الأزمة السورية – العراقية ومستقبل الشرق الأوسط
د. وحيد عبدالمجيد
مازالت الأزمة التي انفجرت بين دمشق وبغداد عقب تفجيرات 19 أغسطس الماضي، قابلة للحل على رغم الفشل غير المعلن الذي منيت به الوساطة التركية حتى الآن.
فهذه أزمة جديدة في ظروفها وملابساتها، وليست امتداداً آليا لصراع طويل امتد لأكثر من ثلاثة عقود. وهي لا تشبه ما كان يحدث في السابق بين البلدين. ولذلك يمكن حلها إذا أعادت دمشق النظر في بعض جوانب سياستها الإقليمية. وقد أصبح هذا ممكناً أكثر من ذي قبل، أو قل إنه صار أقل صعوبة مما كان قبل إسقاط النظام العراقي السابق. غير أن فهم أبعاد الأزمة الراهنة قد يحتاج إلى مدخل جديد. وقد نجد مفتاحاً لهذا المدخل في موقع العلاقات السورية – العراقية في التفاعلات الإقليمية الراهنة من ناحية، وفي توجه غير تقليدي تجاه هذه التفاعلات يبدو أنه يراود سورية الآن.
فلم يكن للعلاقات بين البلدين، في أي وقت مضى، الوزن الذي أصبح لها الآن في تحديد اتجاهات التفاعلات الإقليمية ومستقبل الشرق الأوسط. ولذلك تمكن النظام العربي الرسمي في العقود الماضية من التعايش مع الصراع بينهما، مثلما نجح في احتواء تداعيات جموح عراق صدام حسين والنيران التي أشعلها.
لكن هذا لم يحدث إلا لأن سورية كانت في قلب النظام العربي ضلعا ثالثا في محور ارتكاز ضم القاهرة والرياض ودمشق. وقد أصبح هذا المحور الآن في ذمة التاريخ. ومضت سورية في اتجاه آخر، عبر تدعيم تحالفها مع إيران. وهي تتطلع الآن إلى دور إقليمي ينطلق من هذا التحالف، ولكنه لا يقوم عليه.
وهنا، تحديدا، يكمن الجديد الذي يحمل في طياته إمكانات تغير تدريجي في التفاعلات الإقليمية. غير أن هذا التغير يتوقف على عوامل من أهمها حال العلاقات السورية – العراقية، التي قد يؤدي تحسنها، وتغليب الجوانب التعاونية فيها إلى تدعيم توجه جديد يراود دمشق وتؤيده طهران، والعكس صحيح.
ولم تكن دعوة الرئيس بشار الأسد، خلال زيارته طهران في 20 أغسطس الماضي، إلى تأسيس اتحاد رباعي بين سورية وإيران وتركيا والعراق إلا تعبيرا عن هذا التوجه الذي يراود دمشق منذ العام 2007. وهو ليس مجرد رد فعل على الانقسام في النظام العربي وتصاعد الخلاف مع مصر والسعودية. فقد بدأت إرهاصاته قبل هذا الانقسام. وقد يكون هو أحد العوامل التي تجعل دمشق أقل حماسا لإنهاء الانقسام العربي، وأكثر بطئاً في التجاوب مع الجهود السعودية المبذولة في هذا المجال.
وكان الرئيس السوري قد عبر عن هذا التوجه باقتضاب في عدد من الكلمات التي ألقاها في مناسبات مختلفة خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة. ولعل الفكرة المحورية فيه هي الطموح لأن تصبح سورية معبرا بين أربعة بحور، هي الخليج العربي والبحر المتوسط وبحر قزوين والبحر الأسود، وممرا للنفط والغاز من آسيا إلى أوروبا، وملتقى لشبكات ربط كهربائي، على نحو يجعلها الرابط الرئيس –أو «عقدة ربط» وفق التعبير الذي استخدمه الأسد– في هذه المجالات وغيرها.
ولذلك يبدو هذا التوجه سورياً بالأساس، حتى إذا كانت إيران تدعمه بقوة الآن. وكان آخر تعبير عن هذا الدعم على لسان السفير الإيراني لدى أنقرة في 11 سبتمبر الجاري عندما قال إن بلاده حثت تركيا على إنشاء آلية رباعية تضم البلدين وكلا من العراق وسورية. والفرق بين الموقف السوري والموقف الإيراني في هذا المجال، هو أن الأول معني في الأساس ببناء علاقات اقتصادية وتجارية وخطوط نقل ومواصلات، بينما يركز الثاني على دور سياسي تجاه القضايا الإقليمية في المقام الأول.
وفي كل الأحوال، لا يمكن لفكرة اتحاد رباعي، أو آلية رباعية، أن تتحقق من دون علاقات ايجابية بين سورية والعراق.
ولا تستطيع دمشق أن تحرز تقدما حقيقياً في هذا الاتجاه في ظل علاقات مأزومة مع بغداد، حتى وإن بدا أن تحركها نحوه قطع خطوات أولية، ليس مع تركيا فقط، ولكن مع العراق أيضا.
وكانت البداية هي طي صفحة العداء مع تركيا. وفي الوقت الذي وصل حجم التبادل التجاري بين دمشق وأنقرة إلى أكثر من عشرة مليارات دولار في العام الماضي، كانت سورية قد شرعت في عملية ممتدة لإصلاح الطرق وشبكات السكك الحديد مع العراق. كما امتد التحرك السوري إلى دائرة أوسع عبر زيارة الأسد إلى أذربيجان وأرمينيا وتكثيف الاتصالات مع دول أخرى في وسط آسيا.
ولكن إذا كانت سورية تتطلع لأن تكون «عقدة ربط» إقليمي، فالعراق يمكن أن يكون «عقدة فصل» تحبط توجهها الجديد إذا ظلت تراوح بين تدعيم العلاقات معه على أسس جديدة، والاحتفاظ بأوراق مؤثرة في وضعه الأمني والسياسي يتيح لها التدخل في شؤونه على طريقة سياستها التقليدية التي تخلق أزمات من وقت إلى آخر.
ولذلك يبدو موقع العراق في التوجه السوري الجديد أبعد من أن يمكن حصره في علاقات ثنائية بين بلدين عربيين. فإلى جانب الأهمية الخاصة لطابع العلاقة مع العراق بالنسبة إلى التوجه السوري الجديد إيجابا وسلبا، يبدو موقع بغداد في هذا التوجه مهما أيضا، من زاوية أثره المحتمل على النظام العربي وموقع دمشق فيه. فإذا تأملنا هذا التوجه الذي يراود سورية، نجد أن العراق هو العنصر العربي الرئيس فيه، إلى جانب شبكة الربط الكهربائي العربي التي تشمل تركيا أيضا، وشبكة الغاز العربي.
فهاتان الشبكتان تندرجان من ضمن هذا التوجه، من زاوية أنهما جزء من الشبكات الإقليمية التي تطمح دمشق لأن تكون «عقدة ربط» فيها. ولذلك فهي تطمح إلى ربط شبكة الغاز العربي بخط «نابكو» للغاز الذي يمتد من أذربيجان إلى تركيا وجورجيا وبلغاريا ورومانيا والنمسا.
وتكمن أهمية العراق الاستثنائية جدا، هنا، في أن التوجه السوري الجديد يتوقف عليه. فطموح سورية لأن تكون محورا للحركة الاقتصادية والتجارية ولشبكات الطاقة والغاز من وسط آسيا إلى وسط أوروبا يتوقف، في أحد أهم جوانبه، على أن تكون هي الممر البري «المفضل» من الخليج وبحر قزوين والبحر الأسود إلى البحر المتوسط. ويصعب تحقيق ذلك من دون شبكة طرق برية كبيرة وخطوط نفط ممتدة بينها وبين العراق. وبمقدار ما تكون سورية هي الممر المعتمد من العراق، يمكن أن تطمح لأن تصبح ممرا مفضلاً من آسيا إلى أوروبا.
غير أنه لا سبيل إلى ذلك إذا ظلت سورية تراوح بين توجه جديد يمكن أن يؤدى إلى تغيير كبير فى المعادلات الإقليمية وسياسة قديمة تحتاج إلى مراجعة فورية. وبسبب هذه المراوحة، انفجرت الأزمة مع العراق بعد أيام قليلة على إعلان تأسيس مجلس تعاون استراتيجي ثنائي يعنى، ضمن اختصاصاته، بمشاريع النقل والاتصال والنفط التي تدخل ضمن التوجه الجديد الذي يراود سورية.
ولا يمكن لمجلس مماثل مع تركيا أن يعوض عن هذا المجلس الذي أُدخل الثلاجة بطبيعة الحال فور انفجار الأزمة مع الحكومة العراقية. فقد أسفرت محادثات الأسد في اسطنبول في 16 سبتمبر الجاري عن تأسيس مجلس تعاون استراتيجي، في الوقت الذي وصلت المحادثات بين وفد بلاده والوفد العراقي في أنقرة إلى طريق مسدودة.
لذلك، وبغض النظر عن مدى سلامة اتهامات الحكومة العراقية ضد سورية، تظل المعضلة في دمشق. فلم يظهر بعد ما يدل على أن ركائز التوجه الجديد، الذي يراودها، يمكن أن تكون المحرك الرئيس لسياستها الخارجية التي لايزال قديمها قويا ومؤثرا.
كاتب من مصر
أوان