صفحات سوريةمحمد ديبو

حول الحرية واقتصاد السوق الاجتماعي

null
محمد ديبو *
لم تكن الحرية بمعناها الواسع سابقاً، هاجساً لدى النخب العربية والمثقفين العرب، إذ بالكاد بدأنا منذ عقد نتلمس مدى حاجتنا لها. ويمكن القول إن الوعي بحاجتها ما زال حتى اللحظة مشوباً ببقايا أيديولوجيات تعرقل النظر إلى الحرية كقيمة أساسية مرتبطة بالإنسان بحد ذاته كقيمة مستقلة، من دون عـطفها عـلى قـضية ما أو أيـديولوجـية ما أو حزب ما…
وبما أن الحرية كمفهوم ووعي كانت غائبة عن الحضور ثقافياً، فمن الطبيعي أن تحصل كل هذه الكوارث التي لا يمكن أن نجد حلاً لها من دون مكتسبات الحداثة (الديموقراطية والعلمانية والإصلاح الديني والعقد الاجتماعي…) التي لا يمكن أن ندخل قلعتها إلا عبر بوابة الحرية التي أحكم الحراس إغلاقها ووضعوا مفاتيحها في جيوبهم بعد إحاطتها بمنظومة قيم معادية لها تبدأ بالطوارئ والأحكام العرفية ولا تنتهي بالسجون والقتل.
وبالنظر إلى بنية الوعي بمسألة الحرية التي تحكم تفكير النخب والشارع العربي منذ بداية خمسينات القرن الماضي سنجد أن أغلبها شمولي استبدادي ديني إيديولوجي، أي وعي ينطلق من وهم المعرفة أكثر من المعرفة ذاتها (ووهم المعرفة أخطر من الجهل ذاته لأن الجاهل يدرك جهله، أما الواقع في أسر وهم المعرفة فهو جاهل لا يعرف جهله، وممتلئ بغرور ما يظنه معرفة)، حيث ارتبطت الحرية دائماً بمرادف لها: حرية على النمط الاشـتراكي أو حرية على النمط الديني، وكلاهما مفهومان يحكمان باسـم الحرية بعد أن يفرغاها من حقيقتها وجوهرها إلى درجة يغدو معها الاسـتـبداد ذاتـه حـريـة في أيـديـولوجـيات تـلك الـنـظم!
ولادة عرجاء للحرية الاقتـصادية: وللتدليل على قـيـمة الـحـريـة وكـيـف يـمكنها أن تـكون مـحـركـاً وفـاعلاً في حـل المشكـلات التي يـغرق فيـها العـالم الـعربي، سـنأخـذ مفهوم الحـرية الاقـتـصـاديـة الـذي أشـاعـه عـدد مـن نظم المنطقة العربية أخيراً، ونسـلـط الـضوء على كيـفية ولادتـه وتـطـبيـقه ومـدى الـعـوائـق التـي تـحـيط به نتيجة عدم ربطه بالحرية الـسياسـية التـي لا يمكن أن ينجح أي شيء من دونها لأنها تمثل ورقة الجوكر في أي مفـهوم للحرية تطرح على نطاق الـبحث.
في الخمسينات وما تلاها قامت انقلابات متعددة حكمت شعوبها بالنار والحديد ونهبت خيراتها وراكمت ثروات أودعتها مصارف خاصة خارج البلد، أي بقي المال من دون استثمار، مجرد تراكم أو اكتناز أو ادخار بلغة الاقتصاد، لأسباب عدة منها أن النظم والقوانين والشعارات التي حكم باسمها الجيل الأول للانقلابات كانت لا تسمح بالانفتاح الاقتصادي وإقامة الشركات، كان اقتصاداً مبنياً على احتكار الدولة لكل شيء، أي لم يكن في إمكانها استثمار أموالها، ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وأفول سلطان الاشتراكية ووصول اقتصادات الدول العربية إلى مرحلة الترنح، وولادة جيل جديد ذي عقلية مغايرة لعقلية الحرس القديم لـ «الثورات»، بدأ الجيل هذا يبحث عن منافذ لاستثمار الأموال المنهوبة وتشغيلها، فعمدوا إلى دفع آبائهم الممـسـكين بالـسلطات إلى سـن قوانين اقـتصـادية تسـمح لـهم باجتياح ما تبقى من رقع مـسـتقلة فـي الداخل لم تصله يد الدولة (ونـظـرة مـدقـقة فـي أسـماء حيتان المال العربي سنجد أن أغلبهم أبناء أو أقارب للـحرس القـديم المـمسكين بزمـام السـلطات الـعربـية!)، وهكذا ولد ما يسمى «اقتصاد السوق الاجتماعي أو «الحرية الاقتصادية» ولادة عرجاء، لأنه ولد بعيداً عن جناحه الآخر وهو الحرية السياسية التي لا يمكن أن يحلّق من دونها، حيث بقيت قوانين الطوارئ والسجون وانتهاكات حقوق الانسان مع غياب شامل لمؤسسات المجتمع المدني، حيث عملت السلطات العربية على الحفاظ على السلطة بيد من حديد مع محاولة تحرير الاقتصاد خدمة لمصالحها، فحصلنا على نماذج مشوهة لا تشبه سوى الخواء، ليستمر النهب هذه المرة عبر بوابة الحرية الاقتصادية وسـياسة الـسوق المـفتوح، من دون أن يـدرك أولئـك المـنظرون لهذا عربياً أن الحرية الاقتصادية مترافقة مع حرية سياسية تسمح بتشكيل الأحزاب والنقابات التي تـدافع عـن حـقوق الـعمال وتـسمح لـهم بالتظاهر والإضراب عن العمل عندما يستشعرون خطراً من السوق على مصالحهم، إضافة إلى حرية عمل المجتمع المدني الذي تعمل مؤسساته على الحد من تسلط الدولة واستبدادها عبر تقليم أظافرها باستمرار وأنسنة عنفها المقدس الذي تستخدمه بقوة القانون.
وهنا في ظل غياب الحرية الـسـياسية والـنـظام السـياسي الضـامن يترك الشعب لقوى السـوق لتـسـتفرد به، حيث تقوم السلطة المستبدة بتجريد الشعب من وسائل مقاومته لتفسح في المجال لحيتان الاقتصاد لـشراء مؤسـسـات الدولـة التي يتم بيعها بأثمان بخسة، من دون أن يتاح للشعب أن «يعقلن» هذا الجموح الشهواني للربح الذي يسعى لابتلاع كل شيء.
انطلاقاً من ذلك ربما نستطيع أن نفهم كيف يمكن الحرية السياسية أن تكون نقطة الانطلاق لوضع أولى الخطوات التي تمكننا من حل المشكلات التي ترهق بلداننا، أي لا بد أولاً من العمل على إعادة بناء الدولة كدولة للقانون والنظام وليس دولة القبيلة والسلطة، وهذا لا يكون من دون حرية سياسية تفتح باب النقاش بين النخب والأحزاب والتيارات الوطنية التي يمكنها أن تتفق على برنامج وطني يمهد لآلية الانتقال من حال الدولة الشمولية الممسوكة سياسياً لمصلحة الدولة الوطنية الديموقراطية، أي من نموذج «دولة ضد مواطنيها» إلى نـموذج «دولة المواطنين». ولا يمكن تطبــيق ما سبق من دون إلغاء قوانين الطوارئ وإغلاق السجـون وتـحـييد الجـيش عبر تـحويله إلى مؤسـسـة وطنية مستقلة مهمتها حماية الوطن لا النظام، وتقـيـيد أجـهزة الأمـن بقوانين تجعلها خاضعة للعقاب كأي مؤسسة أخرى، وإطلاق حرية الأحزاب وتشكيل الجمعيات المدنية، الأمر الذي يـؤدي إلى فـك الاحـتـقـان وفتح النـوافذ لـكل الهوامـش التـي لـم يـتـح لها التـعـبير عـن نـفـسها بما فـي ذلك الـحـريـات الـدينـيـة وحرية العقيـدة وتـبديل العقيدة، لتتأطر في هيئة أحزاب أو جـماعـات مـنظمة، الأمـر الـذي يجـعلـنا نـرى مـا يـعتمل داخل مجتمعاتنا، لأننا ما زلنا حتى هذه اللحظة نجهل مجتمعاتنا لأنـها مـجـتمعات تعيـش عـلى ثـقـافـة الـتقـية والـطـاعة والـمواربـة والخـوف الـتي تـجعلها تظهر عكس ما تبطن، وهنا أهم شيء يمكن الحرية السـياسـية بمـفهومها الأولـي أن تـعطيـنا إياه، أي أن تـجـعلـنا نـرى مـجتمـعاتـنـا فـي شـكل صـحـيح.
بعد ذلك يمكن الانطلاق نحو اتفاق كل ما أفرزته المرحلة الأولى من أحزاب على برنامج عمل وطني يتمثل بوضع برنامج وطني يتمثل بطرح قانون جديد ودستور جديد وطرحه على الشعب في انتخابات حرة مستقلة، تضع البلاد العربية على أبواب ما يمكن أن يشكل رهاناً ما لمستقبل مفتوح، على رغم أن الأمر ليس مؤمناً مئة في المئة، لأن هذا الأمر نفسه سيسمح للحركات الدينية بالعمل ولكنها باعتقادي ستسقط في فخ عدم تاريخيتها وعدم قدرتها على التأقلم مع متغيرات عصر يتغير كل ثانية، بخاصة أن الحرية السياسية ستفتح الباب أمام حرية البحث لتتحول الجامعات إلى مراكز بحث حقيقية وتتفتح تيارات اجتماعية كثيرة لم تستطع سابقاً التعبير عن نفسها، وسيسمح هذا الأمر للثقافة الحقيقية أن تعمل وتتنفس عبر صحافة تفضح وتنبه وتلقي الضوء على ما لم يكن مسموحاً بفضحه سابقاً، والأهم أن تنهض مؤسسـات المـجتمع المدني في مواجهة الشركات والسلطة إن حادت عن طريقها، وهنا يمكن مفهوم الحرية الاقتصادية أن يكون حقيقياً وفاعلاً ويمكنه أن يقف على رجليه ليكون أداة بناء حقيقية بدل أن يكون أداة للنـهب والـسرقة وباسـم الحرية أيضاً!
ولنا في النهاية أن نقول إن الحرية السياسة لا تعني أنها حل لكل المشاكل العالقة بل هي بداية أو خطوة أولى تسمح بولوج بوابة حل المشكلات لأن الطريق أطول من ذلك بكثير وأعقد من أن يختزل ببعض الإجراءات السياسية.

* كاتب سوري.
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى