خطيئة أفظع من جريمة حرب
عبد الوهاب بدرخان
سنحتاج إلى وقت كي نستفيق من الصفعة التي وجهتها إلينا السلطة الفلسطينية بتراجعها عن تفعيل “تقرير جولدستون”. وستحتاج هذه السلطة إلى الكثير من الإنجازات الخارقة لتثبت أنها لا تزال تعني شيئاً – أي شيء على الإطلاق – بالنسبة إلى شعبها وقضيته، لكنها عاجزة عن أي إنجاز، كما هو معلوم. وفيما لا يُلام المجرم إذ يحاول الإفلات والتملص بتبرير جرائمه، فإن من يحمي المجرم والجريمة – وهو هنا باراك أوباما – لا يمكن أن يقنع أحداً بعد الآن بأنه رئيس – إنسان مختلف عن الآلات المعدنية التي سبقته إلى البيت الأبيض. فإدارة أوباما سيُسجّل لها أنها أرغمت الضحية على أن تتواطأ على نفسها لإبعاد كأس المحاسبة – أو حتى مجرد الإدانة والملامة – عن الجلاد المجرم. لذا تبدو هذه الإدارة الأميركية في سعيها الحثيث إلى التمايز عن الإدارة السابقة كأنها اعتنقت أسوأ ما ذهبت إليه “البوشية” وسائر البوشيات التي سبقتها.
“تقرير جولدستون” ليس نهاية الأرب ولا نهاية الأحزان. أنه مجرد صحوة مفاجئة، وقد تكون عابرة، لضمير إنساني محتضر. لذا كان الأحرى أن تتلقف الضحية صحوته وتتماهى معها لعلها تحصل على رمق من إنصاف، أما أن تبادر إلى عون القتلة على إماتة هذا الضمير فلا يعني سوى أن الضحية اختارت الانتحار. التقرير كان فرصة أخيرة لإعادة ربط القضية الفلسطينية بمنظومة القوانين الدولية ومبادئ حقوق الإنسان، لكن الفرصة ضاعت. التأجيل لن يعيدها. القتلة لن يسمحوا بصحوة ثانية – سيبذلون كل جهد للتأكد بأنهم قادرون دائماً على ابتزاز الضحية لاجبارها على تعطيل المجتمع الدولي الذي يناصرها. نحن أمام جريمة لا تنفك تكشف عن معالم ووقائع فيها كنا نظن أنها معروفة تماماً. لا، هناك جديد فيها، فبعد سرقة الأرض واستيطانها، وبعد الاحتلال والمجازر والاجتياحات، بقي الشعب الفلسطيني مستهدفاً لاستلاب عقله وآدميته. فبعضه يقتل وبعض آخر يؤخذ كرهينة تخيّر بين الموت أو انكار حصول أي جريمة.
القاضي الجنوب أفريقي، اليهودي النزيه، ريتشارد جولدستون تعامل بضمير حيّ مع مجريات حرب غزة. ما كان له أن يسفّه الرأي العام العالمي الذي رأى جرائم الحرب الإسرائيلية على شاشات التلفزة، وما كان له أن يُتفّه المآسي الجلية العارية التي تعرض لها المدنيون الفلسطينيون، وما كان له أن يتساذج أمام وقائع اعترف بها جنود إسرائيليون، ولو أنهم لم يدلوا بشهادات مباشرة إليه. ثم انه لم يتغافل عن معاناة مدنيين إسرائيليين بسبب صواريخ فلسطينية. أما الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء الإسرائيلي، اللذان هددا الرئيس الفلسطيني بأشد العقوبات وبتجويع الضفة إسوة بقطاع غزة، فقد برهنا حقاً أن ما يسمى قانوناً دولياً لا يستحق عندهما إلا الاحتقار.
القاضي جولدستون لم يتردد في وصم إسرائيل بما تكرهه، بما لا ترضاه لسمعتها، بما يتناقض مع استغلالها الدنيء لـ “الهولوكوست” وهمها بجرائم حرب وجرائم “محتملة” ضد الإنسانية. لم يتردد جولدستون وهو يعلن مسبقاً بأنه سيتهم بـ “العداء للسامية”، لكنه يعلم أن هذا مجرد هراء يستخدمه الإسرائيليون لإخراس من ينتقدهم. أما أوباما ونتانياهو فتوافقا علي استعادة التعاهدات الأميركية – الإسرائيلية التاريخية – غير المكتوبة لكن المطبّقة بدقة وحرص – بأن العدل لا مكان له في الشرق الأوسط، وبأن إسرائيل مستثناه من القانون الدولي، وبأن القضية الفلسطينية تدار بالعقل الإسرائيلي وحده أي بمنأى عن الضمير ومبادئ الحق والأخلاق والإنسانية. وأما الرئيس الفلسطيني الذي رضخ للضغوط ووافق على سحب دعم سلطته للتصويت على “تقرير جولدستون” فارتكب خطيئة أكثر فظاعة من جرائم الحرب، ولم يخذل الفلسطينيين فحسب، بل كل عربي وغير عربي مؤمن بقضيتهم.
وهكذا بات الثلاثة، الأميركي والفلسطيني والإسرائيلي، الذين التقوا في نيويورك أشبه بـ “مشروع شراكة” مشتبه به. إذ التقوا كأنما للاقرار بأن أحدهم، نتانياهو، محق بعناده في رفض وقف الاستيطان. وأن أحدهم الآخر، أوباما، أخطأ في “الانفتاح” على العرب والمسلمين، وأن أحدهم الثالث، عباس، لا خيار له سوى استجابة ما يراه الآخران، ليصبح سحب المطالبة بوقف الاستيطان وسحب الدعم لـ “تقرير جولدستون” في سياق “بناء الثقة، لمفاوضات عبثية معروفة الخواء مسبقاً.
مع ذلك، ورغم كل ذلك، قد ينبري في وقت أي أميركي أو حتى إسرائيلي إلى وعظنا بـ “ثقافة القانون” وإلى معايرة العرب على قصورهم في تلك الثقافة وفي إحترام حقوق الإنسان. ويعرف العرب أنهم ليسوا رواداً في هذا المجال، ولا فضل لهم في ذلك ولا فضيلة. لكنهم لا يعرفون أن اصرارهم على مجافاة الحقوق والقوانين بلغ الآن لحظة الارتداد عليهم.
عبدالوهاب بدرخان
كاتب ومحلل سياسي – لندن
الاتحاد