صفحات سورية

درس في الديمقراطية (وغيابها) من لبنان والسودان والعراق

null

د. عبدالوهاب الأفندي

في أعقاب تفجر الأزمة التي تلقي بكلكلها علي لبنان حالياً، دعا أحد أنصار الحكومة الجيش اللبناني إلي القيام بمهمته والدفاع عن اللبنانيين ضد العدوان.

ولكن بحسب ما هو معلوم فإن العدوان المذكور يأتي من فئة لبنانية، مما يعني أن الدفاع عن بعض اللبنانيين يستلزم الهجوم علي بعضهم الآخر. وهذا ما يفسر إحجام الجيش حتي الآن عن الاستجابة لهذه الدعوة، وهو إحجام فسره في بيان أصدره في الساعات الأولي لمواجهات الأسبوع الماضي بحرصه علي وحدته التي يهددها الاستقطاب القائم. وفي ظل هذا الاستقطاب، يصبح الحديث عن الشعب أو الوطن أو الجيش ناقصاً وغير دقيق، إن لم يكن فاقداً لأي معني. نفس الأمر ينطبق علي الحديث عن الدولة وبسط سلطانها، لأنه قبل أن تكون هناك دولة لها شرعية فلا بد أن تحظي هذه الدولة بسند من الشعب، ولا بد لهذا الشعب أن يكون قد تشكل وتبلورت ملامح الرؤي التي توحده.

الدولة اللبنانية ظلت منذ نشأتها تشكو أزمة شرعية عميقة لأن الطوائف فرضت نفسها كدويلات داخل الدولة، بحيث تحتاج هذه الدولة بالضرورة للتنازل عن بعض سلطانها لصالح الطوائف. وقد أدت المحاولات المتكررة لانفراد بعض الطوائف بالأمر إلي انفراط عقد الدولة أكثر من مرة، وتحول البلاد إلي ساحة حرب مفتوحة استعانت فيها الأطراف بقوي خارجية. وإذا كان اتفاق الطائف في عام 1989 قد أعاد ظاهرياً بناء الدولة علي أساس عقد سياسي جديد، فإن الاتفاق كان في واقع الأمر تشريعاً للهيمنة السورية علي لبنان. المفارقة هي أن محاولة تحالف الأغلبية النيابية الحالية لإعادة تفعيل اتفاق الطائف بعد إخراج سورية من لبنان بعد اغتيال رفيق الحريري في عام 2005، وهي المحاولة التي أدت إلي الأزمة الحالية، ساهمت في إفراغ توافق الطائف من محتواه حين سعت لفرض سلطان دولة وهمية، خاصة حين حاولت أن تحل محل النظام السوري في الهيمنة دون أن تكون لها القوة الضاربة لتحقيق ذلك.

اتفاق الطائف حدد بوضوح في مبادئه العامة التي تؤسس للدولة بأن لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك . ومن هنا فإن سعي الحكومة القائمة إلي فرض سلطة لا تستصحب أسس العيش المشترك بإقصائها الطائفة الشيعية يمنع الحديث عن دولة أو شرعية أو مؤسسات دستورية. فشرعية المؤسسات الدستورية، بما فيها الحكومة والجيش، تنبع من احترامها لمبادئ العيش المشترك والتوافق بين كل الطوائف. فإذا انتفي التوافق تصبح الحكومة كياناً سياسياً أو طائفياً بين الكيانات المتنافسة، ويتحول الجيش إلي ميليشيا بين الميليشيات، كما حدث في لبنان في فترات سابقة. وبنفس القدر فإن الحديث عن مقاومة تدافع عن الوطن والشعب ضد الأجنبي الغاصب لا يكون له معني إذا لم يكن هناك اتفاق حول مفاهيم الشعب والوطن، خاصة إذا كانت طوائف من الشعب تفضل الأجنبي الغاصب علي الوطني المقاوم.

ولا يحتاج الأمر إلي ميثاق كميثاق الطائف كي تكتسب هذه المبادئ فاعليتها، لأن هذه المبادئ متضمنة في أي صيغة تعايش ديمقراطي، أو حتي غير ديمقراطي. فإذا كانت الديمقراطية هي حكم الشعب، فلا بد من تعريف للشعب لا يقصي أي قطاع من قطاعات المواطنين من هذا التعريف. ذلك أن أي نظام حكم (ديمقراطياً كان أم غير ذلك) يقصي طائفة من الناس، يتحول إلي نظام طغيان يستحق الإدانة القرآنية لنظام فرعون الذي علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم.

من هذا المنطلق فإن الحالة العراقية تطرح إشكاليات مماثلة حول طبيعة الدولة في إطار الاستقطاب الطائفي والسياسي. فالعراق يشهد انقسامات أخري أيضاً، بعضها مناطقي وبعضها طبقي، إضافة إلي التعقيدات التي يطرحها الاحتلال ودوره. فكما هو الحال في لبنان فإن الانقسامات الداخلية هي التي تبرر للبعض الاستعانة بالأجنبي، كما أن الوجود الأجنبي يكرس الانقسامات الداخلية لأنه يخلق الوهم لدي البعض بإمكانية فرض إرادة الفئة المهيمنة استناداً إلي حراب مستوردة. وفي هذا الإطار يمكن النظر إلي محاولة حكومة نوري المالكي الحالية فرض ما تسميه بهيبة الدولة ونزع سلاح الميليشيات بدعوي شرعيته علي أنها مهزلة، ولكنها مهزلة مبكية. فالاستناد إلي سلاح أجنبي لا شرعية له داخل الدولة لفرض سلطان الدولة المزعوم هو توجه من المضحكات المبكيات.

نفس الشيء يمكن أن يقال عن الحالة الفلسطينية التي لا توجد فيها دولة، ولكن توجد فيها سلطة تستمد شرعيتها (وسلاحها وتمويلها) من الاحتلال، ثم يجري الحديث كذلك عن شرعية وسلطة. ففي فلسطين المحتلة هناك انفصام بين السلطة والدولة، وكذلك بين السلطة والشعب، حيث ان السلطة تدعي الحديث باسم الشعب الفلسطيني الممثل بمنظمة التحرير، في حين أن جل الشعب الذي مثلته المنظمة يقيم خارج الدولة. فمنظمة التحرير نشأت من رحم فلسطينيي الشتات، ونطقت باسمهم، ولكنها اليوم منعزلة عنهم ومنغلقة في كانتونات رام الله، كما أنها تكاد تفقد أي صفة تمثيلية تجاه فلسطينيي غزة.

الحالة السودانية أكثر تعقيداً بحيث انها تقترب من لبنان في الاستقطاب العرقي والتمزق الطائفي، كما أن العوامل الأجنبية تلعب أدواراً ذات شأن فيها. وهي تشبه لبنان في أن اتفاقيات نيفاشا التي أبرمت بمساعدة أجنبية ودعم دولي تؤسس نظرياً لعقد سياسي يوازي اتفاق الطائف مع غياب الدولة الخارجية المهيمنة. ولكن الصدامات التي شهدتها العاصمة السودانية خلال اليومين الماضيين عكست أبعاداً أخري تذكر بالعراق. وهي تشبه بيروت كذلك في تصدي المعارضة بالعنف لحكومة تراها فاقدة الشرعية بمحاولة اجتياح العاصمة. فقد ألقت هذه الأحداث الضوء علي جدلية العلاقة بين المشروعية التمثيلية للدولة ووظيفتها الأمنية التي تنطلق، كما يري المنظرون المحدثون من هوبز إلي فيبر، من واقع قدرتها علي احتكار العنف وتسخير هذا الاحتكار لتوفير الأمان لكافة قطاعات الشعب من أي استهداف آخر، وخاصة من العنف العشوائي.

كثير من المنظرين منذ افلاطون وأرسطو إلي هوبز وجيفرسون ومن تابعهم من المحدثين (مروراً بابن خلدون بالطبع) رأوا بعض التجاذب، إن لم يكن التناقض، بين الصفة التمثيلية للدولة وقدرتها علي حفظ الأمن، خاصة في ظل الانقسام الحاد بين طوائف الشعب. وقد أثار هذا مسألة الأولويات: هل مهمة الدولة الأولي هي توفير الأمن، أم أن دورها الأهم هو تمثيل الشعب؟ وهل الشرعية التمثيلية مقدمة علي الشرعية الواقعية؟ الطريقة التي انهارت بها الديمقراطيات في السودان وغيره بفعل التجاذب بين الأطراف المتشاكسة تكشف عن ملامح هذه الجدلية، حيث أن انهيار أسس التعايش يورث الفوضي (أو خطرها) ويجعل بعض الأطراف أو كلها تبحث عن مستبد عادل. وإنه لمدهش أن نري ما نري في لبنان من تنافس بين الأطراف المتحاربة في التعبير عن التوله بالجيش وقائده العماد ميشال سليمان، والنظر إليه كمنقذ للسياسيين من أنفسهم. نفس الشيء رأيناه في الخرطوم في شكل التفاف حول الحكومة وأجهزتها الأمنية، لأسباب تتعلق بأولوية الأمن لكل مواطن، وأيضاً بعدم وجود تعاطف كبير مع قضية متمردي دارفور أصلاً.

الاضطرابات المتصاعدة في الدول المذكورة، خاصة لبنان والعراق والسودان، خلال الأيام القليلة الماضية، سلطت الضوء أيضاً علي مساوئ العنف وقبحه، خاصة حين نراه من قريب. فالحديث عن العنف بوصفه علاجاً، وتمجيده كنضال من أجل الخير، يخفي الطابع الدموي لكل عنف، ويعمي عن كثرة ضحاياه ومعاناتهم. ولكن مناظر الجثث المتناثرة في أم درمان أو بغداد والبصرة والموصل، أو مشهد الدمار الذي تخلفه السيارات المفخخة في بيروت أو مدينة الصدر كل هذا يضع المسألة في إطار جديد.

لم نسمع أن العرب تداعوا ـ كما فعلوا في شأن لبنان ـ لاجتماع بخصوص أحداث العاصمة السودانية ونجاح متمردي دارفور في تنفيذ تهديداتهم المتكررة بنقل الصراع إلي العاصمة، وإن كان الاجتماع ناقش القضية وأكد دعمه للحكومة. ولكن ما وقع هنا لا يقل خطورة عن أحداث لبنان لأن نقل الصراع إلي مدينة يسكنها أكثر من خمسة ملايين شخص من مختلف فئات وطوائف وأعراق الشعب السوداني يعتبر تصعيداً خطيراً قد يولد ديناميكيات جديدة يصعب التكهن بمآلاتها. وإذا كان هذا التصعيد يمكن أن يعمق الشعور بضرورة الإسراع في تدارك المشكلة وعدم التهاون أو التراخي في حلها، إلا أنه يصب علي المدي القصير في صالح دعاة الحل الأمني، ويقوي من يد الأجهزة الأمنية وأنصارها علي حساب دعاة الحلول الوفاقية. وقد حدث هذا في الخرطوم في أعقاب المحاولات الانقلابية في عامي 1975 و1976، ولكنه كان أيضاً حافزاً في نهاية المطاف نحو التحرك باتجاه المصالحة مع المعارضة في عام 1977.

وكما نري في الخرطوم حالياً فإن الأحداث المؤسفة (وهي بالقطع خطأ استراتيجي قاتل من الحركة التي تولت كبرها) دعمت حالياً التعبئة المؤيدة للنظام، ولقيت إدانات شبه إجماعية محلياً ودولياً باعتبارها لا تخدم أي مصلحة أو قضية. وفي الخطاب الرسمي حسم التناقض بين وصف دحر الهجوم بأنه انتصار للشعب السوداني وكون الفئة المتهمة تنتمي إلي هذا الشعب عبر وصف المهاجمين بأنهم مرتزقة أجانب. وبغض النظر عن القيمة الدعائية لهذا الاتهام فإن المهاجمين اكتشفوا بلا شك أنهم كانوا أجانب في العاصمة السودانية، وكان ذلك مصدر شكواهم في المقام الأول.

يمكن أن نلخص جدلية العلاقة بين الديمقراطية والعنف في أن التوافق الوطني ضرورة تدخل في صلب تعريف الديمقراطية، لأن حكم الشعب لا يتحقق ما لم يكن هذا الشعب حقيقة قائمة، وهي حقيقة لا تقوم إلا بالتوافق علي الأسس التي يقوم عليها الوطن وتحكم العلاقة التي توحده. وكما هو مشهود فإن انهيار التوافق الوطني وما يتبعه من انهيار السلم الأهلي يدفع الفئات المختلفة إلي طلب الأمن في كنف مستبد عادل سرعان ما يصبح هو العدو الذي يستجار منه، وقد تصل هذه الاستجارة حد العنف أو الاستعانة بالأجنبي. وعليه فإنه لا بديل عن البحث الجاد عن هذا التوافق الوطني الذي كما قلنا لا غني عنه حتي للأنظمة غير الديمقراطية.

كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى