صفحات العالمميشيل كيلو

سباق على السقوط؟

null
ميشيل كيلو
في الحالات التاريخية، التي تصارعت فيها قوى متوازنة أو متعادلة، انتصر دوما من كان أكثر قدرة على الاستمرار، وسقط من كان أقل قدرة على توفير مستلزمات المنافسة والصمود. في حالات السقوط، وصل إلى الأرض قبل غيره من كان أثقل وزنا، ومن أقام حساباته، كالسوفييت على سبيل المثال، على اعتقاد أوهمه أنه يعيش حقبة صعود، بينما يمر منافسه في طور تدهور وانحطاط، وأن انتصاره حتمي، لكونه يعبر عن قانون موضوعي لا يقدر أحد أن يعطل تحققه.
على أن حالة التوازن والتعادل لا تعني بالضرورة وجود مساواة بين أطرافها. هناك حالات ساد فيها توازن بين أطراف متفاوتة في القوة والانتشار الاستراتيجي والتقدم الاقتصادي والاجتماعي … الخ. يعني التوازن أن الأطراف الداخلة في علاقة ما تحترم مصالح بعضها وتحافظ على الأمر القائم بينها، ليس لأن موازين القوة تحتم ذلك، بل لأن للأطراف مصلحة في استمراره، أو لأن انهياره يسبب قدرا كبيرا من الضرر، يفوق الضرر الناجم عن بقاء التوازن، أو لأنها تكون منهمكة في مشكلات توجد خارج منطقة التوازن. أما التساوي فهو يعني تعادل القوة في سائر مجالاتها، الذي يملي على الأطراف المتصارعة إبقاء الوضع القائم دون تغيير، ما دامت محاولة تغييره ستنتهي إما بعودته إلى ما كان عليه، أو بأضرار فادحة تصيب أطرافه جميعها، فلا يكون من العقلاني أو المفيد القيام أصلا بمحاولة كهذه.
في حالات التوازن، الناجم عن خوف أطرافه من النتائج التي يمكن أن تترتب على انهياره، واقتناعها أن في استمراره ضررا أقل من الضرر المتأتي عن اختلاله أو التخلي عنه، تعمد الأطراف المعنية إلى تبني نمط من الصراع الطويل الأمد والسلمي غالبا، جوهره دفع الخصم إلى السقوط قبل الصديق، لأن من يسقط أولا يخسر، ومن لا يسقط ينجو، مهما كان ضعيفا، ويبدو منتصرا. لو أخذنا الصراع الأمريكي / السوفييتي لوجدنا أنه من هذا النمط. فقد راهنت امريكا، بعد تيقنها من استحالة كسب حرب نووية ضد السوفييت، على تسريع سقوطهم وجعلهم يصلون إلى القاع قبلها. وبما أن هذا كان مستحيلا دون إبطاء السقوط الذاتي، فقد بلورت أساليب متنوعة لترميم النظام الرأسمالي وتقويته، ولزيادة أخطاء النظام المقابل، وفي مقدمها خطأ الاعتقاد بأن هذا النظام يجسد موضوعية قوانين التاريخ المستقلة عن إرادة البشر، وأن من غير الجائز تغييره، كليا أو جزئيا، لأن تغييره سيتعارض مع سير التاريخ، وبالتالي مع مصالح البشرية، وسيكون السبب في إضعافه أو سقوطه. تمسك السوفييت بنظامهم ورفضوا تطويره أو تجديده، فكان هذا ‘فخا نظريا’ سقطوا فيه، وسببا مباشرا لسقوطه قبل النظام الامريكي، الذي اعترف أربابه بثغراته ونواقصه، فسارعوا إلى ترميمه، وجعلوا أعينهم عليه، وتركوا مسافة نقدية بينهم وبينه، واعتبروه نظاما ناقصا يحتاج إلى تطوير وإصلاح دائمين، بينما كانوا يبالغون في إيهام السوفييت بأنه نظام ساقط لا محالة، ويكررون كلاما يشنف آذان الخصم ويفرحه، لاتفاقه مع أحكامه المسبقة، ملخصه أن نظام امريكا الرأسمالي اجتاز مرحلة الصعود وشرع يتدحرج على منحدر التاريخ باتجاه قاعه، وأن وصوله إليه أصبح مسألة وقت وحسب. في هذه الأثناء، كان الامريكيون ينصبون أيضا ‘فخا ماديا ‘ للسوفييت، بهدف تسريع سقوطهم الملموس، هو سباق التسلح، الذي استنزف نموهم الاقتصادي وتقدمهم الاجتماعي، وكبح تحولهم من دولة تكتسب أكثر فأكثر طابعا مدنيا إلى دولة ضبط وربط وسلاح، تسخر مواردها لإدامة توازن عسكري ظنوه حبل نجاتهم، فلم يلاحظوا الامريكيين وهم يقوضونه ويحققون تفوقا كاسحا في المجالات غير العسكرية : أي الاقتصادية، والتكنولوجية، وفي الانتشار العالمي، ونمط الثقافة الشعبية العالمية الطابع والتأثير، والمستوى المعيشي المتواصل الارتفاع، والحياة الدستورية والحريات .. الخ. هذا التفوق، الذي غدا واضحا خلال حكم ريغان، تجلت انعكاساته أكثر فأكثر على واقع الصراع الملموس: فبينما كان يوجد تعادل سوفييتي امريكي في الابتكارات النظرية، كان السوفييت يتخلفون عشرة أعوام عن الامريكيين في المجال التطبيقي، وكان هؤلاء ينتقلون إلى زمن تكنولوجي وعلمي يختلف عن زمن السوفييت، الذين كانت ابتكاراتهم تنام في أدراج المكاتب المغلقة، والبيروقراطية العسكرية والمدنية المحافظة والرجعية، والنظام الجامد، خانق الإبداع الإنساني.
سرع الامريكيون سقوط السوفييت بوسائل غير عنيفة، رغم توازن الأسلحة الدقيق، الذي لم يمسوه أو يسعوا إلى تقويضه. حين سقط الخصم، أيقن الامريكيون أن نظامهم نجا، مع أنهم لم يكونوا واثقين تماما من ذلك، خلال صراعهم ضده.
تتفوق الدول العربية تفوقا كاسحا على العدو الإسرائيلي يشمل جميع عناصر وعوامل القوة، باستثناء السلاح. لكن هذه الدول لا تعمل لتنشيط وتفعيل عوامل تفوقها، بل تلتزم بغلبة العدو السلاحية، وترى فيها عنصر ردع يقوض عناصر الصراع غير العسكرية : من اقتصاد، وانتشار أرضي وجغرافي، وسكان، وتطور اجتماعي، وثقافة، وتاريخ، وأهلية حضارية … الخ. لو فعّلت دول العرب هذه العوامل، لحققت غلبة عسكرية كاسحة على العدو الإسرائيلي، ودفعت مجتمعاتها إلى مرحلة زاهرة ونوعية من تطورها. لكنها لم تفهم الدرس الامريكي في الصراع مع السوفييت، ولم تطور درسها الخاص في الصراع مع إسرائيل، وتذكرت أن تأخذ عن السوفييت ‘زعبرة’ التاريخ وقوانينه ، التي تعمل لصالحها، وأكذوبة أنها هي التي تعبر عنها، فلا يجوز مس أو نقد أوضاعها – المزرية بكل المعايير – وإلا تم المس بموضوعية التاريخ ووقع إضرار بمصالح شعوبها. هكذا، سقطت دولنا في فخ شبيه بالفخ الذي نصب للسوفييت، وزين لهم حتمية الحفاظ على أوضاعهم القائمة باعتبارها درعهم الحصين، بينما كان الحفاظ عليها هو سبب سقوطهم الرئيسي والمباشر، إن لم يكن الوحيد. فلا عجب أن يكون موقف العرب هذا قد أسقط وأرجأ سقوط عدوهم، الضعيف والقليل السكان والمساحة والإمكانات والثقافة والتاريخ والانتشار الجغرافي … الخ. ولا عجب أنه جمد وألغى عناصر تفوقنا، وأخرجنا من التاريخ، العزيز جدا على قلوب حكامنا الجوفاء.
لا اسأل من سيسقط قبل من: نحن أم العدو؟. سأقول فقط إننا في حالة سقوط مخيف، وإن سقوطنا النهائي سيكون حتميا، إذا ما استمرت سياساتنا الراهنة وأوضاعنا القائمة، التي ليست مدنية حقا ولا عسكرية فعلا، ولن تأخذنا إلى أي مكان غير مزبلة التاريخ، التي صرنا قريبين جدا منها، بل وتزكم روائحها النتنة أنوفنا.
ليس إسقاط الخصم أولا استراتيجية جديدة أو حديثة. إنه سياسة قديمة قدم العالم وصراعاته. لكن حكامنا لم يسمعوا بها، رغم أن جدنا الخالد صلاح الدين الأيوبي كان واحدا من أعظم الذين طوروها وطبقوها بنجاح، على مر التاريخ ، فاسقط بواسطتها أحد أخطر المشاريع التي استهدفت العرب والمسلمين: المشروع الفرنجي / الصليبي، بضربة واحدة هي معركة حطين، وحقق هذا الإنجاز النادر في وقت قصير لم يتجاوز تسعة عشر عاما هي السنوات التي فصلت ظهوره عن لقاء ربه، بينما يعدنا أبطال التحرير من استراتيجيي زماننا العظام بمعركة قد تدوم أربعة قرون ضد كيان قزم وتافه اسمه إسرائيل، هزمته فعلا لا قولا ووضعته على حافة العجز والسقوط آلاف قليلة من مقاتلي حزب الله، بعد أعوام، قليلة بدورها، من تأسيسه!.
لا يوجد، عبر التاريخ، ما يؤكد أن الذين نجوا بأنفسهم كانوا أحسن ممن سقطوا. ويوجد ما يثبت أن الناجين هم الذين عرفوا كيف يدفعون خصمهم، قبل أن يدفعهم هو، نحو الهاوية. هل نتعلم هذه الدرس فنعيد لنظر في أسس صراعنا مع العدو، وتكون نجاتنا، أم نواصل السماح لأعدائنا بدفعنا نحو السقوط، فيكون هلاكنا جريمة صنعناها لأنفسنا بأيدينا !؟

‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى