جان جينيه على طريق الشام
أندلس الشيخ
يَعتبر جان جينيه الخيانة فضيلة مقدسة، شأنها شأن السرقة والحب المثلي. ففي كتاباته الروائية، بدءاً من ‘نوتر دام دي فلور’ إلى ‘أسير عاشق’، تأخذ الخيانة أشكالاً ووجوهاً متعددة، منها خيانة الأصدقاء والأحباء المقربين ورفاق السرقة. أما الهرب والرحيل عن الوطن الأم فرنسا، التي رفضت الاعتراف به وهو طفل صغير، فكانا أيضاً السبيل لجينيه لبتر كل ما يربطه بالثقافة الغربية على وجه العموم وبالفرنسية على وجه الخصوص. عن تلك الرغبة العارمة في خيانة وطنه، يسرد مؤلف ‘يوميات لص’ في مقابلة له مع المخرج انتوان بورسيه تفاصيل حادثة حصلت معه أيام الطفولة، قد تكون وراء الكراهية التي يكنُّ بها الكاتب إلى البلد الذي ولد فيه. يروي جينيه أنه ‘عندما طلب المعلم في الصف بأن يكتب كل طفلٍ وصفاً للبيت الذي يعيش فيه، وكان وصفي برأي الأستاذ الأجمل، أخذ يقرؤه بصوت عالٍ على مسامع باقي الطلاب. فراح الآخرون يتهكمون مرددين ( لكن، هذا ليس بيته، إنه طفل لقيط )، انتابني آنذاك شعور موحش بالغربة’. تركت هذه الحادثة أثراً عميقاً في قلب جينيه الذي أحس منذ نعومة أظفاره بأنه غريب بين أهله، منبوذ من قبل الآخرين. وهذا ما ولّد في داخله الشعور بالوحدة وبالظلم، اللذين لم يفارقاه على مر السنين.
في ريعان الصبا، لم يكن حلم الرحيل عن فرنسا ليترك مخيلة جينيه الذي كان يتحين الفرصة كي يغدر بوطنه الذي غدر به وهو طفل صغير. فكانت دمشق جهة الرحيل الأولى، حيث التحق جينيه عام 1929، وهو في حوالي العشرين من عمره، بإحدى فرق الاستطلاع التابعة للجيش، إبان الاستعمار الفرنسي لسورية. وبالرغم من إقامته القصيرة في العاصمة السورية، التي لم تتجاوز السنة الواحدة، بقيت صور الشام محفورة في قلب الكاتب بعد عودته إلى فرنسا في العام 1930. وفي حقيقة الأمر، لم يكن سفر جينيه إلى دمشق مجرد ذكرى عابرة فحسب، بل كان محطة مفصلية في حياته، إذ أجّج في داخله تلك الرغبة القديمة في البحث عن وطنٍ جديد، وهو الذي ولد لأبٍ غير معروف ولأمٍ كانت قد تركته رضيعاً أمام إحدى مستشفيات التوليد في العاصمة الفرنسية، باريس.
بعد عودته من الشام، عاش جينيه حياة تشرد وتسكع سارداً تفاصيلها في عمله الشهير ‘يوميات لص’، حيث يمكن للقارئ تقفي أسفار الكاتب في شتى أنحاء القارة البيضاء، من ألمانيا إلى البلقان، مروراً ببولونيا، النمسا،إيطاليا وتشيكوسلوفاكيا. يروي جينيه في الكتاب أنه كان يقضي من بلدٍ إلى آخر بجواز سفر مزور، متعاطياً الشحاذة، السرقة والعهر. وعند مروره بإسبانيا، فاحت له رائحة الشرق ،خصوصاً في قاديش تلك ‘المدينة ذات القبب ومنارات الجوامع الواقعة في أقصى الغرب، أبصرت فجأةً خلاصة الشرق’، على نحو ما يكتب في ‘يوميات لص’.
عقِبَ فترة التشرد هذه، تم الزجّ بجينيه في أحد السجون الفرنسية قرب باريس لارتكابه عدة سرقات وعلى نحوٍ متكرر. وفي السجن، بدأ كتابة الشعر فألف قصائد كان أولها ‘المحكوم بالإعدام’ و’نشيد حب’ ومن ثم أخذ بكتابة الرواية، فألف ‘ نوتر دام دي فلور’، رواية تحمل اسم البطل نوتر دام دي فلور، ورواية ثانية بعنوان ‘معجزة الوردة’. خلال سنين عدة قضاها جينيه بين تشرد وحبس، لم تكن لتفارقه الرغبة في خيانة فرنسا والعودة إلى ربوع الشرق. وها هو في إحدى مقابلاته يبوح ثانية ً لأنتوان بورسيّه بهذه الكلمات: ‘نحو الخامسة أو السادسة والثلاثين، أردت السفر. كانت لدي الرغبة في الذهاب إلى الشرق عبر كاتماندو، من قبلكم جميعا’.
تأخر حلم العودة إلى أرض الشام بقرار الكاتب الخوض في مغامرة فنية جديدة وهي الكتابة المسرحية، بعد تجربة الشعر والرواية. وفي الحقيقة، لاقى مسرح جينيه نجاحاً كبيراً نظراً للقيمة الإنسانية التي تحملها نصوص مثل ‘الخادمتان’، ‘الزنوج ‘ و’السواتر’، التي تحكي معاناة شريحة اجتماعية أو نضال شعبٍ ما لنيل حريته. تم عرض هذه المسرحيات في أشهر المسارح الباريسية ومن بعدها في شتى أنحاء العالم. وبعد تجربة الخشبة المسرحية هذه، أتى قرار جينيه بترك الساحة الأدبية والرحيل عن فرنسا ليقف إلى جانب معذبي الأرض، فإذا به ينخرط في صفوف ‘الفهود السود’، تلك الحركة التي ناضلت من أجل الدفاع عن حقوق السود في أمريكا، في سبعينات القرن المنصرم. فبعد جولات عدة في مختلف الجامعات الأمريكية مرافقاً كبار رموز تلك الحركة مثل جورج جاكسون وأنجيلا ديفيس، لفضح سياسة الولايات المتحدة إزاء السود وما يتعرضون له من قمع واضطهاد، مضى جينيه إلى معركة إنسانية أخرى للوقوف إلى جانب الفلسطينيين، مشاطراً إياهم الكفاح والنضال على طول أربعة عشرعاماً. كانت ثمرة إقامة الكاتب مع الفدائيين بالقرب من نهر الأردن، مؤلفاً تم نشره بعد مماته، ‘ أسير عاشق’، يحكي فيه ملحمة نضال ‘الفهود السود’ والفلسطينيين الحالمين بالعودة إلى أرضهم المحتلة. بقراره هجر فرنسا والثقافة الغربية على حد السواء، للانخراط بين صفوف الفدائيين والعيش في مخيماتهم، استطاع جينيه تحقيق حلم خيانة وطنه والعودة إلى الشرق الذي اكتشفه شاباً أثناء خدمة العلم التي قضاها في دمشق. وتجدر الإشارة هنا إلى كثرة الكتاب الأوربيين الذي أتوا إلى الشرق وعادوا منه حاملين في مخيلتهم قصصاً وخرافات تصف البلدان التي مروا بها خلال ترحالهم، حتى أننا نكاد نردد مع إدوار سعيد بأن ‘الشرق كان تقريباً صنعة، فمنذ القدم كان مكاناً أشبه بفانتازيا تعمرها كائنات غريبة، ذكريات ومناظر تثير الوسوسة وتجارب غير اعتيادية’. وللتأكيد على مقولة سعيد، لا يسعنا سوى العودة إلى كتابات غوته في ‘الديوان الغربي الشرقي’، أو إلى كتابات هرمان هسه في ‘سفر إلى الشرق’، أو إلى كتابات أخرى مثل ‘معجم الأفكار المسبقة’ لفلوبير. ولائحة الكتاب الذين سافروا إلى الشرق وكتبوا عنه تطول، شاتوبريان، نيرفال، رينان، غوتييه، بيير لوتي، أندريه جيد، وغيرهم. وفي الحقيقة، يختلف سفر جان جينيه إلى الشرق عن باقي الكتاب الذين أتينا على ذكرهم بكونه، على ما يورد جيروم نوتر في كتابه ‘جينيه على درب الجنوب’، ‘ذهاباً فقط، دون إياب’.
يتقاطع ‘استشراق جينيه’، إن صح التعبير، في بعضٍ من جوانبه، مع استشراق رامبو، ذاك الكاتب الثائر الذي لم يتوانَ عن قطع كل أواصر الانتماء إلى فرنسا والثقافة اليهومسيحية. يُعتَبر سفر رامبو إلى الشرق بمثابة تخلّ ٍ عن القيم البورجوازية الأوروبية وتركٍ لقوانين ومعايير الحياة في القارة البيضاء، بغية اكتشاف بلادٍ بعيدة تحكمها قيم وأخلاقيات جديدة. عن رحيل كاتب ‘إشراقات’ عن الثقافة الغربية، كتب أندريه تيس هذه الكلمات: ‘أرتير رامبو حاجّ ٌ يحث الخطى للعثور على المكان والعبارة، متتبعاً طريقه، طريق الشام الذي لا نهاية له’. على هذا الطريق المبارك الذي اتخذه العديد من القديسين وأولهم القديس بولص، مشى رامبو وجينيه جنباً إلى جنب من دون أن يلتقيا. الأول اعتراه ‘جنون صوفيّ’ على حد تعبير أدونيس والثاني وقع أسير هذا الدرب باحثاً عن قداسة من نوع فريد، في تخليه عن رغد العيش في الغرب وتماهيه مع جراح الشعب الفلسطيني. في مؤلفه ‘أسير عاشق’، يخص جينيه طريق الشام بهذا الوصف: ‘لكن هذا البلد المسمى ( الأرض المقدسة )، شهيرٌ من خلال الأحداث المدونة في العهد الجديد… . لقد منح ولادة لهؤلاء الذين فروا ألد أعدائهم وقبل الجميع، للقديس بولص’.
نقرأ تفاصيل العودة على خطى الرسول بولص و’حج’ جينيه إلى أرض الشام في ‘أسير عاشق’، حيث يروي الكاتب، من خلال إقامته في مخيمات الفدائيين، كيف أن فلسطين الحلم حلت في قلبه محل الوطن الأم فرنسا مورداً لنا في كتابه الأخير بهذا الاعتراف: ‘قد أحقق هنا، حلماً قديماً جداً منذ أيام الطفولة، غرباء، يشبهونني أكثر من أبناء وطني، ربما يفتحون لي الطريق إلى حياة جديدة’.
بعثوره على حياةٍ جديدة وأهل محبين في أرض الشام، وضع جينيه حداً لفعل الخيانة الذي طالما قدسه في مؤلفاته الشعرية، النثرية والمسرحية. وربما هذا ما يتيح لنا فهم مقولة جينيه الاستفزازية: ‘لن نرى في إغواء الخيانة إلا غنىً’. والغنى الذي كان يرنو إليه ‘القديس جينيه’، كما يحلو لجان بول سارتر تسمية هذا الأخير، من فعل الخيانة ما كان يوماً مادياً بل داخلياً، لا سيما وأن البيت الذي حلم جينيه بإعماره بعيداً عن القارة البيضاء هو منزل أركانه مشيدة على أرض الروح. قد يكون بيت جينيه الجديد، شبيهٌ بـ ‘قصر الداخل’ الذي تتحدث عنه القديسة تيريز دافيلا في أشعارها، أو لربما كان على صورة هذه ‘الصحراء دون ماء، في صحراء دون ماء’ التي تكلم عنها الحلاج في ‘كتاب الطواسين’. على تفاصيل هذا ‘البيت الجواني’ الذي أقامه إلى جانب الفلسطينيين في أرض الشرق، بعيداً عن الغرب وحضارته، يعود جينيه في هذا المقطع من ‘أسير عاشق’: ‘استمريت في رفض الملكية الفعلية، لكن يجب عليّ هدم الملكية القابعة في داخلي، حيث كانت تبسط دهاليزها، غرفها، مراياها وأثاثها. ولكن هذا ليس كل شيء، لأنه كان يوجد حول البيت بستان فيه خوخ على شجر الخوخ، ما استطعت وضعها في فمي، لأن كل شيء كان في داخلي… .’ إذاً، أين هي تلك الصحراء دون ماء في صحراء دون ماء’ التي يتحدث عنها الشاعر الصوفي؟ حَمْلُ البيت وأثاثه في الذات، لأمرٌ مخزٍ لرجلٍ كان يُنيرُ في ليلٍ من فجره الداخلي’.
‘ كاتب مقيم في ألمانيا