بكر صدقيصفحات ثقافية

“عشق” لأليف شفق: قطرة ماء تلخّص البحار والأنهار

null
بكر صدقي
إذا سأل أحدهم ماذا يقرأ الأتراك اليوم، فمن المرجح أن يكون الجواب: رواية “عشق” للكاتبة أليف شفق. فالكتاب الذي صدر في ترجمته التركية في شهر آذار من السنة الجارية، وُزِّعت طبعته الخمسون بعد المئة في شهر آب، وبلغ مجموع النسخ 300 ألف نسخة في خمسة أشهر. هذا رقم قياسي في تاريخ النشر التركي، فاق بكثير ما سبق لأورهان باموق النوبلي تسجيله من أرقام.
تحتل أليف شفق رأس قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في تركيا منذ روايتها “الأب واللقيط”، وإذا كان ثمة من ردّوا هذا النجاح إلى الدعاية الواسعة، وسعوا إلى التقليل من موهبة شفق الأدبية، وإذا كان آخرون انتقدوا كتابتها لـ”عشق” باللغة الإنكليزية – الأمر الذي كانت فعلته في روايتين سابقتين -، فإن البناء السردي المتين ورسم الشخصيات والأماكن، وانتقاء اللغة المناسبة لكل عصر وشخصية، ورشاقة الجملة، وغنى النص بالمعنى، والخلفية الثقافية العميقة، هذه كلها تتيح القول بموهبة وصنعة رفيعتين وراء الرواية التي يقرأها الناس اليوم في الترامواي والباص وعلى الشطآن السياحية في صيف اسطنبول والمدن التركية.
تعود شفق في روايتها الجديدة إلى أحد اهتماماتها الأصلية، عنيت به التصوف الذي شكّل موضوع الأطروحة التي نالت عليها شهادة الدكتوراه قبل سنوات (التصوف عند الطريقتين البكداشية والمولوية). تردّ الكاتبةُ العشقَ إلى مفهومه الصوفي، أي العشق الإلهي أو الفناء في الذات الإلهية، من خلال تضافر قصتين تجري أحداثهما في عصرين مختلفين: قصة شمس التبريزي وجلال الدين الرومي في القرن الثالث عشر، وقصة امرأة أميركية يهودية تعيش مع زوجها وأولادها في بوسطن، بين 2008 و 2009، يقع بين يديها مخطوط رواية وضعها كاتب اسكتلندي غير معروف يجوب بلاد العالم كالمتصوفة الأوائل، تحمل عنوان “شريعة العشق”. هي قصة شمس التبريزي وجلال الدين الرومي. تبدأ المراسلة بوساطة البريد الألكتروني بين القارئة الأربعينية التي “تشبه حياتها المنتظمة بحيرة راكدة”، والمتصوف الاسكتلندي “المتدفقة حياته كالنهر”، لتنتهي عشقاً سرعان ما ينتقل من الفضاء الافتراضي للإيميل، إلى العالم الواقعي، فتنقلب حياة القارئة إيلا رأساً على عقب.
شريعة العشق: الرواية داخل الرواية
“ليس في الكون شيء يسمّى المصادفة أو الاعتباط”، هذا ما يؤكده شمس التبريزي الذي يندفع وراء مصيره المحتوم بعينين مفتوحتين. لطالما هرب شمس من حياة الاستقرار في رحلة البحث عن الحقيقة والحق. رحلة في أعماق الذات وجدت معادلها الخارجي في الترحال الدائم وفي معرفة الحياة الحقيقية والناس الواقعيين في أصقاع الأرض. كان يعرف منذ البدء أنه منذور للعشق، لعشق إلهي يتجسد في شخص صوفي مثله سيكون صنو روحه. لم يتعرف الى جلال الدين الرومي بمحض المصادفة، بل تلقّى رسالة تطلب منه السفر من بغداد إلى مدينة قونية وسط الأناضول للانضمام إلى جلال الدين الرومي، وتضمنت الرسالة تحذيراً شديداً بأن الرحلة نفسها ستقوده إلى هلاكه. بيد أن الفناء هو المرتبة العليا من التصوف، فلا عجب في اندفاع شمس إلى مصيره المحتوم كمن يندفع بشوق إلى المحبوب.
“القواعد الأربعون” التي بثتها شفق في ثنايا الصفحات الأربعمئة لرواية “عشق”، تشكل في مجموعها نظرة المتصوفة إلى الكون والزمن. وإذا كانت ترد على لسان شمس في مواقف درامية مناسبة، فهي من خلق الكاتبة، استمدت معانيها من قراءاتها لأدب التصوف. منها مثلاً:
القاعدة الأولى: يتوقف تعريفنا للخالق على الصورة التي نرى أنفسنا عليها. فإذا كانت كلمة الرب تعني لك، أول ما تعني، كائناً يثير الخوف والخجل، فهذا يعني أنك تحيا غالباً في الرعب والعار. أما إذا عنت لك الكلمة، قبل كل شيء، العشق والرحمة والرأفة، فهذا يعني أنك تتمتع بهذه الصفات.
القاعدة الخامسة: تختلف كيمياء العقل عن كيمياء العشق. العقل حذر، يتحرك بخطوات وجلة، يحذّرك من العواقب، في حين يقول لك العشق: “دع نفسك تتحرك على سجيتها”. لا ينهار العقل بسهولة، في حين ينهك العشق نفسه ويهلكها. والحال أن الكنوز تختبئ تحت الأنقاض. كل ما هو موجود، ففي حطام القلب!
القاعدة 11: تعرف القابلة أن الولادة لا تكون إلا عبر الألم. إذا أردت أن تنبثق من ذاتك ذات جديدة، فعليك أن تكون مستعداً لتحمل المشقات والآلام.
القاعدة 12: العشق سفر. كل من انطلق في هذه الرحلة تغيّر، شاء ذلك أم أبى. لا منجى من التغيّر على هذا الطريق.
القاعدة 16: من السهل عشق الله لأنه الكامل، الصعب هو عشق البشر الفانين بمحاسنهم وعيوبهم. لا تنس أن المرء لا يعرف الأشياء إلا بقدر ما يمنحها من حب. هذا يعني أنه ما لم تعانق الآخر فعلاً، ما لم تحبب المخلوق في سبيل الخالق، فلن تعرفه حق المعرفة ولن تعشقه حق العشق.
القاعدة 28: الماضي ضباب يغطّي أذهاننا، والمستقبل ستارة من صنع الخيال. لا يسعنا معرفة المستقبل، ولا تغيير الماضي. لا يحيا الصوفي إلا في الآن.
القاعدة 40: العشق عالم قائم في ذاته، ليس في حاجة الى أي تعريف. إما أنك في قلبه، وإما خارجه، في شوق إليه.
إيلا وابنتها، العشق واستهلاكه
بطلة الرواية إيلا التي ستنتقل من البحيرة الراكدة لحياتها الزوجية المستقرة المنتظمة إلى العشق الصوفي المجنون، لها ابنة تلميذة في الجامعة، اسمها جانيت، تقيم علاقة غرامية مع صديق لها من غير دينها. في مرآة هذه العلاقة نكتشف ملامح إيلا حين تعترض بشدة على رغبة العاشقين في الزواج. ومع أن إيلا اليهودية لم تكن يوماً متدينة، إلا أنها تعمل بنشاط على إبعاد الفتى (الخطر) عن ابنتها، ليس لأنه غير يهودي، بل بدوافع لا تعرفها الأم نفسها. نعرف لاحقاً أنها الخوف من العشق، هذا الكائن الغامض المغوي الذي لن يتأخر في الاستحواذ عليها حين يلقي مخطوط رواية “شريعة العشق” بحجرته في بحيرتها الراكدة.
جانيت التي لقّنت أمها درساً قاسياً حين أصرت على الزواج من حبيبها وغادرت البيت من أجله، تعود بعد أيام وقد انتهت علاقتها العاطفية بالسرعة نفسها التي تطورت بها نحو قرار الزواج.
في مقابل هذه العلاقة التي استهلكها الزمن بسرعة كغرام بدأ في الجسد وانتهى فيه، تقع الأم في غرام بدأ في الروح ولم يتنكر للجسد، ولم ينته بفناء جسد المحبوب. المفارقات المدهشة بين العلاقتين الغراميتين لكل من الأم والابنة، تقوم على تحولات الزمان: الأم التي جفّ قلبها على إيقاع حياة زوجية منتظمة، بما فيها خيانات زوجها لها وقد باتت جزءاً روتينياً منها، تقبلتها على مضض، وجدت نفسها فجأة في “بحر ظلمات” لعشق افتراضي نما على صفحات الإيميل، خطوة بعد خطوة، إلى أن باتت “تشتاق” إلى الكاتب الاسكتلندي الغامض “قبل أن تراه”، في حين أن ابنة القرن الحادي والعشرين تعشق فتاها بالطريقة الأكثر تقليدية. حب الأم يخترق المكان ويقوم على كيان وهمي، لأن الكاتب الاسكتلندي لا يتوقف عن التنقل بين البلدان والقارات، لكنه يواظب على مراسلتها حيثما وجد. إنه الدرويش المتصوف العصري الباحث عن الذات والحقيقة، الذي لن نعرف قصته إلا في الفصول المتأخرة، من خلال رسائله الإلكترونية المطولة. لقد خاض مغامرة الحياة وتلوّث بغبار الواقع وأوحاله وخبر ضروب الرفاه والشقاء جميعاً، إلى أن انتهى به المطاف إلى اعتناق التصوف فلسفةً والإسلام ديناً، فغيّر اسمه إلى عزيز وامتهن التصوير الفوتوغرافي، فجاب أصقاع الأرض، ووقع في غرام امرأة متزوجة لم يرها قط، وحط رحاله في بلد كبير المتصوفة جلال الدين الرومي.
غير أن عزيزاً ليس الند المعاصر للرومي، بل لشقيق روح هذا الأخير، شمس التبريزي. إيلا نفسها، شبّهته به مع تقدم مراسلتها لعزيز بالتوازي مع تقدمها في قراءة روايته التي تحكي قصة التبريزي. الرومي ثابت في المكان (قونية)، أما شمس، المنسوب إلى مدينة تبريز، فلا يستقر به المقام في مكان. قدماه تنقلانه في الأرض، وروحه مستقرة في العشق الإلهي الذي يتجسد في مهمّشي الأرض من مجذومين ومتسولين وعاهرات وسكارى. الرومي جلال الدين، في المقابل، راسخ في الأرض والعلم، محبوب من الناس، يحوطه المريدون، لكن روحه القلقة تبحث عن مشتهاها، فتجده في شمس “حجرةً ألقي بها في البحيرة الراكدة”، صنعت منه الشاعر الذي باغته الوحي مثنويات خالدة، ستخلده مع شمس التبريزي.
على هذه المفارقات والتشابهات والتنافرات، بنت الروائية الشابة عمراً، الناضجة فنياً، روايتها الجديدة، ولعلها استعادت فيها شيئاً من طفولتها وصباها اللذين مضيا في التنقل بين ستراسبورغ واسطنبول والأردن والولايات المتحدة واسبانيا وغيرها من المدن والبلدان، في حين أنها نمت في العزلة، منطوية على نفسها ومكتبة أمها الشاسعة، فاستبدلت الكتب بالأصدقاء، ووهم الكلمات بالبشر الحقيقيين، فنما خيالها القصصي وتمكنت من عدد من اللغات فكتبت بالإنكليزية ببراعة تضاهي كتابتها بلغتها الأم ¶

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى