سوريا والجفاف السياسي
جان كورد
كتب العلامة الاجتماعي والمؤرخ الكبير (ابن خلدون) في مقدمته الشهيرة بأن العرب عرفوا بطبيعة التوحش الذي هم عليه أهل إنتهاب وعبث، ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا خطر(أي يستهدفون الضعفاء- ع. دشتي) ثم يفرون بمغانمهم إلى مهاجعهم في القفر فإذا غلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب…
طبعا هذا الكلام لا ينطبق على العرب كأمة أو أمم وانما على رؤسائهم وزعمائهم الذين يقودون هذه الشعوب العديدة من عرب بائدة (أحفاد عاد وثمود) أقحاح وعرب مستعربة (أحفاد قحطان وعدنان)، انطلقت عبر التاريخ على شكل موجات كبيرة وصغيرة من قلب وجنوب الحجاز ووصلت الى أطراف الرقة والموصل شمالا وغربا حتى شمال أفريقيا… فابن خلدون كان أذكى من أن يتهم الشعوب بالتوحش والانتهاب والعبث وبأنها تنشر الخراب أينما حلت…
ومهما يكن فإن في هذا القول شيء من الحقيقة، فلو نظرنا الى ما أحدثه نظام البعث السوري (العربي حتى النخاع) في مناطق الجزيرة من انتهاب وعبث وجور وفساد واستهداف للفقراء والضعفاء وسرقة أموال الشعب عن طريق الرشوة والاستغلال الذي لامقابل له، لاتضح لنا – دون شك- أن الخراب جاء مع البعث وراياته وشعاراته وفروعه الحزبية وأجهزة استخبارات نظامه الى هذه المناطق التي تعتبر أكبر خزان بترولي ومزرعة واسعة للغاية للقطن والحبوب ومصدرا للثروة الحيوانية…
كتبت بعض المواقع الالكترونية مؤخرا خبرا مفاده أن صحيفة الفايننشال تايمز الشهيرة بكتاباتها الموضوعية عن المال والاقتصاد في شتى أنحاء العالم قد نشرت تحذيرا بصدد “الجفاف” في سوريا… وركزت على مناطق الجزيرة التي يفر منها شعبها نتيجة “الجفاف” الذي قالت بأن سببه الأساس هو “ندرة الأمطار” في السنوات الثلاث الأخيرة…كما ذكرت بأن أكثر من 300000 مواطن سوري (ومنهم بالتأكيد عدد كبير من الكورد المجردين من الجنسية بقانون حكومي قذر) قد تركوا مناطقهم المعرضة للجفاف وهاجروا الى أطراف المدن الكبيرة، وبخاصة حلب ودمشق…وتقرع الأمم المتحدة أجراس الانذار وتطالب بضرورة أخذ الأمر بجدية ودعم الحكومة السورية بعشرات بل مئات الملايين من الدولارات للتغلب على هذه المشكلة الكبرى…
ولكن هذه الصحيفة التي نشكرها نحن السوريون على ابدائها الاهتمام باحدى مشاكل بلادنا، لم تتطرق بشكل واف ودقيق الى أصل المشكلة التي هي في الحقيقة (جفاف سياسي) يمارسه النظام القابع في بعض الأحياء الراقية في دمشق ولايملك أي تأييد حقيقي في الشارع السوري، حتى أقطاب حزبه الذي يحكم باسمه رجال النظام يتأففون من الربط بين سياسات الحكم وبينه، ويكادون يتبرأون من النظام، ومنهم من يعلن أن البعث معرض للاضطهاد كأي معارضة أخرى، ولكنه أقدر على تحمل الظلم والعسف من سواه، وعروبته الطافحة ووطنيته القاتلة تدعه يغض الطرف عن جريمة تجويع الشعب السوري…
الجفاف السياسي الذي خلفته سياسات “نظام الأمر الواقع” وأسميه “نظام الوضع القاتل” في سوريا، سواء في الجزيرة أو في غيرها من المناطق هو الذي أتى بالخراب وأنتج هذه الهجرة المليونية من الشمال صوب الجنوب، بعكس الهجرات العربية القديمة التي كانت تتحرك بسبب المحل والجفاف غير السياسي من الجنوب صوب الشمال، حيث كانت الجزيرة وقتذاك جنات تأخذ بالألباب وتسيل لعاب الغزاة والطامعين في ثرواتها ومراعيها الخضر…
هذا النظام البائس الذي سقط على أكتاف الشعب السوري كقدر لامفر منه، قد أغلق كل منافذ النقد السياسي، وحدد مسالك العمل الثقافي والفني والرياضي، وطبق في الجزيرة سياسة عنصرية تجاه الكورد الذين يشكلون غالبية شعب الجزيرة (حسب قناعتي على الأقل)، كما أغلق عن طريق السيد المناع (أقصد نظام البروكسي) معظم المواقع الالكترونية التي كان يمكن للسوريين من خلالها ابداء آرائهم بحرية في موضوعات سورية وطنية تهمهم جميعا… حتى صار بعضهم يحلم باغتيال هذا السيد البروكسي كما حدث لمن سرقت منه بطته الوحيدة التي كان يملكها، فلم يعد لديه أي مجال للحصول على البيض. والسيد محمود الأبرش رئيس ما سموه ظلما وعدوانا ب”مجلس الشعب” لايرى أي حاجة لاصدار قانون للأحزاب ويرى أن الديموقراطية السورية مثالية، وكان من المفترض فيه أن يقف كالطود الراسخ في مجلسه مدافعا عن حق هذا الشعب في تشكيل الاحزاب الحرة والديموقراطية، لا عائقا في وجهها…كان عليه أن يطالب بالحق أو يغير اسمه الى “الأخرس!”…
وعندما يكون الجفاف السياسي سائدا في بلد من البلدان، ولا مجال هناك لنقد سياسات الحاكم وتصرفاته الخرقاء ونهمه الأشعبي، فإن الشعب يحزم حقائبه ويبحث عن طريق للهجرة، الداخلية والخارجية، والنظام نفسه يعترف بوجود ما لايقل عن نصف الشعب السوري في المهاجر، في حين أن بلدا مثل سوريا يمكن أن يأوي الثلاثين أو الأربعين مليون بشر ويرفع من مستوى معيشتهم بحيث لايحتاجون للهجرة ولا تتعرض مواطنهم للجفاف السياسي وغير السياسي…
على الأمم المتحدة أن لاتساعد في مجال مكافحة الجفاف وندرة الأمطار فحسب، وانما يجب أن تكافح الجفاف السياسي قبل ذلك، لأن في استمراره بقاء للسياسات الخاطئة وللانتهاب والعبث والخراب… وعليها أن تتأكد من أن الأنظمة السياسية تعامل شعوبها كبشر ذي قلوب وليس كبقر حلوب…إن التدخل العسكري للمجتمع الدولي في بعض البلدان قد تم تبريره بالقانون الدولي “حفاظا على حقوق الانسان وحقوق الأقليات في العيش الكريم”،، فإذا كان التدخل العسكري مشروعا لحماية فئات من الشعوب فلماذا لاتستخدم الأمم المتحدة حقها في “صون الشعوب من براثن السياسات المعادية لذات الحقوق” عن طريق “التدخل السياسي”… لماذا يتحدث الأمميون الدوليون عن “الانتخابات المزيفة” في ايران ويتسترون على نسبة 99.99 % الكاذبة والمخالفة للحريات والديموقراطية في سوريا؟ ألأن سوريا تشكل عنصر “أمن واستقرار” في المنطقة…؟ فهل ستكون سوريا حرة وديموقراطية ضد الأمن والاستقرار؟
من ناحية أخرى، أقول هذا للبعثيين ومن على شاكلتهم من الساكتين عن الحق كشيطان أخرس في بلادنا وفي المهاجر:
“ماذا سيحدث لمدنكم العربية إن وصل عدد الكورد في كل مدينة منها إلى مئات الألوف وتمسكوا بقوميتهم ولغتهم وأصلهم؟ ألا تخافون من أن يسببوا لكم وجع رأس في المستقبل بهجرتهم المليونية هذه صوب العمق السوري؟”
أرى أن من الأفضل للعرب والكورد ولغيرهم من مواطني (سوريا الأسود والثعالب) أن يحاربوا معا الجفاف السياسي في البلاد، وبذلك يخطون معا خطوة جادة صوب التصدي للجفاف غير السياسي، ويتفادون ما يمكن تسميته مستقبلا ب”تكريد سوريا”…
الحوار المتمدن