الاغتراب الثقافي للإنسان العربي
سفيان ميمون
اختلف المنظرون في إسناد الاغتراب إلى وسط من الأوساط أو إلزامه الذات حيث يكون المغترب هو وجهة الاغتراب ذاتها، ولكنهم اتفقوا جميعا أن الاغتراب لابد أن يكون محددا بسند، وذلك بطرح السؤال: اغتراب عن ماذا ؟ فتكون الإجابة: اغتراب عن المجتمع واغتراب عن الثقافة واغتراب عن الذات…
لقد كان فيورباخ يرى أن اتجاه الإنسان نحو عبادة الإله ونشدان الخير لديه إنما هو اغتراب عن الذات، فكلما اقترب المرء نحو هذا الإله ابتعد عن ذاته واغترب عنها وهي نظرة مثالية متعالية عن الواقع الاجتماعي الذي أعطاه ماركس حقه من التحليل وفق جدل الطبقات، فماركس على غرار تحليله لمعطيات الواقع الاجتماعي نظر إلى الاغتراب نظرة مادية في سياق ما تنتجه علاقات الإنتاج حيث يغترب العامل عن سلعة أنتجها بمجرد عجزه عن استخدامها فيكون في حالة اغتراب عن جهده وذاته .
كما دقق دوركايم في لفت الانتباه إلى تعلق الاغتراب وارتباطه بالثقافة من خلال مفهوم ‘اللامعيارية’ الذي يشير إلى حالة انعدام المعايير في المجتمع، فحينما تغيب هذه المعايير تفقد أفعال وسلوك الأفراد أي سند اجتماعي ويدخل المجتمع في فوضى نتيجة غياب قواعد ضابطة لهذا السلوك وتلك والأفعال، وهنا يتمثل لنا الاغتراب عن المجتمع وقواعده كظاهرة اجتماعية وثقافية تعبر عن حالة الانفصام بين المجتمع وأفراده .
من خلال استقصاء بسيط للتراث النظري الذي يتناول مفهوم الاغتراب وتتبعه كظاهرة اجتماعية في الواقع الاجتماعي نجده ينقسم الى صنفين: اغتراب عما هو كائن، أي اغتراب عن الواقع الاجتماعي والثقافي، واغتراب عما يجب أن يكون، أي اغتراب عن واقع غير محقق يرجى تحقيقه ويدعي المدعون أنهم مغتربون في الواقع الحالي مغتربون عن الواقع المنشود .
بهذه الصورة التي يتعدد فيها الواقع بين معاش وافتراضي استطاع عصر الانترنت أن يفرض علينا نمطا معيشيا يفتقد إلى الاستقرار والتوافق حيث أصبح لكل وجهة هو موليها دون مرجعية معترف بشرعيتها لدى جميع أفراد المجتمع، فمن مدع بأننا ابتعدنا عما كان وهو الذي يجب أن يكون دوما فاغتربنا بذلك في نمط معيشي جديد لم يكن مقررا وهو ما جلب لنا كل وباء، ومن مدع آخر يقول أننا مازلنا بعيدين عن جوهر ما يجب أن نكون عليه وأن بقاءنا على هذه الحال إنما هو عين الاغتراب عن جوهر الحضارة والمدنية .
لقد اغترب الإنسان العربي حينما أغرق في تمجيد واقع له سلبياته، واغترب أكثر حينما سعى إلى نشدان واقع آخر دون واقعه الأول فاختلط عليه الحابل بالنابل وعسر على المجتمع أن يميز بين المواقع التي يثبت فيها ذاته، لقد صار حائرا كالطائر تماما ينتقل من شجرة إلى شجرة دون أن يميز بين الشجر أي ثماره أحلى .
يناقض الاغتراب الثقافي لدى من يتمسكون بالتراث الهوية والانتماء وتمجيد الثقافة الوطنية التي تعد الحصن الحصين للذات العربية ومبعث كل نهضة، إنها كذلك لارتباطها بالقيم الدينية المقدسة والانتماء إلى وطن واحد يكون مصدرا لتوليد الشعور بالانتماء الذي يعزز التمسك بالوطن في الشدة والرخاء، فالاغتراب لدى الإنسان العربي الذي يتمسك بهويته وثقافته الوطنية أو القومية هو كل اتجاه يبتعد به عن هويته وثقافته، وهو كل ممارسة تدل على ابتعاد عن الهوية بكل مكوناتها اللغوية والدينية والتاريخية، ناهيك عن كونه شعورا وإحساسا بعدم الانتماء الثقافي إن كان ذلك احتقارا للثقافة المحلية واستعلاء عليها أو إيمانا بعدم قدرة هذه الثقافة على تحقيق طموح علمي أو حضاري منشود .
لقد أدى فهم الاغتراب على هذا النحو لدى بعض المثقفين إلى الاحتماء بالتراث وتثبيته أصلا ومقياسا لقياس الانتماء إلى الأمة، كما جعلوا منه قاعدة لكل عمل سليم موصل إلى النجاح، وليس ذلك مروقا أو خروجا عن جادة الصواب إذا لم يرفق بشيء من التطرف الذي يعمي الألباب عن رؤية الصالح والمفيد في كل وافد جديد .
يضفي على هذه النظرة قيمة وقوة تلك الفوضى الثقافية والاجتماعية التي أحدثتها الثقافة الوافدة على المجتمع العربي والتي فرضت نفسها كما يعترف بذلك علماء الاجتماع كثقافة للمجتمعات المسيطرة ولم تفرض نفسها البتة كثقافة مسيطرة في حد ذاتها، هذه الثقافة التي أغرى بريقها مثقفينا فراحوا يلاحقون مصادر الإشعاع فيها دونما جدوى في تحقيق المراد أثرت كذلك في روح مؤسساتنا الثقافية والتربوية والإعلامية ….. فلم تعد تنتج لنا قيما مدروسة وفق إستراتيجية محددة وإنما انحصر دورها في إعادة إنتاج قيم الثقافة المهيمنة في إحالة رمزية إلى أن تقدم المجتمع ومؤسساته إنما هو رهن باتباع ثقافة المجتمعات المسيطرة .
لكن الأدهى والأمر لدى هذه المؤسسات أن تقليدها لثقافة المجتمعات المسيطرة يقتصر فقط على الجوانب الشكلية منها ساعية بذلك إلى إضفاء طابع الفلكلور على كل تقليد يوسم بأنه تجديد وإضافة ومواكبة وعصرنة ، فدون ثقافة العري التي تغزو مجتمعاتنا وما تلقيه من ظلال على السينما والمسرح والتلفزيون والمدرسة وانخراطنا فيها كوجه من أوجه الاغتراب، نجد ثقافة أخرى تركز أقدامها في تقليد المناهج والبرامج والأنماط المتطورة في شتى المجالات والتي يتم استيرادها في شكلها الجاهز لفرض تطبيقها واختصار الاختبارات المتكررة والقفز على المنهج العلمي القائم على المحاولة والخطأ وهو لعمري اغتراب فاضح في ثقافة الآخر في شكلها السلبي كما أنه اغتراب صارخ عن فهم الواقع المحلي ومحاولة تطبيق منتجات علمية ومنهجية أفرزتها سيرورة واقع آخر له خصائصه الاجتماعية والثقافية دونما فهم وتمحيص للواقع المحلي الذي يحتاج إلى نظريات ومفاهيم ومناهج على مقاسه الخاص بعد مراعاة لطبيعة المجتمع الذي ينتمي إليه هذا الواقع وتاريخه وثقافته الوطنية والقومية.
إن من أخطر أنواع الاغتراب أن يغترب المرء عن تاريخه فلا يعود لهذا التاريخ مفعوله الكافي لخلق الشهامة وإذكاء روح الفتوة في الإنسان العربي وكذلك عناصر الثقافة الوطنية الأخرى من دين ولغة وغيرها من العناصر التي يؤدي تفعيلها إلى لم الشمل العربي وإعادة التوازن للعقل العربي الذي يغرق في شتى متاهات الفكر ويغيب ويغترب يوما بعد يوم عن جوهر الرسالة المنوطة به على مستوى الوطن والدين والمجتمع والذات .
لكن هذه النظرة غير مؤكدة في صحتها وصدق منطقها لدى من ينشدون النهوض بالوسائل ذاتها التي نهضت بها مجتمعات أخرى تصنف اليوم في خانة التقدم، لقد تقدمت هذه المجتمعات حينما تعاطت مع واقعها وتراثها بكيفية موضوعية بعيدة عن التقديس بينما اغتربنا نحن في تراثنا ورحنا ننشده باستحضاره وإعادة إنتاجه جاعلين منه هدفا في ذاته دون أن نحاول فهمه وإعادة تركيبه من جديد وفق ‘متطلبات العصر’.
لكن المشكلة الأكبر أننا نختلف في تفسير صيغة ‘متطلبات العصر’، العصر كما هي جارية عليه الأحوال في وقتنا الحاضر كزمان وعالمنا المعاصر كمكان، أم العصر الذي نصنعه نحن ونريده، العصر الذي نبارك فيه الثقافة السائدة كثقافة للمجتمعات المسيطرة أم العصر الذي نريده خالصا ومستخلصا من مرجعية واضحة نجد لها أصلا في سيرورة مجتمعاتنا التاريخية .
ربما نجد هذا الاختلاف والتصادم في تحديد هذه المفاهيم التي يتحدد على أثرها مفهوم الاغتراب ومدلوله ماثلا أمامنا في كثير من الكتابات الفلسفية والسسيولوجية، فحينما نقرأ لكتاب مرموقين من أمثال محمد أركون ونصر حامد أبو زيد في مسالة الاجتهاد الديني نجدهم يحاولون التحرر من المناهج القديمة في فهم القرآن داعين إلى اعتباره نصا بشريا حين الدراسة ‘العلمية’ لأنه تجرد من صفة الألوهية بمجرد نزوله إلى الأرض داعيا (القرآن) البشر إلى تدبره وإعمال النظر فيه، وهي محاولة تسوي بين التعاطي مع النص الديني (القرآن) – مع أنه يتضمن المحكم من الآيات (الحدود والأحكام)- وباقي النصوص البشرية في الثقافة الإسلامية .
هذه النظرة ترى في مخالفيها أنهم اغتربوا عن جوهر ما يجب أن يكون حيث تطورت المناهج التي تحكم تفسير النصوص في مجال العلوم الإنسانية وغرقوا في تقليد المناهج القديمة التي تعد حكرا على جيل مضى حاله وانقضى عهده، بينما عين الاغتراب لدى من يتمسكون بقدسية القرآن أن يقفز هؤلاء على الاجتهادات الأولى وخاصة تلك التي تتعلق بالقرآن والاجتهاد فيه حيث له ضوابطه التي أرسى قواعدها المقربون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة الكرام باعتبارهم الأقرب فهما إذ كان الرسول بين ظهرانيهم موجها ومرشدا ودالا لهم على كثير من مسائل الدين.
إشكالية ‘الاغتراب’ و’الاقتراب’هذه التي تنتجها مختلف السجالات النظرية والتي هي في أساسها مجرد اختلافات أيديولوجية في تحديد سند الاغتراب تفقد بريقها حينما ننظر إليها بعين الواقع فلا نعود نرى في الصوفي الذي يتدرج في مدارج السالكين إلى درجة ‘الفناء’ أنه يغيب عن ذاته ويغترب عنها لأنه يمكننا النظر من زاوية أخرى إلى هذا الصوفي كعابد يعمل على تحقيق ذاته بقدر إخلاصه وتفانيه في عبادة الله .
إن أكبر اغتراب يعانيه الإنسان العربي هو اغترابه عن فهم الواقع ومعرفة الآليات التي تحكم هذا الواقع لأن فهم الواقع في دقائقه وشموليته في سياق المعطى التاريخي العام هي التي تقرب بين الأفهام والرؤى نحو الاتفاق حول سند واضح للاغتراب، كي نجد بذلك جوابا لسؤال: اغتراب عن ماذا؟ واغتراب في ماذا؟
كاتب جزائري
القدس العربي