احالة الآخر إلى الذات، المثقف العربي متحدِّثاً ببساطة عن الهويَّة

هوشنك أوسي
آناءَ التحدُّث والكتابة، ضالَّتهم التبسيط. لا يسترعيهم الإلغاز، لكن تراهم يطفون على مياه المجاز!. أثناء انفتاحهم على الآخر، لا ينسون إحالته لذواتهم!. ظاهرهم شفَّاف، سلس، طليق، وباطنهم متلبِّد، شائب، أسير!. يتحدَّثون عن المستقبل والعصر والحداثة والانفتاح كلاماً سلسبيلاً، وفي الآن عينه، هم عَبَدَةُ الماضي!. في تبسيطهم للمشاكل، تعقيد!. وفي تخفيفهم للاحتقان، تصعيد!. وفي “نقدهم” لماضيهم، مديحٌ وتسبيحٌ وتمجيد!. في إيحائهم إخبار، وفي تواضعهم استعلاء وإكبارٌ وإجبار. وفي تلميحهم تصريح، وتصحيحهم وتنقيحهم وتنضيدهم لذواتهم تسطيحٌ للآخر وتجريح!. خفيفو الظلّ، وثقيلو الكلام، عمقاً ودلالةً وإشاراتٍ وإماءاتٍ وإمالاتٍ وإحالات…، لذا، تجدهم طهاةَ البلاغات حيناً، وبناةَ التبسيطات، وقتَ يعتازون!. آناء انفتاحهم على الآخر ينغلقون. وفي تقاربهم منه، تباعد. ينبذون الأحقاد والتحوير والتزوير والتحريف والتزييف، وإذ بهم ينصبون أحالبيها!. يخاصمون الأيديولوجيَّات العصبيَّة، ويعلنون تبرُّمهم وتبرُّؤهم منها، ولا ينسون الغمز من قواميسها!. يتأفَّفون من الأيديولوجيَّات القوميَّة التعصبيَّة، ويحتفظون بمفرداتها تحت ألسنتهم!. في توددِّهم لؤم. إنْ غادروا خيَّمهم، وخلعوا أقنعتهم، يحسُّون بالبرد الشديد، ويظنُّون أنفسهم عراة. فلِمَ العَجَب؟، إذ لا غرابة أن يجعلوا من مضارب القبيلة شرفاتهم على العصر والحداثة!. في أقصى مراحل حداثويتهم، تجدهم مسكونين بذهنيَّة القبيلة الكبرى، والقبيلة العظمى، والقبيلة السيّدة، وقبيلة المركز في تعاطيها مع قبائل الأطراف!. يتحدَّثون عن ثراء التنوّع، لكن، لا يطيقون الماء والهواء والتراب والأحياء والأموات، وأهل الدنيا والآخرة…، إلاَّ معرَّبين!. مسكونون بهاجس الإعراب والتعريب، والتكييف والتمرير، وليّ الحقائق، بما ينسجم مع وميراث القبيلة!. إنَّهم نفرٌ من المثقفين العرب، الذين في بؤسِ حالهم فاكهون، آناءَ اكتشافهم ذواتهم في بلاد الآخرين. لطبعهم الغلبةُ على تطبِّعهم، كلَّما سعوا حثيثاً نحو ارتداء لبوس البراءة!. وعليه، هم من يجبرونك على عدم قراءة كتاباتهم، بعيداً من البراءة!.
موسوماً بـ”هوية البسطاء الصادقة” كتب الأستاذ في كليَّة الفلسفة بجامعة دمشق، الدكتور أحمد برقاوي مقالاً، ونشره في زاوية “معاً على الطريق” بصحيفة الثورة السوريّة، يوم 15/9/2009. يتحدَّث فيه برقاوي لقارئه عن كشوف زيارته لمدينة دياربكر الكرديّة، جنوب شرق تركيا، واستخلاصاته واستنتاجاته الإثنو_جغرافيَّة، والإثنو_اجتماعَّة، والإثنو_ثقافيَّة، ويسعى لتبسيط هذه الكشوف وخلاصاتها، وتقديمها للمتلقِّي، بـ”حياد وموضوعيَّة”، ودون أيّ “انحياز” للذات القوميَّة العروبيَّة، وترِكتها الغائلة والغائرة في نفسيّة المثقف العربي!. وحال انتهائك من قراءةِ مقال برقاوي السالف، لا تجدُ نفسكَ إلاّ مبهوراً بإخلاصه للتعريب، أثناء حديثه عن الهويّة، ببساطة، وبعيداً من تعقيداتها الفلسفيَّة!.
يقول برقاوي: (ببساطة شديدة جداً أحدثكم عن الهوية، دون تعقيداتها الفلسفية، هذه المرة أكتب عن هوية الناس كما نطقوا بها دون تقوّل. والهوية أيها القارئ العزيز – بضم الهاء – يعني أنك تعرف من تكون حتى إذا سألك أحد ما من انت؟ أجبته أنا فلان من منطقة كذا او من قبيلة كذا..الخ أي انك تختار الصفة التي تحدد من وجهة نظرك من تكون.‏ لقد تجولنا في مدينة ديار بكر التاريخية، ودخلنا جامعها التاريخي الكبير المبني على غرار الجامع الأموي (…) تقدم منا رجلان في خريف العمر إذ استمعوا الى كلامنا العربي، رحبا بنا وسألانا عن المكان الذي أتينا منه ومن نحن أجبنا ببساطة وبلغة عربية مختلفة عن لغتهما التي هي خليط من العربية والكردية والتركية.‏ وسألت أحدهما من أين انت؟ قال أنا من دياربكر وماهي قوميتك؟ قال بعفوية أنا بالاصل عربي ولكني الان كردي، لم يتفهم حالة الدهشة التي ظهرت على وجوه السامعين، وقال بكل عفوية وبساطة أجدادي كانوا عربا ثم بعد ذلك أصبحنا أكراداً مثلنا مثل سكان المدينة،أما الرجل الآخر فأجاب عن سؤالنا بقوله: أنا كردي ولكن ديني عربي ولقد شدد على جملة ديني عربي مفتخراً.‏ وكان شاب في مقتبل العمر يسمع حوارنا ويبدو من ملامحه أنه عربي قح. فتقدم للمشاركة في الحديث وعرفنا على نفسه أنه طالب يدرس في الأزهر بالقاهرة.‏ قال، ودون أي إحساس بالتناقض في حديثه: «أنا كردي ولكني أنتمي في سلالتي الى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه»).
ولكون برقاوي، نقل لنا الدردشة العفويَّة التي دارت بينه وبين مُصادفيه في آمد/دياربكر، دون “تقوّل”، لن يخفى عن أيّ قارئ، رغبة برقاوي، إحالة راهن المدينة الكرديَّة _ بقرينة آلاف السنين _ إلى الجذر العربي، حين، يقول، على لسان الرجل: “أنا بالاصل عربي ولكني الان كردي (…) أجدادي كانوا عربا ثم بعد ذلك أصبحنا أكراداً مثلنا مثل سكان المدينة”!. واللافت في الأمر، هي الجملة الأخيرة. يعني، يسعى برقاوي، لأن يعيد المدينة إلى كنف الأصل والنسب العربي، عبر تمرير قول، منسوب للرجل: “مثلنا مثل سكان المدينة”!. فأبناء ديار بكر، عرب، تمَّ “تكريهم” أو “تكرَّدوا”!. وهذه الإحالة أو الإمالة السياسيَّة والتاريخيَّة، قبل أن تكون ثقافيَّة، مناقضة لحقائق التاريخ، ومعطيات الراهن. وهذه البديهة، غنيَّة عن التعريف والشرح والإسهاب والقرائن والدلائل، إلاَّ للأمِّيين، ممن هم ليسوا من طينة برقاوي، ولا ريب. ولعلّ العبارات الأخرى، المنقولة عن أؤلئك الذين “صادفهم” برقاوي، ودائماً دون “تقوّل”، تلك العبارات أيضاً، فيها ما فيها من إشارات وإيحاءات، تدعم توِّخي برقاوي تعريب المدينة الكرديَّة!. “كردي، نسبه قريشي”!. “كردي، يفتخر بدينه العربي”!. “يبدو من ملامحه أنه عربي قحّ”!. وليس هنا، مكمن بؤس المثقّف العربي في استحالة انفكاكه عن أوهام الذات السيّدة، مهما أوحى بانسلاخه عن التزييف الأيديولوجي للهويَّة، وتصنَّع الحداثة والتمدُّن والعصرنة، والتضامن مع حقوق وهويَّات الآخر!. بل لعلّه كامن في عجزه عن ابتكار أدوات جديدة للتحوير والتعريب، واستخدامها بإتقان، كما كان فاعلاً سابقاً!.
يشيد برقاوي، بالنماذج التي “صادفها” في آمد/ديابكر، وينثر عظاته بالقول: (… إنهم مجموعة من الناس البسطاء الذين لم تزيف أفكارهم عن ذواتهم الايديولوجيات التعصبية.‏ كل عبر عن هويته ببساطة شديده دون أن يلغي الآخر بل على الضد كان هو والآخر في ذات واحدة. يامن تنفخون في كير التعصب القومي والديني دعوا الناس يعيشون بوئام وبساطة وحب وكفوا عن تسليح الناس بالحقد، الحقد أقوى سلاح للقتل ونفي الآخر نفياً مطلقاً.‏ ماذا يعني أن أحقد عليك حقداً قومياً ونحن نعيش معاً؟ ماذا يعني أن أحقد عليك حقداً طائفياً ونحن نعيش معاً ولماذا هذا التعصب الذي يجعل الحياة مستحيلة.‏ أولئك البسطاء الذين تحدثنا إليهم فرحوا بنا فرحاً شديداً، بسطاء أجل لكنهم سعداء لم تفسدهم الايديولوجيات التعصبية، لم تفسدهم آلة الدعاية القومية والطائفية.‏ بسطاء لكنهم في منتهى الجمال، عربي يقول إنه كردي وكردي سعيد لأنه مسلم وكردي يعلن انه قرشي، جميع من على هذه الارض التي نحيا فيها واسمها الوطن العربي هم هكذا فلا تفسدوا هذه الارض الأجمل،يفرح كل واحد منا بكل الهويات الحاضرة بهذا الثراء الجميل، بهذا المشترك الأروع بيننا. عودوا الى ثقافة هوية البسطاء يا من تتقاتلون بسبب وعيكم الزائف بالهوية).
كلام جميل!. كلام شديدُ الإبهار، لكنّه لا يخلو من الغبار. لكأنَّ برقاوي، تنقَّى وتصفَّى من فساد وإفساد الأيديولوجيَّات القوميَّة العصبيَّة، وقد أحرق كل كتب وقواميس الأيديولوجيَّة القوميَّة التعصبيَّة العربيَّة، حتَّى يُخَّلَ له أن القرَّاء، هم طلبته على مقاعد المدرّج الجامعي، وسيتلقُّون نداءاته الداعيَّة للتبرُّؤ من الأيديولوجيَّات القوميَّة والمذهبيَّة، ببراءة، دون مراجعة وتدقيق وتمحيص ونقد!. ولماذا لم يُسائل برقاوي نفسه، عن سرِّ إفلاس وفشل الأيديولوجيَّات القوميَّة التعصبيَّة في دياربكر، وليس في دمشق، حيث يقيم، وتحكمها هذه الأيديولوجيَّة منذ 8/3/1963 ولغاية اللحظة؟!. هذه الأيديولوجيَّة القوميَّة، التي حوَّلت سورية من الجمهوريَّة السوريَّة، إلى الجمهوريَّة العربيَّة السوريَّة، لاغيةً التنوُّع الإثني القومي على هذه الأرض الفسيفسائيَّة الموزايكيَّة!؟. هذه الأيديولوجيَّة التي فسخت عقد التشارك في الوطن بين كلِّ المواطنين، وطوَّبته إقطاعاً برسم طائفة وعائلة معيَّنة إلى الأبد!. هذه الأيديولوجيَّة التي دمَّرت العراق، وحوَّلت سورية لأنقاض دولة وبقايا مجتمع، مشيعةً ثقافة القطيع والوثنيَّة السياسيَّة فيها، كان الأجدى ببرقاوي الالتفات إليها بالنقد، لكونه يكتب في إحدى أدوات آلتها الإعلاميَّة (صحيفة الثورة)، حتّى تكون الأفكار والمواقف والآراء على المحكّ؟!. ثم ألم يكن الأجدى، أن يستعين برقاوي، بمصطلح أو تسمية أخرى، عدى عن “الوطن العربي”، احتراماً للأقليَّات القوميَّة والإثنيَّة الأخرى، التي هي شريكة العرب في التاريخ والجغرافيا، كالإقباط والأمازيغ والنوبا والأكراد والأرمن والشركس والتركمان…الخ!؟. أليس اصطلاح “الوطن العربي” آتٍ من قاموس الأيديولوجيَّة البعثيَّة، التي ليست بحاجة لأن نستفيض تِعداداً وشرحاً لمناقبها ومحاسنها ومفاتنها وإفسادها للبلاد والعباد في الديار العربيَّة!؟.
لكن، لِمَ طرح الأسئلة هاهنا. يكفي القول: إنَّها أوهام المثقف العربي، التي في الوقت عينه، أغلاله. هي طباعه التي تطغى على تطبُّعه. بعض المثقفين العرب، الذين يزعمون أنهم ليسوا مثقّفو السلطة، يزيدون الأخيرة أزراً ودعماً وشرعنة في تماديها على المجتمع والدولة والوطن والموطن والمواطنة…، حتّى أكثر من مثقّفي السلطة أنفسهم!. هاجسهم، أن يتمّ قراءتهم، من الزاوية التي يشاءون، وبالطريقة التي يشاءون، لاستخلاص النتائج التي يشاءون. هكذا هم، بعض المثقفين العرب، لا يشتهون الآخر إلى مصطبغاً بأصبغتهم!. يمنحونه هويّة، بجذرٍ يمتدُّ لذاتهم!. يُكثرون حديثاً عن ثراء الاختلاف والتنوّع، ناصبين أنفسهم المركز!. يعطون دروساً في أمور، هم يفتقدونها!. ما أقربهم إلى قول ديدرو: “عندما نُكثر الحديث في أمرٍ ما، هذا دليل على أنّنا الأكثر جهلاً فيه”!.

كاتب وصحفي كردي
ايلاف