صبحي حديديصفحات ثقافية

بولانسكي وحصانة الهولوكوست

null
صبحي حديدي
قامت الدنيا، ولم تقعد بعد، في فرنسا بصفة خاصة، وفي الولايات المتحدة وأمكنة أخرى من أوروبا، بسبب توقيف المخرج السينمائي الفرنسي البولندي الأصل رومان بولانسكي في مطار زوريخ، إستناداً إلى مذكرة رسمية صادرة عن القضاء الأمريكي، في ما يخصّ قضية اغتصاب قاصر بنت 13 سنة. وبدا، فجأة، أنّ كبار المسؤولين في دول القانون والحقّ هذه، يسوّغون ترك المدان طليق السراح لأنه ‘فنان كبير’، أو ‘شيخ في السادسة والسبعين’، أو ‘ضحية شهدت الكثير من العذابات’…
وهذه أقوال جرت على ألسنة فرنسيين من أمثال الرئيس نيكولا ساركوزي ووزير الخارجية برنار كوشنير ووزير الثقافة فردريك ميتيران، وهذا الأخير ألمح إلى أنّ صلة بولانسكي بالهولوكوست تكفيه عذاباً، وتعفيه بالتالي من المزيد، في قضية شاء ميتيران أن يعتبرها ‘قديمة لا معنى لها على الإطلاق’.’ولعلّ المرء يتذكّر مفارقة مؤلمة في هذا الصدد، تخصّ فرنسا تحديداً، إذْ كانت أسرة بولانسكي تقيم في فرنسا أصلاً، وعلى أرضها ولد رومان، قبل أن تهاجر سنة 1936 إلى بولندا، حيث سيقت إلى غيتو كراكوف، ثمّ رُحّلت الأمّ (وهي نصف يهودية ـ نصف كاثوليكية) إلى أوشفيتز فلاقت حتفها، ورُحّل الأب اليهودي إلى ماوتهاوزن فنجا من الموت.
ويرى البعض أنّ مصير الأسرة كان سيتخذ وجهة أشدّ مأساوية لو أنها بقيت في فرنسا، إذْ أنّ قرابة 2500 يهودي فقط هم الذين عادوا أحياء، من أصل 76.000 كانت السلطات الفرنسية قد رحّلتهم إلى المعتقلات النازية خلال الإحتلال. وليس من الإجحاف في حقّ وزير الثقافة الفرنسي أن يُرى حديثه عن عذابات ماضي بولانسكي وكأنه صيغة للتخفيف عن النفس الفرنسية الحكومية المثقلة بعذاب الضمير؛ والنأي مجدداً عن حرج عائلي شخصي نابع من حقيقة أنّ والدة الوزير، إديث كاييه، كانت ابنة أخت أوجين دولونكل، وهو زعيم ميليشيات فرنسي فاشيّ تعاون مع الإحتلال النازي.
على النغم ذاته، في الـ ‘واشنطن بوست’ الأمريكية هذه المرّة، عزفت آن أبلبوم، التي تشاء المصادفة أنها زوجة رادوسلاف سيكورسكي (المنشقّ البولندي السابق، المستشار السابق لملك الإعلام والملياردير اليهودي روبرت مردوخ، وزير خارجية بولندا الحالي، ومطلِق إشاعة تقول إنّ والد الرئيس الأمريكي باراك أوباما كان من أكلة لحوم البشر، وفي معدته أحد أعضاء البعثة التبشيرية البولندية في أفريقيا). ولقد أوحت أبلبوم أنّ بولانسكي تعرّض لجرعة من المضايقات القضائية أعلى من المعتاد، والمطلوب مراعاته لأنه سليل عذابات الهولوكوست!
ومن المؤسف، ما دمنا في الساحة الأمريكية، أنّ الممثلة الشهيرة السوداء هولبي غولدبرغ، صاحبة روائع مثل ‘اللون الأرجواني’ و’شبح’ و’صُنع في أمريكا’، قد وقعت في فخّ من طراز آخر حين اعتبرت أنّ ما ارتكبه بولانسكي لم يكن اغتصاباً بالمعنى المتعارف عليه للمفردة. صحيح أنها تراجعت بعدئذ، وصرّحت بأنها كانت تقصد الإشارة إلى المصطلح القانوني، ولا يمكن أن تقرّ بولانسكي على فعلته تلك، إلا أنّ أذى موقفها الأصلي كان قد وقع لتوّه، واحتُسب على الفور في رصيد الساعين إلى تجميل صورة الفعل، إستناداً إلى خصوصية شخصية الفاعل.
من جانب آخر كانت جمهرة من مشاهير العاملين والعاملات في صناعة السينما، وبينهم عدد من ألمع المخرجين والممثلين والممثلات، قد أصدرت عريضة تطالب بالإفراج الفوري عن بولانسكي، وبدا هؤلاء وكأنهم يقولون إنّ حضور بولانسكي إلى مهرجان زوريخ السينمائي كفيل في ذاته، كحدث ثقافي بارز، أن يمنح المطلوب قضائياً حصانة خاصة إستثنائية. لائحة الموقّعين تضمنت أمثال وودي آلان، مارتن سكورسيزي، برناردو برتولوشي، دافيد لينش، أمير كوستوريكا، ماركو بيلوكيو، جوزيبي تورناتوري، فاتح أكين، توني غاتليف، برتران تافرنييه، جيل جاكوب، جان مورو، فاني أردانت، كوستا غافراس، بيدرو ألمادوفار، فيم فندرز، مايكل مان، سام منديس، مونيكا بيلوشي، كلود لانزمان؛ فضلاً عن مؤسسات ومعاهد سينمائية، وشخصيات أدبية مثل ميلان كونديرا، سلمان رشدي، و… المتفلسف الفرنسي اليهودي برنار ـ هنري ليفي، بالطبع!
أمّا الثابت على صعيد الوقائع ذاتها، فهو أنّ بولانسكي كان قد استدرج صبية، تطوّعت أمّها بتعريفها عليه كي يقودها إلى عوالم الأضواء، فدسّ لها عقاراً مخدِّراً في كأس الشمبانيا، ثمّ واقعها رغم إرادتها، ولاط بها، ولم تتمكن من الإفلات منه إلا حين أظهرت نوبة ربو حادّة. وقد توصــــّل بولانسكي إلى تسوية قانونية تقضي بأن يعترف بممارسة الجنس غير الشرعي، الأمر الذي كان سيخفف جريمة الإغتصاب، إلا أنه فرّ من أمريكا خشية أن يكون حكم القاضي أقسى ممّا توصّلت إليه التسوية.
وما يُنقل اليوم على لسان الضحية سمانثا غايلي، من أنها لم تعد راغبة في فتح ملفات القضية (لأنها اليوم في الخامسة والأربعين، متزوجة، وأمّ لاربعة أطفال، ومن الطبيعي أن تخشى فضائح الإعلام)؛ أو ما يتشدّق به البعض من تقادم القضية، ومأساة بولانسكي مع زوجته القتيلة شارون تيت، ودنوّه من العقد الثامن، ومكانته الفنّية… كلّ هذا لا يمنحه حصانة من أيّ نوع. وأمّا حصانة الهولوكوست، فلعلّها ينبغي أن تكون سبباً وجيهاً لتشديد العقاب عليه، هو الضحية السابقة التي انقلبت إلى وحش كاسر!
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى