أبعاد المحور الإقليمي الجديد التركي – السوري
توفيق المديني
تشهد العلاقات التركية–السورية تحسنا ملحوظا خلال السنوات الأخيرة، بعد مرحلة طويلة من عدم الثقة، بسبب اتهام الطبقة السياسية الحاكمة في تركيا، ولاسيما المؤسسة العسكرية، طيلة عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، سورية بدعم حزب العمال الكردستاني، الذي يخوض حرب عصابات ضد تركيا منذ العام 1984، وإصرار أنقرة على أن يغادر زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان الأراضي السورية في العام 1998، وهي المرحلة التي كادت تصل فيها العلاقات المتوترة إلى نوع من الصدام العسكري، لولا تدخل الوساطة المصرية آنذاك.
فقد شكلت زيارة الرئيس بشار الأسد إلى اسطنبول مؤخرا، وإجراؤه محادثات مهمة ومثمرة مع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، نقلة نوعية في علاقات الصداقة بين تركيا وسورية، توجت بإعلان مشترك لتأسيس مجلس تعاون إستراتيجي عالي المستوى بين البلدين، بما يرسخ تضامنهما ويعززه في مختلف المجالات، وهو ما وجد ترجمته في قرار إلغاء التأشيرات والسمات المتبادلة على سفر المواطنين، بما يسمح للمواطنين في البلدين كليهما بالتنقل بينهما من دون إجراءات على الحدود.
ووفقا لما أعلنه وزير الخارجية السوري وليد المعلم، ووزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو، وتضمنه بيان التعاون الاستراتيجي، فإن هذا الأخير يشمل المجالات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والنقل والطاقة، ومجالات المصادر المائية والبيئية والثقافة والتعليم والعلم. ويرأس المجلس رئيسا وزراء البلدين، ويجتمع مرة على الأقل في كل عام بالتناوب، ويضم أيضا الوزراء المعنيين بالشؤون الخارجية، الطاقة، التجارة، الاستثمار، الدفاع، الشؤون الداخلية، الموارد المائية والنقل كأعضاء في المجلس.
الراصد لتاريخ العلاقات التركية- السورية يلمس بوضوح أن هذه العلاقات انتقلت من مرحلة الحرب الباردة من جراء قضية الأكراد وحرب المياه التي اتسمت بها مرحلة الثمانينيات والتسعينيات، إلى نوع جديد من العلاقات التي يسودها الدفء والثقة المتبادلة. وكانت هناك عوامل جديدة لعبت دورا مهما في هذا التحسن، ومنها:
أولا: تغير النخب السياسية الحاكمة في البلدين كليهما، ولاسيما مع وصول حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان إلى السلطة في أنقرة في العام 2002 ، والذي دشن الثورة الثانية في تركيا، بعد الثورة الأولى التي قادها مؤسس الجمهورية التركية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك بعد انهيار الخلافة العثمانية في العام 1923، وهو ما شكل انقلابا على الإرث الأتاتوركي المعادي لسورية، وأحدث تحولا في المعادلات الإقليمية في الشرق الأوسط، إذ سعت تركيا في ظل رئاسة رجب طيب أردوغان إلى إعادة التفكير في علاقاتها مع سورية من منطق «الجار الخصم» إلى منطق «الشريك الاستراتيجي»، أو حسب ما يقول وزير الخارجية التركي الجديد أحمد داود أوغلو أن سورية تكاد تكون «المنفذ الوحيد لتركيا على الشرق الأوسط، وأن عزلها يعني عزل تركيا عن محيطها الشرق أوسطي» (صحيفة الحياة، 25 مايو، 2009).
ثانيا: انتهاج حزب العدالة والتنمية سياسة إصلاحية تقوم على المواءمة بين الإسلام والحداثة، وهو ما شكل عاملا مهما في استساغة الغرب لهذا النهج الجديد من الإسلام في السلطة، إذ باتت تركيا في نظر الولايات المتحدة الأميركية دولة ديمقراطية تؤمن بإسلام عصري، لها مكانتها في المنطقة وحليفة مهمة للغرب.
فضلا عن ذلك، اتبعت تركيا سياسة خارجية مستقلة، بعكس سياسة التبعية المعروفة عنها للولايات المتحدة، إذ رفضت تركيا أن تكون أراضيها منطلقا للحرب الأميركية على العراق، كما اتخذت مواقف سياسية حادة من إسرائيل، ولاسيما في الحرب العدوانية الأخيرة على غزة بداية من سنة 2009، حيث حصلت مواجهة علنية بين رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان والرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز في مؤتمر دافوس، حين وصف أردوغان الحرب الإسرائيلية على غزة بأنها «جرائم حرب».
ثالثا: رعاية تركيا للمفاوضات غير المباشرة بين سورية وإسرائيل، والتي استمرت ثمانية أشهر، سبقها تنسيق وتحضير مشترك لأكثر من ثلاثة عشر شهرا بين الرئيس الأسد والرئيس أردوغان مباشرة من خلال اللقاءات، ومن خلال الاتصالات الهاتفية من خلال المبعوثين.
رابعا: وصول الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى السلطة في البيت الأبيض، وانتهاجه سياسة خارجية تكاد تكون نقيضة لسلفه جورج بوش، حيث انتقلت إدارة أوباما من سياسة الحرب مع العراق إلى اتخاذ القرار بالانسحاب منه في نهاية 2010، ومن قرار التصعيد والمواجهة مع إيران وسوريا، الخصمين اللدودين للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، إلى انتهاج سياسة الحوار والانفتاح عليهما، وهو ما أحدث حالة من السيولة الإقليمية تدفع باتجاه ظهور محاور إقليمية جديدة في منطقة الشرق الأوسط.
خامسا: الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى تركيا في شهر أبريل الماضي، حيث مثلت تلك الزيارة، حسب آراء معظم المحللين في العالم العربي وفي الغرب، فاتحة لشراكة إستراتيجية بين القوة العظمى الأولى في العالم وبين تركيا القوة الإقليمية الكبيرة الصاعدة في الشرق الأوسط، ولاسيما حين نجح حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان في تحقيق نهوض اقتصادي كبير لتركيا، على رغم الإشكاليات التي تعاني منها البلاد: الصراع المسلح مع الأكراد، وصعود الإسلام السياسي، والنزعة المعادية للولايات المتحدة، والتوتر تجاه أوروبا، فالصناعة القديمة والحديثة نمت بمعدل 7 في المئة خلال السنوات القليلة الماضية. وهذا هو العام الرابع الذي يتزايد فيه النمو.
فهذه القوة الاقتصادية الكبيرة لتركيا، وجاذبية أنموذجها السياسي تعززان الدور الإقليمي لها، الذي يتزامن مع رغبة إدارة أوباما بالانسحاب من العراق، والتركيز على خوض الحرب ضد الإرهاب في أفغانستان وباكستان، بالتوازي مع المباركة لدور تركيا الجديد في المنطقة.
ويأتي توقيع اتفاق التعاون الاستراتيجي بين تركيا وسورية، في ظل التأييد السوري القوي للدور الإقليمي لتركيا، ولاسيما أن أنقرة لعبت دور الوسيط في المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل، وفي ظل البرود الذي يخيم على العلاقات بين تركيا وإسرائيل، الذي يلقي بظلاله السلبية على مسار العلاقات التركية الإسرائيلية، وبصورة خاصة على احتمال تجدد الوساطة التركية في المفاوضات السياسية بين سورية وإسرائيل، ولاسيما في ظل الحكومة الإسرائيلية المتطرفة التي يرأسها نتنياهو، والتي صرح قادتها في أكثر من مناسبة عن رغبتهم في معاودة المفاوضات مع سورية، ولكن من دون شروط مسبقة، أي من دون الموافقة على التعهد المسبق الذي يطالب به الرئيس الأسد بالانسحاب الشامل من هضبة الجولان (حسب قول رندة حيدر في مقالها المنشور في صحيفة النهار تاريخ 19/9/2009).
كاتب من تونس
أوان