صفحات سورية

الحزب الدينيّ و الطائفيّة السياسية

null

نايف سلّوم

يقول إرنست ماندل تحت عنوان “الإمبريالية، عقبة تصنيع البلدان المتخلفة” الكلام التالي:”إن التخلف الاقتصادي في [البلدان المتخلفة هو] نتيجة للتغلغل والسيطرة الإمبريالية. وفي الوقت نفسه تعمل هذه السيطرة على بقائه واستمراره وتدعيمه. والقضاء على هذه السيطرة هو الشرط الأول لفتح الطريق نحو التقدم، وهذه المهمة لها الأولوية حتى على الخلاص من الطبقات المسيطرة وإن كانت المسألتان مترابطتين في غالب الأحيان ” [النظرية الاقتصادية ج2 ص 170]

في تعليق أول ننقد هذه العبارة ونبين أن الخلط بين المنهجي النظري من جهة وبين العرضي والتكتيكي أمر ضار ويتوجب توضيحه في التنظيرات الأساسية كمسألة عقبات التصنيع والتقدم الاجتماعي في بلد متخلف .

يبدو أن الخروج من هذا الاختلاط لا يكون إلا بتقديم تصور واضح عن الإمبريالية كبنية كونية متفاوتة ، وتوضيح العلاقة الإمبريالية وصور هذه العلاقة في المراكز الرأسمالية وفي الأطراف.

ما تزال الرأسمالية الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية تعزز بنيتها الإمبريالية كاندماج واحتكار ومركزة وميل رأس المال الاحتكاري للمضاربة وميل للغزو والاحتلال في البلدان الرأسمالية المركزية ، وكتخلف اجتماعي وتخلع اقتصادي وميل للسلفية في السياسة والثقافة في أطراف النظام.

يظهر من عبارة ماندل للوهلة الأولى أن الإمبريالية عقبة “خارجية” بحتة ، خاصة وأنه يترك نسبة احتمالية معينة ولو ضئيلة لإمكانية مبادرة البورجوازية “القومية” (“التقدمية”) للتصنيع ، بالتالي يتجاوز التحليل الماندليّ مسألة الأوضاع الإمبريالية في الأقطار الرأسمالية المتخلفة؛ أي يتجاوز الطبيعة الاجتماعية للطبقة المسيطرة في هذه الأقطار. ومن هنا النبرة الاحتمالية لعبارته التي تقول: “وهذه المهمة لها الأولوية حتى على الخلاص من الطبقات المسيطرة” . لهذا السبب يضيف ماندل: “وقد شرعت جميع البلدان المستعمرة أو نصف المستعمرة التي حققت استقلالها السياسي، أو التي حكمها ممثلو البورجوازية الصناعية ، شرعت ببذل مجهود جبار للتصنيع لا يتفق البتة مع موقف الحكومات الخاضعة للإمبريالية ، ومثال الأرجنتين في عهد بيرون ومصر في عهد عبد الناصر مثال نموذجي”[ ص 171- مرجع سابق]

واضح أن كتاب ماندل يرصد الاقتصاد العالمي حتى نهاية ستينات القرن العشرين بالتالي لم يستطع رصد مآلات التصنيع الأرجنتيني والمصري ، والذي لم يستطع أي منهما كسر حلقة التخلف بالرغم من سيطرة البورجوازية “القومية ” أو الصغيرة -وفق التعبير الماركسي الكلاسيكي- لفترات تصل إلى عشرين عاماً.

إن الدرس التاريخي الذي تظهره هذه المآلات في كلا البلدين يبين أن هوامش التصنيع الذي جرى في مصر والأرجنتين استفاد كثيراً من الحرب الباردة ومن انشغال الإمبريالية بقيادة الولايات المتحدة بمواجهة المد الشيوعي في جنوب وشرق آسيا وأميركا اللاتينية وفي روسيا أساساً، خاصة وأن البورجوازية “القومية” لديها حذر منهجي تجاه الطبقات الشعبية ، ولها دورة نمو تنحط بعدها وتتحول إلى بورجوازيات كولونيالية مندمجة بالنظام الإمبريالي وملحقة به بحيث تغدو سلطتها وممارستها السياسية في الحكم صورة للعلاقة الإمبريالية في أطراف النظام الرأسمالي، معيدة إنتاج التخلف وعلاقة السيطرة الإمبريالية بشكل موسع وخالقة بهذه الإعادة انسدادات معززة في وجه التقدم الاجتماعي والتصنيع القومي/ على شاكلة بلد متطور صناعياً.

يساهم هذا الانسداد الذي تولده الطبقات البورجوازية المحلية المسيطرة والمدعوم من المراكز الإمبريالية في تكريس التأخر الصناعي وتعزيز التخلع الاجتماعي وتخلع البنى والمؤسسات الحديثة ، ويساهم في ميل النظام السياسي القائم نحو المزيد من احتكار الثروة القومية والميل نحو الاستبداد السياسي، بالتالي حرمان الطبقات المظلومة والهامشية من تعبيراتها السياسية الحديثة “الطبيعية” .

في بيئة كهذه يسيطر عليها الاحتكار الاقتصادي- السياسي والحصار الأمني والإفقار المتنامي والإذلال القومي من قبل الدول الإمبريالية المركزية تظهر أشكال من “الطائفية السياسية” التي معناها تحول الفرقة الدينية كالسنة والشيعة ، الخ.. وميلها المتزايد للعب أدوار سياسية واضحة ، أي ميل الفرقة الدينية للظهور وكأنها حزب سياسي حديث؛ أي تميل أكثر لتلعب دور الحزب السياسي الحديث. وهكذا يتحول الجامع والحوزة الدينية والكنيسة إلى أماكن لتفريخ الحزب السياسي الديني ولتوليد الطائفية السياسية. ويجري هجر المؤسسات الحديثة كالمعمل والشركات والجامعات والمدارس كحاضنات لتوليد الحزب السياسي المدني الحديث .

إن الانسداد التاريخي أمام التقدم الذي خلقته الإمبريالية كعقبة خارجية وكأوضاع محلية مجسدة بسيطرة البورجوازيات المحلية الملحقة بالنظام الإمبريالي هو المسؤول الأساس عن هذا التحول في شكل الحزب السياسي وفي صعود ظاهرة الحزب الديني والطائفية السياسية وملحقاتهما مما يسمى “ديمقراطية المكونات” في المنطقة العربية على أثر انتهاء الحرب الباردة وتفكك الدولة السوفياتية وانتصار الثورة الشعبية في إيران ذات الشكل الديني.

هذه الظاهرة الجديدة خلقت تعقيدات إضافية في وجه نمو وصعود الحزب السياسي المدني الحديث ، وفرضت عليه تحديات كبيرة على المستوى الاستراتيجي/ البرنامجي والتنظيمي، وطرحت على الاشتراكية مواجهة أوضاع معقدة وجديدة و أوحت بأن الرد الحقيقي على هذه الأوضاع الإمبريالية من سلفية دينية وحزب ديني وطائفية سياسية و “ديمقراطية مكونات “هو برنامج ديمقراطي أصيل تهيمن عليه نزعة اشتراكية ماركسية .

لقد ألقى التاريخ مهمات جديدة على عاتق الطبقة العاملة وحلفائها من الطبقات المظلومة الأخرى بحيث بات هذا التحالف وبرنامجه الديمقراطي الذي تهيمن عليه نزعة اشتراكية ماركسية ؛ بات هذا التحالف هو “الطبقة” القومية الحقة والوطنية الحقة ، والذي يقع عليه عبء مواجهة السيطرة الإمبريالية ومهمة تحطيم علاقات التخلف وتجاوزها كصور محلية للعلاقة الإمبريالية العالمية. وهكذا انفصلت الليبرالية كمشروع سياسي للبورجوازية الطرفية عن الديمقراطية والعمل الديمقراطي، ورفعت الديمقراطية والعمل الديمقراطي كمهمة عضوية إلى مستوى العمل الاشتراكي الماركسي؛ أي باتت مهمة التحالف الشعبي -الآنف الذكر- الأساسية.

جاء في البيان النظري والسياسي للتجمع الماركسي – الديمقراطي في سوريا- شباط 2008 : “تتجلى عصبوية النظام السياسي في سوريا عبر احتكار الثروة الوطنية والسلطة السياسية ، وعبر تكييف طبقات المجتمع الأساسية (عمال ، فلاحين) وما نتج عنه من انسداد آفاق التحديث الاجتماعية والاقتصادية ومن سلبية شديدة لدى الجماهير الشعبية ، وفراغات سياسية خطرة ، تدفع هذه الفراغات قطاعات كبيرة من الجماهير وبشكل عفوي نحو الدين والتدين كانتماءات سياسية بديلة . وفي ظل ظروف الغزو الإمبريالي الجديد ، وفي ظل ظروف الاستعمار الصهيوني وانتهاكاته اليومية لحق الشعب العربي في فلسطين ، وفي ظل الإفقار المتنامي للغالبية الشعبية، يتحول الانتماء الديني إلى انتماء سياسي يملأ الفراغات السياسية القائمة، فتتحول قوى المجتمع من قوى سياسية اجتماعية- اقتصادية إلى قوى سياسية- دينية أو قوى طائفية، ويتحول الجامع والحوزة والكنيسة من أماكن للعبادة إلى مقرات للعمل السياسي بدلاً من الحزب السياسي العلماني الحديث في المؤسسات المدنية الحديثة كالمدرسة والجامعة والمؤسسات الاقتصادية.

والطائفية هنا لا تعني تعمق الشعور الذاتي للفرقة الدينية القائمة في الأنماط ما قبل الرأسمالية كالسنية والشيعية على سبيل المثال فحسب، بل تعني انقسام أعضاء الفرقة الدينية الواحدة كالسنة في الجزائر (بين مالكية وإباضية) إلى طوائف سياسية متعصبة ومتقاتلة في ظل غياب الحزب السياسي المدني الحديث وفي ظل احتكار الثروة وطغيان الاستبداد السياسي من قبل البورجوازيات المسيطرة وفي ظل حظر النشاطات السياسية المعارضة والمستقلة، وغياب الحياة السياسية العامة النشطة والفعالة .

إن مهمة بناء الحزب السياسي الحديث ومنه الحزب الاشتراكي الماركسي مهمة معقدة في ظروف كهذه ، لكنها ليست مستحيلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى