إيجابي، يتمثل في بداية نضج فكرة التدرج في العمل الوحدوي، الذي يأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات المحلية للأقطار العربية.
إنّ شعار الوحدة العربية، رغم أهميته بالنسبة لقضايا النضال العربي في التاريخ المعاصر، أصبح أكثر صعوبة وتعقيداً. لأنه من جهة أولى، لم يدخل في إطار العمل والإنجاز المتواصل. ولأنه من جهة ثانية، لم ينمُ بشكل واضح ومتدرج. ولأنه من جهة ثالثة، اصطدم بتجارب فاشلة وبتراجعات متوالية. وفي ضوء هذا الواقع، لم يعد يجدي طرح شعار الوحدة بصيغته العامة، إلا بمقدار ما تكون الصيغ عملية وواقعية، يمكن من خلالها تجسيد الهدف. وبكلمة أخرى ” إنّ كل خطوة عملية، مهما كانت صغيرة، في اتجاه الوحدة، هي وحدها التي ستقود إلى الوحدة، إذا كانت هذه الخطوة جزءاً من عمل كبير مخطط، وكانت بتوقيتها وطريقة تنفيذها صحيحة ومُحكمة “.
لقد دلت التجارب الوحدوية العربية المعاصرة أنّ مطلب الديمقراطية لا يقل أهمية عن الوحدة ذاتها، إذ إضافة إلى كونه مطلباً حيوياً للجماهير، فإنه المحتوى الحقيقي الفعلي للوحدة، وهو أيضاً المناخ الذي يساعد على قيامها، ثم على استمرارها وحمايتها بعد أن تقوم. كما دلت على أنّ الوحدة لا تعني الدولة المركزية أو الاندماج الكامل والفوري لأجزاء الأمة العربية، لذلك فإنّ المفكرين القوميين حاولوا أن يجدوا، بين هذين الحدين، صيغاً مرنة لتحقيق هدف الوحدة. ومن أمثلة ذلك، يمكن أن نذكر ” أنّ عملية تحقيق الوحدة العربية لا يمكن أن تتم في فراغ بل لا بد أن تأخذ بعين الاعتبار الواقع الموجود، وهو واقع التجزئة، وتتحرك منه بقفزات متدرجة نحو الوحدة. ولعل أهم ما يمكن استنتاجه ـ عملياً ـ من ذلك، هو أنّ الوحدة لا تتم دفعة واحدة، ولن تكون شاملة منذ البداية. والاستنتاج الآخر يتعلق بشكل نظام الحكم في الدولة العربية الموحدة، فهو كما يبدو سيكون أقرب إلى النظام اللامركزي الاتحادي منه إلى الدولة المركزية الموحدة “.
وهكذا فقد تبلورت نظرية التدرج في تشييد الوحدة العربية المستندة على البعدين الاقتصادي والاجتماعي، حيث تستند هذه النظرية إلى أنّ الوحدة، بمنطق التاريخ المعاصر، تقوم على وحدات اقتصادية تمهد لها وتقود إليها، وهذه الوحدات الاقتصادية تتم بداية داخل كل قطر عربي، ومن ثم داخل كل مجموعة إقليمية عربية. ولا شك أنّ هذه النظرية قد أخذت في التبلور بفعل عدة عوامل داخلية وخارجية، من أهمها:
(1) ـ الانتكاسات القومية، وخاصة هزيمة يونيو/حزيران1967، وكذلك تجيير بطولات حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 لصالح عقد معاهدة ” كامب ديفيد ” في العام  1979.
(2) ـ ضخامة المصالح الدولية، وخصوصا مصالح الدول الرأسمالية الكبرى، التي حاصرت اقتصاديات الدول النامية ووظفتها لخدمتها. فبسبب فشل تجارب حركة القومية العربية في تشييد أنموذج وحدوي، وفشلها في خطط التنمية الخاصة بها، اضطرت إلى تركيز النظر على العامل الاقتصادي ليكون أساساً لبنية الوحدة.
(3) ـ تعالي لغة تجميع الموارد في عموم المجتمع الدولي، الذي اتجه صوب تشييد الكيانات الكبيرة ذات الاقتصاديات الواسعة.
ومن الممكن انتقاد هذه النظرية من عدة جوانب، بسبب حتميتها وإلغائها عامل الإرادة السياسية، وعدم اهتمامها بدور الأيديولوجيا الموحِّدة التي يمكن أن تبني حولها إجماعاً يتجه نحو العمل الاقتصادي والاجتماعي الذي يتجه بدوره نحو الوحدة. ولكنّ الأمر لم يقتصر على مراجعة واحدة لفكرة الوحدة العربية، وإنما تعددت وجهات النظر حول كيفية الوصول إلى دولة الوحدة، ويمكن أن نرصد الاتجاهات التالية في هذا المجال:
(1) ـ اتجاه يدعو إلى ضرورة التعرف على القوانين العامة في العمل الوحدوي، وغرسها في عقل المواطن العربي من خلال التنظيمات القومية، ونطلق عليه اتجاه ” الوضعية الوحدوية “، ومن أبرز ممثلي هذا الاتجاه الدكتور نديم البيطار، الذي قدم مجموعة من الدراسات العلمية حول ظاهرة الوحدة، وذلك من أجل تحديد القوانين الأساسية والثانوية التي تكشف عنها عملية الانتقال من حالة التجزئة إلى حالة الوحدة في تجارب التاريخ الوحدوية.
وفي مجمل ما كتبه نجد أنّ مفهوم ” الإقليم ـ القاعدة ” يشكل المحور الرئيسي لدراساته، وحسب اعتقاده أنّ الديمقراطية لا تتحقق إلا في دولة الوحدة، وفي هذا الصدد يقول ” إن نحن أردنا حقا ديمقراطية عربية صحيحة، نامية مستقرة، وجب قبل كل شيء معالجة الضعف العربي الذي لا يسمح بظهور هذه الديمقراطية، وهذه المعالجة تفرض قيام دولة الوحدة كأداة لتوحيد وتعبئة إمكانات الأرض والشعب المتوفرة لنا بضخامة. فالمجتمعات التي تعيش في خوف دائم على استقلالها، في قلق دائم على مصيرها وكرامتها، والتي تتعرض باستمرار إلى المخاطر الخارجية والأزمات التي تترتب عليها، هي مجتمعات لا تنفتح لأية ديمقراطية صحيحة.
(2) ـ اتجاه يهتم بالأقليات القومية والطائفية، وضرورة إفساح المجال لها للمشاركة في العمل القومي، برز على الخصوص منذ سبعينيات القرن العشرين، وضم عددا من الأكاديميين والمفكرين العرب. ولعل اهتمام هؤلاء المفكرين بمسألة الأقليات يرجع إلى تفاقم بعض المشكلات السياسية التي واجهت العديد من الأقطار العربية بشأن مشكلة الأقليات (الأكراد في العراق، مشكلة جنوب السودان، الحرب الأهلية في لبنان، بروز المشكلة الطائفية في مصر، مشكلة الأمازيغ في الجزائر).
(3) ـ اتجاه يؤكد أنّ إيجاد المناخ الديمقراطي وإفساح المجال أمام الجماهير الشعبية، وكسر احتكار النخبة المثقفة للعمل القومي، هو الطريق لدولة الوحدة.
(4) ـ الاتجاه الذي يركز على المنهج الوظيفي في التعامل مع قضية الوحدة، حيث بدأ هذا الاتجاه بالتبلور خاصة بعد ظهور التكتلات الإقليمية العربية، حيث رأى أصحاب هذا الاتجاه أنّ ظهور هذه التكتلات يُعد تطبيقا للمنهج الوظيفي في التعامل مع قضية الوحدة، كما أشار بعضهم إلى أنّ هذه التكتلات تستلهم نموذج ” السوق الأوروبية المشتركة “. والواقع أنّ هذا المنظور للاتجاه الوظيفي يعني أنّ لكل إقليم من الأقاليم العربية دوراً محدداً لا يمكن أن تستقيم الحياة العربية المشتركة إلا بقيامه به.
وبعد كل الأفكار والتجارب الوحدوية، التي عرفتها الأمة العربية في تاريخها المعاصر، تبلورت كتابات وحدوية جديدة، خاصة منذ سبعينيات القرن الماضي، تتميز بـ ” عقلنة الخطاب الوحدوي “. وهي تنطلق من أنّ الكتابات الرومانسية عن الوحدة العربية تساهم في إغناء الوجدان العربي، وتوسع دائرة الحلم العربي، لكنها لا تقيم الوحدة. إذ أنّ التأثير الحقيقي لا يتم إلا بعد فهم معطيات المحيط العربي، بكل متغيراته وثوابته. وهو ما يعني محاولة إنجاز الحسابات السياسية التاريخية والعقلانية، ومحاولة تعميق الوعي بالمصالح والمنافع والخيرات المشتركة.
لقد ميزت الكتابات التقليدية في الفكر الوحدوي بين المدخل السياسي، والمدخل الاقتصادي، والمدخل العسكري للوحدة العربية. أما الفكر الوحدوي الناشئ فإنه ” يتجه، من جهة، نحو إعادة النظر في منطق التمايز بين المداخل المذكورة. مع محاولة إبراز التداخل الكبير بين الرأسمال الاقتصادي والرأسمال السياسي، والرأسمال الرمزي الثقافي “. لا ترتبط العقلنة هنا بالدفاع عن المدخل الاقتصادي بقدر ما تتجه نحو مواجهة الإشكال الوحدوي في شموليته، فالاقتصاد والسياسة والثقافة والتربية والحرب، كلها عناصر متداخلة، حتى وإن صُنفت بشكل منفصل ومتقطع، وإنّ التفريط في أي جانب منها، باسم المطلب الكلي الشامل، يفرّط فيها أكثر مما يقرّب منها.
ويحتل مفهوم الدولة الوطنية/القطرية مكانة هامة في الكتابات الوحدوية الجديدة، باعتبار أنّ تراكم خبرات بناء الدولة الوطنية الحديثة يساعد على إمكانية بلورة رؤية واقعية لكيفيات بناء الدولة القومية الواحدة. وعلى هذا الأساس، فإنّ البناء الوحدوي العربي، المستفيد من التجارب الوحدوية السابقة بما فيها بناء الدول الوطنية الحديثة، يُعتبر بمثابة تعاقد قومي جديد، أساسه الخيار الديمقراطي الحر ” لا يمكن أن تتم الوحدة العربية أو تكون دون ديمقراطية، بدون تراضي الدول العربية المرشحة لأن تتحد إما كمجموعات إقليمية، أو كوطن عربي ككل. لا طريق آخر للوحدة العربية إلا طريق التراضي الديمقراطي بين هذه الدول، أي أنه يجب أن تعترف كل دولة عربية بالدولة العربية الأخرى: بقطريتها وكيانها، ولا يمكن أن تكون الديمقراطية بهذا الشكل إلا إذا كانت متوفرة في كل بلد على حدة “.
إنّ الوحدة العربية ليست عملية قيصرية إكراهية ضد كل الوقائع القائمة في العالم العربي،  وإن كانت في جوهرها ثورة على جوانب كثيرة من تلك الوقائع، بل هي خيار طوعي حر وواعٍ يسلكه الأفراد والجماعات بفرادة مدركة لمصلحتها.
لقد غدا ثابتاً أنّ التجارب الوحدوية العربية لم تكن إلا محاولة استعادة بعضها لبعض، في طبعات تختلف في شكلها، بينما مضمونها لم يتبدل في أغلب الأحيان، وصعوباتها هي نفسها. فما هي الأوهام التي سقطت في امتحان التجربة والتاريخ ؟
(1)- الوحدة ” الانعزالية “، حيث توهم أغلب القوميين أنّ الوحدة شأن عربي محض، طالما أنّ شروطها الذاتية، المتعلقة بإرادتنا، وشروطها الموضوعية، المتعلقة بمقوماتها، متوفرة وموجودة، وهي لذلك تعنينا وحدنا أو لا دور للآخرين فيها إلا بمقدار ضئيل. وإذا كانت الوحدة شأناً داخلياً، في المرتبة الأولى، إلا أنها أيضا شأن دولي، تاريخي – سياسي مرتبط بمجموعة شروط وقواعد، أكثر تعقيداً واتساعاً من أن نملكها وحدنا.
إنّ كل زعم بإمكانية بناء وحدة، باعتبار ما نملك من قوة وحسب، بمعزل عن محيطها وواقعها وعالمها، هو وهم باطل. إذ لا قوة لمن لا يستطيع أو لا يعرف كيف يحول بين معوقات الخارج ورغبات الداخل.
(2)- الوحدة ” الفارغة “، أي الوحدة من دون مضمون، وهي وحدة لا تاريخية، أي خارج سياق الأشياء والوقائع والأفعال. فلقد ظن بعض القوميين أنّ المطلوب هو الوحدة وكفى، انطلاقاً من الاكتفاء بالمبدأ وإهمال التفاصيل والتطبيقات العملية.
(3)- الوحدة ” الزعاماتية “، وهي التي تنشأ بفعل إرادات أو رغبات ذاتية لـ ” الزعيم “، والرغبة التي ” تنشئ ” وحدة اليوم، في ظل مشاعر وأسباب وشروط محددة، سرعان ما تطيح بها رغبة أخرى في اليوم التالي، في ظل مشاعر وأسباب وشروط مختلفة، فتُلغى الوحدة بقرار مثلما قامت بقرار.
(4)- الوحدة ” اللاديمقراطية “،  إذ أنّ بعض القيادات القومية ارتأت أنّ مطلب الوحدة هو أكثر شرفاً ونبلاً وتعميماً من أن تحده شروط الديمقراطية، وكأن الوحدة إضافة محايدة لا علاقة لها بالناس، بحياتهم وبمستقبلهم، وعليه فهي إما أن تصون حرياتهم وحقوقهم الأساسية، أو تسيء إلى تلك الحريات والحقوق فتسيء، بالتالي، إلى حياتهم ومستقبلهم. فإذا كان مطلب الوحدة قادراً أن يدفع ملايين الناس إلى الشوارع لتفرض الوحدة فرضاً، فإنّ اللاديمقراطية قادرة، بدورها، أن تعيد هذه الملايين إلى بيوتها مُحبَطة ويائسة وكافرة بالوحدة نفسها.
وهكذا، فإنّ الدرس الأهم من التجارب العربية الوحدوية المعاصرة هو أنّ التسرع في إظهار مطلب الوحدة، كيما يُذبح بعد ذلك، هو أكثر إيلاماً للمشروع القومي، من التأني في طلبها والتدقيق في شروطها، والتعقل في البحث عن أشكالها العملية، حتى وإن طال بها الزمن أو تأخر.
كما أنّ التجربة أثبتت أنّ الوحدة العربية ليست عقيدة أو إيديولوجية مغلقة على ذاتها بل هي مفهوم وهدف استراتيجي، يمكن أن تتلاقى على تحقيقه تيارات فكرية وسياسية متباينة. فوحدوية أي برنامج أو ممارسة، لم تعد تقاس بالشعار المرفوع، بل تقاس – أساساً – بمقدار نجاح هذا البرنامج أو الممارسة في إيجاد وقائع وحدوية فعلية على الأرض، تستقطب الجماهير إلى العمل الوحدوي.
وهكذا، فإنّ النقد الذاتي هو دافع ومحرك ورافع نحو التقدم، فلا يجوز أن نكتفي بنقد الإمبريالية والصهيونية وجعلهما مشجباً نعلق عليهما عوراتنا وهزائمنا. فقد سحقت فكرة ” الثورة ” فكرة ” التقدم ” في العالم العربي المعاصر، خاصة في قطريه الرئيسيين سورية والعراق. وليس المطلوب بناء إيديولوجية جديدة، وإنما المطلوب هو تغيير نوعية العلاقة القائمة بين الأفكار والتيارات القائمة في العالم العربي، وتحويلها من علاقة عداء وقطيعة واقتتال ذاتي إلى علاقة تعايش وتواصل وحوار وتبادل.
وعليه، فإننا لسنا بحاجة لشعارات من أجل مواجهة التحديات الكبيرة المطروحة على أمتنا العربية، بل الارتقاء إلى مستوى التحديات، بما يخدم مصالح الأمة ويضمن حقوقها الأساسية في السيادة والحرية والاستقلال التام.
إنّ مشروع النهضة العربية، أي قضايا المسألة القومية العربية، كان ولا يزال في حاجة إلى فكر الأنوار والحداثة، وكذلك استيعاب التحولات والتغيّرات التي تطرأ على الساحتين العربية والدولية. مما يستوجب الاعتراف بالخصوصيات القطرية، في إطار التنوع ضمن أمة عربية واحدة، مع إمكانية تحويل التنوع القطري إلى عنصر غنى للثوابت القومية الضرورية لتطور كل حركة قومية. ومن أجل ذلك، تبدو الديمقراطية في رأس أولويات التجديد العربي، فالمسألة القومية تستدعي مقولات جديدة: المجتمع المدني، الديمقراطية، الدولة الحديثة، المواطنة. وتبدو أهمية ذلك إذا أدركنا أنّ العالم العربي المعاصر، بشكل عام، لا يملك لغة سياسية حديثة، منظمة وممأسسة، في بناه السياسية والثقافية، إذ بقي خارج تسلسل وتاريخ الأحداث ، فالماضي مازال ملقى على هامش الحاضر، بل يهدد المستقبل.
لذلك، فإنّ الأمة يجب أن تتجه نحو البحث عن حل تمديني ـ ديمقراطي، مما يعمق المحتوى الإنساني والمضمون الديمقراطي للحركة القومية العربية، على مستوى الفكر كما على مستوى الممارسة. ففي مجتمع واسع متعدد الجماعات العرقية والدينية والمذهبية كعالمنا العربي الكبير، لا يمكن لحركته الجامعة إلا أن تكون حركة ديمقراطية تعترف بالتنوع وتُثرى به، وتحترم تعدد الجماعات المكونة للأمة وتسعى إلى تحقيق التكامل بينها، بل تحترم السيادات الوطنية لأقطارها وتسعى لأن تحقق تكاملها القومي بعد أن ترسخ إحساس أبناء هذه الأقطار بهذه السيادة.
إنّ انخراط العرب في العالم المعاصر يتطلب منهم البحث عن مضمون جديد لحركتهم القومية التحررية، بما يؤهلهم لـ ” التكيّف الإيجابي ” مع معطيات هذا العالم، وبالتالي الانخراط في مقتضيات التوسع الرأسمالي، بما يقلل من الخسائر التي عليهم أنّ يدفعوها نتيجة فواتهم التاريخي،  لريثما تتوفر شروط عامة للتحرر في المستقبل. فالعرب ليسوا المبدأ والمركز والغاية والنهاية، هم أمة من جملة أمم وحضارات وثقافات، لا يمكن أن ينعزلوا عن تأثيرات وتطورات العالم الذي يعيشون فيه. إنّ الأمم التي تدور حول نفسها لا يمكن أن تتقدم، خاصة عندما تكون خطابات نخبها الفكرية والسياسية متوازية لا تواصل بينها، في حين أنّ التقدم يتطلب تراكم خبرات كل قوى الأمة، التي تعانق تناقضاتها، وتبحث عن حلول ممكنة وواقعية لمشكلاتها.
ومن سياقات ما قدمته، يبدو أنه لا يجوز القفز عن واقع الدولة الوطنية/القطرية تحت أي عنوان، بما فيه الطموح المشروع إلى دولة قومية عربية واحدة. فالأمة العربية لن تكون أمة ” قبائل “، وإنما أمة دول حديثة تطمح إلى توحيد جهودها للبحث عن مصالحها المشتركة وتعظيمها. إنّ المشكلة الأهم المطروحة أمام الحركة القومية العربية هي بناء الدولة الحديثة، وما يتفرع عنها من أدوات مفاهيمية تنتمي إلى المجال التداولي المعاصر: الأمة، المجتمع المدني، المواطنة، الديمقراطية، حقوق الإنسان، التعاقد الاجتماعي، الشرعية الدستورية والقانونية، التنوير، العقلانية، العلمانية.
إننا أحوج ما نكون إلى استنباط وسائل جديدة لاستنهاض العمل القومي الديمقراطي العربي، وقد بدت أهمية بناء المجتمع المدني، بعيداً عن لعبة الصراع على السلطة، باعتبار ذلك هو السبيل إلى تعميق الاستقرار الاجتماعي وتطويره على أسس ديمقراطية وحدوية عقلانية هادئة. كما أنّ المشروع الحضاري القومي العربي مازال، بأهدافه الكبرى، مطمح كثير من النخب الفكرية والسياسية العربية: الوحدة العربية في مواجهة التجزئة، والديمقراطية في مواجهة الاستبداد، والتنمية المستدامة في مواجهة التأخر، والعدالة الاجتماعية في مواجهة الظلم والاستغلال، والاستقلال الوطني والقومي في مواجهة الهيمنة الأجنبية، والتجدد الحضاري في مواجهة التجمد التراثي من الداخل والمسخ الثقافي من الخارج.

تونس في 27/9/2009                       الدكتور عبدالله تركماني
كاتب وباحث سوري مقيم في تونس
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى