العربدة الأسدية !
ثائر الناشف
قد أكون ظالماً لنفسي وللتاريخ العربي المتهالك بالنكبات والنكسات المتوالية كفصول السنة ، إذا ما ذهبت في عنواني هذا إلى وصفها بالعربدة السورية ، لأني أكون ظلمت وطناً تمتد حدوده على مسافة تزيد عن أحلامنا جميعاً ، وأكون ظلمتها أكثر ، إذا ما وصفتها بالعربدة “العلوية “، نسبة إلى الطائفة التي يتحدر منها رئيس النظام القابض على أحلام السوريين منذ عشرات السنين ، رغم تمترس الطائفة خلف النظام وتمترس الأخير خلفها ، خوفاً من الحاضر والمستقبل .
وترددت أكثر وأنا أبعثر الأفكار وأقلبها في الذهن ، فيما لو ذهبت إلى اختيار العربدة “البعثية” ، لكني وجدت فيها هروباً من الحاضر إلى غياهب المجهول وإلصاق كل ما يصيب المنطقة من أزمات وانقسامات بحزب لم يبق من ذكره سوى شعارات الماضي التي يناقض سياسيوها وقائع الحاضر ومعطياته على الأرض .
لم أتردد قط ، في انتقاء عنوان أي مقال كتبته أو كتاب أعددته ، مثلما ترددت في عنوان هذا المقال ، بل إن التقاط العنوان وتركيبه في الذهن كان يدفعني دفعاً لإفراغ ما عندي من أفكار ومعطيات وتوقعات تؤثر الانطلاق من أسرها الذي تمارسه هواجس النفس إلى صفحات الصحف .
لا أخفي على القارئ الكريم ، أنني توقفت كثيراً قبل الشروع في كتابة كلمات هذا المقال وسبك جمله ، توقفت عند ماضي طفولتنا المعذبة ، وبدأت بسرد تفاصيلها المرعبة لأحد الأصدقاء العرب ، فلما سمع أجزاءها المؤلمة ، نهرني قائلاً : في أي عالم تعيش سورية ؟ قلت له ما يوجد في سورية من عربدة على أحلام الطفولة ، يوجد ما يماثلها في كل بلد عربي ، فرد الصديق ساخطاً : لكن الطفولة في هذا البلد – ويقصد مصر – تذهب إلى فراشها مطمئنة البال إلى وردية أحلامها .
قال ذلك حانقاً ، بعدما أخبرته ، كما أخبركم الآن بسيل كوابيس الرعب التي شرعت تطرق أبوابي ثانية في اليقظة أو في المنام ، وكأنها سيناريو لفيلم روائي طويل ، تأبى إلا أن تتكرر مشاهده المرعبة ، مساء وصباح كل يوم ، فمرة أجد نفسي ملاحقاً في شارع ، ومرة أجد نفسي معتقلاً في زنزانة ، وأخرى أجد نفسي مطارداً على الحدود وكأنني مجرم فار من قبضة العدالة ، لأجد نفسي ماكثاً على الحدود في آخر نقطة بين لبنان وسورية ، أرمق الأرض التي لم تتسع لأحلامي بكل ضيق وحسرة تحز النفس ، أحث الخطى على اجتياز الخط الأحمر الذي خطه “سايكس بيكو” ، في ما يشبه بتحطيم الواقع السياسي ، علي أروي عطش النفس برؤية ما تركته من ذكريات الطفولة ، لكني أصحو مرعوباً في اللحظة التي يتحرك فيها أشاوس النظام وزبانيته صوبي ، كما تحركوا قبلاً في قمع طفولتنا المعذبة ، التي تفننوا في إطفاء جذوة الحياة فيها ، وبرعوا في زرع الرعب بين ثناياها مستخدمين كل صنوف الضرب الجسدي وألوان التعذيب النفسي دون أن يوفروا إطلاق النار أمام أعيننا ، وأقذر ما نطقت به ألسنتهم من أقذع الشتائم المهينة للنفس البشرية ، وفوق هذه الأساليب الوحشية – لا أدري ما إذا كانت تمارسها إسرائيل على أحلام الشعب الفلسطيني داخل الخط الأخطر – يستذلوننا أيما استذلال ثمناً لحفنة العلم التي كنا نلتقمها مجبرين مرغمين في ظل احتكارهم لشلعة العلم ونوره ، فلا يهمهم ما أصابنا من رعشة الصباح ووابل المطر المنهمر على رؤوسنا في طريقنا اليومي إلى سجن الطفولة المعذبة .
إنه السجن الذي علمنا شفاهة ، أن نكون مستعدين دائماً للتصدي للإمبريالية والصهيوينة والرجعية ، من دون أن يعلمنا معنى الإمبريالية ، في ظل المتغيرات الدولية ولهاث النظام السوري لعودة السفير الأميركي إلى دمشق ، علمنا وأوجب علينا القول قبل أن تطأ أقدامنا قاعة الدرس ، أن نردد بكل قهر وانكسار للذات ، فيما يشبه تراجيدات الماضي السحيق وسورياليات القرون الوسطى ، أن “الاسد”.. قائدنا إلى الأبد .
ولا زالت هذه السيمفونية الأسدية تؤسس لتلك العربدة في المدارس والجامعات والجيش وحتى في المطار ، لتذكر القادمين قبل المغادرين أن يستشهدوا بها كما يستشهدوا بربهم ورسولهم .
أخيراً ، لا فرق بين مَن أسِرَت أحلامه في سجن الطفولة ، وبين مَن صُودِرَ ضميره في سجن تدمر ، فالسجن واحد مهما تعددت السجون ، وهنيئاً لمن هو خارج أسوار السجن ، خارج أسوار الوطن ، ذلك الوطن الذي لم يتسع لأحلام أبنائه ، بقدر ما ضج بعربدة دخلائه .
الحوار المتمدن