صفحات سورية

التفريط بأصول الدولة كالتفريط بالجولان

null


لؤي حسين

حاولت منذ بعض الوقت تجربة التفكير على طريقة حكومتنا قصيرة النظر، علّني أتوقع ما الذي ستفعله بموضوع رفع الدعم عن المحروقات الذي أعلنت نيتها القيام به منذ بضعة شهور ومن ثم تريثَتْ إثر أصوات الاحتجاج التي استنكرت هذه الفعلة. وقد تخوفْتُ في مقال منشور في جريدة السفير (19/9/2007) من أن تقوم الحكومة ببيع عقارات لمؤسسات من القطاع العام أو عقارات مركزية في قلب المدن لتتمكن من رفد ميزانيتها، حتى يمكنها الاستمرار بخطتها الخمسية العاشرة. هذه الخطة التي اشترط مديرها السيد عبد الله الدردري، نائب رئيس الوزراء، استعادة الحكومة لأموال الدعم كيما يتمكن من الاستمرار بها.

في الأمس قررت الحكومة عرض “مجموعة من المباني والعقارات الواقعة في مركز مدينة دمشق والتي تعود ملكيتها لوزارات الزراعة والصناعة والأوقاف… على ملتقى الاستثمار السياحي الرابع بغية إعادة توظيفها من مبان إدارية إلى منشآت فندقية” (سانا: 18/2/2008).

هذا القرار أو التوجه يعلن بداية المساس بأصول الدولة؛ والخشية من ذلك أن يكون بداية طريق التفريط بهذه الأصول بعيدا عن مصلحة أصحابها الأصليين: الشعب السوري وليس نوابه أو سلطاته.

ربما ليس الأمر غريبا، وقد تكون الغرابة في اهتمامنا بحدوثه، خاصة في ظل أداء الحكومة الحالية التي لا يحتاج أحد لسرد الإثباتات والبيّنات على استهتارها بمصالح الشعب وسوء إدارتها لشؤونه. لكن عدم الاستغراب وعدم الاهتمام لا يتأتى فقط من حال الحكومة وطبيعة سياساتها، بل ربما يعود أساسا إلى ثقافتنا السياسية التي ماهت بين المال العام ومال الدولة، واستقرت على أن السلطة هي هي الدولة، ما يمكّنها ويعطيها كامل الحق بالتصرف بهذه الملكيات كيفما تشاء من دون الرجوع إلى “ممثلي الشعب”، بل وحتى من دون أن تكون بحاجة لإقامة الاعتبار لإرادة الشعب. وهذا الفهم ليس فهما طارئا أو مستجدا جلبته الحكومة أو السلطة الحالية، بل هو عتيق متجذر في ثقافتنا وفي أذهاننا، لم يعمل أحد على تصويبه، لا من النخب السياسية ولا من النخب الثقافية. وجل ما تناولته هذه النخب على هذا الصعيد انحصر في الإشارة إلى سوء تصرف الجهات السلطوية بهذا المال، من دون الاهتمام والتركيز على التشكيك بحقها بالتصرف به.

أصول الدولة ليست ملكا للحكومة، بما فيها وزارة الأوقاف، وإنما هي بحيازتها مؤتمنة عليها. وقد تظن الحكومة، ولكونها في موقع السلطة، بأنها تمتلك وكالة دهرية وغير قابلة للعزل من الشعب السوري تخولها حق التصرف المطلق بهذه الأصول، ليس نيابة عنه بل بالأصالة عن نفسها كمالكة لكل الثروة العامة. إن هذه الوكالة مدّعاة، أو في أحسن النوايا وكالة مأخوذة من أصحابها وهم ليسوا بكامل أهليتهم (…)، هذه الأهلية التي تقوم على تحررهم من كل ضغط أو إكراه. إن هذه الوكالة موروثة عن الانتداب الفرنسي، وربما قبل ذلك، حيث خوّل هذا الانتداب نفسه وكيلا عن الشعب السوري ووصيا على أرزاقه وثرواته؛ ولا يغيّر من الأمر إن كان قد مارس وكالته المغتصَبَة بواسطة الحكومات السورية في حينه.

حق الشعب السوري بأملاكه العامة وثرواته العامة لا يختلف عن حقه بالاحتفاظ بكامل الأرض السورية: كالجولان؛ حقه فيها جميعها لا يقتصر على وجود اسمه على صك ملكياتها، بل أيضا على التصرف فيها وفق تصوراته وحسب مصالحه التي يراها. فكما أن الإجابة على العرض الإسرائيلي باستئجار الجولان، أو بعض أراضيه، هي من حقه الحصري وحده، كذلك فإن له كامل الحق بالبت بمصير أملاكه العامة. فهو الوحيد صاحب الحق في إقرار تحويل مباني مؤسساته العامة (وبالأحرى العقارات التي تقوم عليها) إلى فنادق، أو ربما يرى حاجته أو حاجة فقرائه في تحويلها إلى مدارس أو مستشفيات أو مراكز للثقافة، أو حتى مراكز تسلية وحدائق لهم؛ فليس صحيحا أن قلب المدينة للأغنياء وأطرافها للفقراء.

الأملاك العامة لا يعود الانتفاع بها ومنها للأغنياء دون الفقراء، بل للعموم جميعا، عموم السوريين أو عموم أهل المنطقة أو المدينة المحددة. ومن أهم مقاييس دولة العدالة هو تعميم حق الانتفاع هذا، دون تمايز على أساس المقدرة المالية.

مُبهَم (ومُبهِم) قرار الحكومة بالتصرف بتلك الأبنية. والخشية ليست من التصرف بهذه الأبنية بحد ذاتها فحسب، بل الخشية أن تكون هذه المباني مجرد ذريعة للتصرف بعقارات إستراتيجية في قلب العاصمة. فقد تكون حاشية القرار الوزاري تشير إلى بضعة أبنية يتكون واحدها من بضعة غرف متداعية لا أهمية لها، وفي بطانة القرار أن هذه الأبنية تقوم على مساحات من الأراضي الخالية: فلا ينعدم وجود مثل هذا المبنى على أرض المعرض القديم وتكون كامل أرض المعرض تابعة عقاريا له؛ أو أن يكون أحد مباني مصنع التبغ (الريجي) في منطقة الجمارك مُلحَقة به كامل المساحة العقارية؛ بل إن مبنى الإدارة العامة للجمارك، الذي تم إخلاؤه منذ سنة بحجة مشروع تحديث طريق الجمارك كفر سوسة، هو نموذج مناسب لهذا القرار؛ وأرض كيوان يمكن أيضا أن يكون عليها مبان تفي بهذا الغرض. وقد يزيد الطين بلّة إذا كانت النية بتأجير هذه العقارات بما يماثل البيع، إن من ناحية مدة الأجار أو من ناحية حق التصرف به.

إذا صح هذا التصور (التخوف) فإن ذلك لهو فساد صريح. فالفساد لا ينحصر في اختلاس مبلغ من قبل محاسب أو لجنة شراء في مؤسسة عامة، أو تزوير وثيقة أو استخدام آلية عامة لغايات خاصة… وغير ذلك من كلاسيكيات الفساد، بل هو كل تصرف بالأملاك العامة والشأن العام خارجا عن السياقات الطبيعية (كيلا أقول القانونية بسبب قصور قوانيننا عن ضبط الفساد).


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى