جريمة في شبكة خطايا سبقتها
د. علي محمد فخرو
للشاعر والكاتب الفرنسي المبدع جون راسين مقولة بأن ‘الجرائم الكبرى لا تأتي لوحدها، إذ أنها مشبوكة بخطايا تقدمت عليها’. من هنا فان عار جريمة تأجيل البحث في تقرير غولدستون باقتراح من قادة السلطة الفلسطينية أو بموافقة خفية من أكابرهم، أو بغض الطرف عن فضح المجرمين قبل إرتكاب الجريمة..
انما هو نتيجة إجرامية طبيعية لسلسلة من الخطايا التي امتدت عبر العقود من السنين، بدءاً باسقاط شعار تحرير كل الأرض الفلسطينية والاعتراف بحق الحكم الصهيوني بالوجود والشرعية فوق ثمانين في المائة من أرض فلسطين، ومروراً بقضاء عشر سنوات من المباحثات العقيمة العبثية القائمة على تسليم كل المفاتيح في اليد الأمريكية الملطخة بالدماء وقاذورات الدنيا مع إبعاد متعمد لهيئة الأمم، وإنتهاء بتنصيب السلطة الفلسطينية شرطياً يحمي المستوطنات والاحتلال ويدمر نخوة الرجولة ورفض العبودية في قلوب وعقول شباب فلسطين.
أما وقد حدث ما حدث وأدخل فصل كوميدي في تمثيلية مأساة التأجيل المبكية، فصل تكوين لجنة التحقيق في ملابسات جريمة جنيف الذي ألفه وأخرجه وسيمثله كاتب فاشل جاهل، فلنطرح على المشاهدين الفلسطينيين والعرب الملاحظات والأسئلة التالية:
أولاً هناك قول لأحدهم ممن تخدرت أرواحهم ببخور الشياطين بأنه ‘لو خيرت بين خيانة وطني وخيانة صديق لي،’لاخترت بشجاعة خيانة وطني’. فهل الذي حدث في جنيف أن بعضاً من قادة سلطات الحكم الفلسطينية مارسوا نفس الحكمة الشيطانية وفضلوا الوفاء لأصدقائهم الأمريكيين والأوروبيين وبعض العرب على الوفاء لوطنهم المسلوب وشعبهم المنحور من الوريد إلى الوريد؟ ما الذي يبقى من شرعية لأية سلطة في الدنيا إن هي خضعت لابتزاز الأصدقاء الأقوياء غير المخلصين وخانت التزامها بالوطن حتى ولو كان هذا الوطن في محنته’الحالية ضعيفاً وعاجزاً عن الانتقام لنفسه؟ أن تخضع السلطة الفلسطينية، كما قال بعض أفرادها، للإبتزاز الأمريكي ـ الأوروبي بقطع المساعدات وللابتزاز العربي بضرورة مسايرة الإدارة الأمريكية، فهذا ممارسة تفضيل لخيانة الوطن على خيانة الأصدقاء. لكن دعنا نذكرهم بقول شهير لرئيس فرنسا السابق شارل ديغول من أنه ‘في السياسة، هناك ضرورة للإختيار بين خيانة الوطن أو خيانة الناخبين، وأنا أختار خيانة الناخبين’. فإذا كانت عيون أقطاب السلطة الفلسطينية قد حسبت توازنات الانتخابات القادمة فقد كان عليها أن لا تخون الاثنين: الوطن والناخبين. في هذه المرة، الوطن والناخبون أصابهم رذاذ الخيانة، وسنرى من سيثأر لنفسه.
ثانياً ـ في كل الدنيا وعرضها، عندما ترتكب سلطة الحكم حماقة فانها تعاقب نفسها قبل أن يعاقبها الغير. وما دامت السلطة الفلسطينية قد قررت، خروجاً على الأعراف المحترمة، أن لا تعاقب نفسها، فالسؤال يجب أن يطرح على الشعب الفلسطيني بقوة وبلا مجاملة : ماذا ستفعل أنت، أيها الشعب، بمن ارتكب جريمة كانت حلقة في سلسلة من الأخطاء القاتلة والخطايا المهينة؟ ففي منتصف القرن السابع عشر قام الملك البريطاني شارل الأول بالاعتداء على سلطات البرلمان الانكليزي، وليس على الوطن، فعوقب بفصل رأسه عن رقبته. واليوم تم الاعتداء على سلطات مجلسك الوطني وعلى منظمة تحريرك وعلى تضحياتك في غزة’وعلى قضية وطنك التي غسلت رجلها بدمائك ودموعك عبر مائة عام، فماذا أنت فاعل، سياسياً على الأقل، بالذين تتطلع عيونهم إلى غيرك بدلاً من أن تنظر بعين المحبة والاحترام لك ولتاريخك؟.
ثالثاً ـ في تحليله لتاريخ الثورات، وعلى الأخص لثورة كرومويل الانكليزية الشهيرة، أكد أستاذ التاريخ في جامعة أكسفورد كريستوفر هِلْ بأن الثورات لا تحتاج إلى محرضين ومخططين، إنها تحدث وتنفجر عندما يكون الناس قد وصلوا إلى مرحلة الإقتناع بأنهم قد عانوا ما فيه الكفاية وأن تغييراً كبيراً يجب أن يحدث. والسؤال، ألم يصل الشعب الفلسطيني إلى هذه القناعة بعد؟ ومتى يصل؟ وماذا يحتاج لكي يصل؟
المنظر الفلسطيني، وقد فرط قادته في فرصة العمر لتمريغ سمعة العدو الصهيوني البربري في الساحة الدولية، تختلط فيه قضايا خيانة الأخلاق والقيم مع خيانة الأوطان ومع فهم بليد لعبر التاريخ. لذا، علينا أن نقفز فوق التحليلات السياسية البحتة إلى تحليل الممارسة الحياتية، إذ لم تكن مأساة التأجيل في جنيف نتيجة خيانة سياسية وإنما كانت نتيجة ممارسات حياتية تغوص أكثر فأكثر في وحول العجز والعار. من هذا المنطلق يجب التعامل مع الفصل الجديد في المأساة الفلسطينية.
القدس العربي