نهر سليم بركات
اسكندر حبش
بين يديّ كتاب «ترجمة البازلت» للشاعر والروائي سليم بركات، الصادر حديثا عن منشورات «المدى». هو الكتاب الثاني والثلاثون، في مسيرته الإبداعية التي انطلقت مع «كلّ داخل سيهتف لأجلي، وكلّ خارج أيضا» في سبعينيات القرن المنصرم. اثنان وثلاثون كتابا، ليس مجرد رقم نتغنى به، نحن الواقعين في حيّز هذه الدهشة الساحرة، ولا مجرد رقم يمكن للكاتب أن يتبجح به. أقصد أن الأمر ليس مجرد مراكمة مجانية، بل أقلّ ما يُقال فيه، هو عمارة شاهقة، مدهشة، عرف سليم بركات كيف يبنيها على مرّ السنين، ليصوغ منها حقلا وارفا، استطعنا التظللّ بفيئه المدهش طيلة السنين الماضية.
لا تزال قراءة سليم بركات، تأخذنا في كلّ مرة، إلى أقصى… القراءة. فالكتابة عنده لا تزال تثير فينا الكثير من الأسئلة. أعتقد أن سؤال الأدب برمته، يكمن في قدرته هذه، على الاستمرار في طرح المزيد من الأسئلة، من كتاب إلى آخر. لم يتنازل الكاتب أبدا عن تطلباته، لا من اللغة، ولا من مساءلة المكان الأول الذي يقبع نديا في الذاكرة. نميل كثيرا، عند الحديث عن بركات إلى الحديث عن لغته المدهشة (ولا أحد ينكر ذلك)، لكنّنا مع هذا الأمر، ننسى هذا الفضاء الذي رسمه، والذي بدا معه أشبه بالأسطورة الجميلة، أسطورة الملاحم القديمة. أقول هذا، وأنا أفكر في ما برهنه الكاتب الفرنسي جوليان غراك، في كتابه «حين القراءة، حين الكتابة»، بأن الكاتب يبني فضاء «خاطئا» بشكل مطلق، ليجعل شخصياته تتطور فيه. فإن كان بلزاك مثلا، يظهر تلك الجغرافيا أو تلك الطوبوغرافيا، قريبة من الواقع، لكنها ليست أقلّ خيالا كما عند ستاندال، لأن الأساس، هو في هذا العالم المبني، كاملا، على «الأحلام» التي استطاع الكاتب وحده أن يعطيها أسماء واقعية.
بهذا المعنى، أستعمل كلمة ملحمة معاصرة، تلك الملحمة التي كتبها بركات، والتي تمتدّ من كتاب إلى آخر. أي أيضا، ثمة خيط، خفي، يجمع بين كتب بركات كلّها، حتى في تعاقب النوعين الأدبيين، فحين يصل السرد إلى نقطة يبدو من الصعب التقدم معها، يفتح الشعر خطا جديدا ليسير فيه، تماما كحالة نهر يبحث دوما عن منافذه المختلفة، كأني به يردد ما يكتبه سليم بركات (ص: 84) «اعثروا عليّ في الموجع، مذ عثرت عليكم في المواجع رسوما بتلاوين من قلق الأرجوان».
«ترجمة البازلت»، فسحة أخرى، يعيد فيها بركات الهواء للشعر. يبعدنا عن كثير من شعر آخر، يكتب اليوم، يجعلنا نغرق في كآبتنا، أريد أن أصف ذلك الشعر، باقتباسي لجملة أخرى من الكتاب: «فلا تأخذوهم على محمل مذ لم تأخذ الحياة ذاتها على محمل».
بهذا المعنى، ليـــست الكتابة هــنا سوى هذه الحياة الوارفة. كتابة لا تزال تستحق أكثر من تحية. سليم بركات: تحية.
السفير