أضواء على الدور المتنامي للصحافة التركية
بكر صدقي
أكتب هذا المقال بدافع الغيرة والحسد
أرتغرل أوزكوك.
تواجه مجموعة دوغان الإعلامية خطر الانهيار التام، بعدما طالبتها الدوائر المالية بمبلغ “فلكي” بلغ 3,8 مليارات ليرة (2,5 مليار دولار) ضرائب متراكمة وغرامات تأخير. المجموعة هذه امبراطورية إعلامية هي الكبرى في تركيا، يملكها رجل الأعمال المعروف آيدن دوغان الذي بينه ورئيس الوزراء رجب طيّب أردوغان خصومة شديدة معلنة، وتصدر ست صحف يومية وتملك عدداً من المحطات التلفزيونية، تتسم سياستها عموماً بمعارضة حكومة “حزب العدالة والتنمية”، الأمر الذي ساهم في شيوع تحليل مفاده أن العقوبة المالية المذكورة إجراء ثأري من الحكومة لإسكات الأصوات المعارضة لها. صحيفة “نيويورك تايمس” الأميركية نفسها تبنّت هذا التحليل، على رغم عدم كونها طرفاً في الخلاف الداخلي التركي. هذه مناسبة لإلقاء نظرة على الصحافة التركية، وتحليل دورها في صوغ الرأي العام المحلي وانقسامها بين أقطاب الصراع السياسي الداخلي.
تصدر في تركيا أكثر من عشرين صحيفة سياسية يومية تبيع في مجموعها نحو مليونين وربع المليون من النسخ، في بلد يبلغ عدد سكانه نحو 75 مليوناً، يعيش قرابة نصفهم في المدن. وإذا كان الكتّاب والصحافيون الأتراك يشكون من تدني أرقام مبيعات الصحف، أي قلة عدد القراء، فلأنهم ينطلقون من مقارنة الأرقام الوطنية بنظائرها في أوروبا وأميركا. أما من منظورنا في الدول العربية، فهي تبدو لنا فوق سقف طموحاتنا بكثير. والحال أن الدور المتنامي للصحافة التركية في صوغ الرأي العام يشير أولاً إلى أنها مقروءة على نطاق واسع، وثانياً إلى هامش يتوسع باطراد من حرية التعبير، وثالثاً إلى ازدياد وزنها في الحياة العامة كسلطة رابعة يُحسب لها حساب.
الصحف الأكثر شعبية اليوم هي “هورّييت” (الحرية) و”زمان” (الزمان) و”بوستا” (البريد)، وتصدر الأولى والثالثة من مجموعة دوغان الإعلامية، أما الثانية فهي إسلامية الهوى يقال إن الداعية الإسلامي المعتدل فتح الله غولن يقف وراءها (يكتب فيها مقالة أسبوعية بانتظام في موضوعات أخلاقية ودينية بعيداً من السياسة). ويبلغ إصدار “هورييت” نحو 700 ألف نسخة، في حين اقترب إصدار “زمان”، في بعض الفترات في السنوات القليلة الماضية، من المليون نسخة. ويتداول العلمانيون الأتراك فكرة مفادها أن اسم الصحيفة الإسلامية لم يوضع اعتباطاً، فإذا قرأته بالمقلوب أعطاك كلمة “نماز” ومعناها في التركية الصلاة. وينطلق هؤلاء من هاجس مبدأ التقية الذي يعتقدون أن التيار الإسلامي يعمل به لإخفاء “أجندة سرية” يعمل عليها في الخفاء لتحويل تركيا إلى دولة إسلامية تطبَّق فيها الشريعة، الأمر الذي يمنح التيار العلماني تماسكه في مواجهة حكومة “حزب العدالة والتنمية”، منذ صعودها في عام 2002. وعلى رغم احترام الحكومة المعلن لمبدأ علمانية الدولة، ومعظم إجراءاتها يؤكد عملياً هذا الاحترام، فإن إجراءات أخرى وتصريحات لبعض كوادر “حزب العدالة والتنمية” القيادية تؤجج توجس العلمانيين، وتعزز إشاعة جو من التشاؤم بينهم، وتدفعهم إلى العمل بكل الوسائل لإضعافها وصولاً إلى إسقاطها. يجد التيار العلماني تمثيله السياسي في حزب الشعب الجمهوري بقيادة السياسي المخضرم دنيز بايكال، ولسان حاله في يومية “جمهورييت” (الجمهورية) التي أسسها، في عشرينات القرن الماضي، مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك. هذه الجريدة التي كانت لها كتلة واسعة من القراء في السبعينات، تدنت مبيعاتها إلى أرقام هزيلة جداً وباتت أقرب إلى أن تكون لسان حال النظام في عالم الصحافة المستقلة. والنظام هنا لا يعني الحكومة القائمة، بل يقف في مواجهتها دفاعاً عن مواقع اجتماعية تراجع وزنها في السنوات الأخيرة وباتت ترى قوتها السياسية في الجيش وقسم من بيروقراطية الدولة المدنية.
ثمة ظاهرة غريبة في الصحافة التركية هي ظاهرة كتّاب الزاوية أو العمود الصحافيين، ويعدّون بالمئات، ويشتري كثير من قراء الصحف صحيفتهم لمتابعة ما يكتبه كاتبهم المفضل. وقد تشكلت “طبقة” من الكتّاب باتوا “ماركات” يتمتعون بسلطة معنوية كبيرة ويتقاضون أجوراً ضخمة ومبالغ خيالية مقابل انتقالهم من صحيفة إلى أخرى، على رغم تفاوت أهمية ما يكتبون. فإذا كان البعض منهم يقدم تحليلات سياسية بارعة كجنكيز تشاندار في يومية “الراديكال” (مجموعة دوغان)، أو علي بيرم أوغلو في يومية “الشفق الجديد” أو حسن جمال في يومية “ميللييت”، فإن عائشة آرمان تستقطب جمهوراً كبيراً بعمودها اليومي في “هورييت” الذي تتناول فيه تجاربها العاطفية وأفكارها الفضائحية، وبنى بكير جوشكون شعبيته على لسانه الشتّام ضد مظاهر التأسلم في المجتمع، في حين شكلت علاقة كل من فكرت بيلا “ميللييت” ومراد يتكين (الراديكال) بهيئة قيادة أركان الجيش، مصدراً لخبطاتهما الصحافية، وبرع أرترغل أوزكوك، مدير تحرير “هورييت”، في تحويل أقل الأحداث أهمية خبراً يحتل صدارة صحيفته ويحرك الرأي العام حوله، فضلاً عن عموده اليومي الذي يستقطب الكتلة الكبرى من قراء الصحف التركية. أما العجوز اليساري تشيتين آلتان الذي منحته الدولة جائزة تقديرية أوائل السنة الجارية، فهو شيخ كتّاب الزاوية الصحافية اليومية بلا منازع. فقد برع في أسلوبه الرشيق حين كان عدد كتّاب هذا الفن يعدّون على الأصابع، واستلهم أورهان باموق شخصية جلال ساليك، بطل روايته “الكتاب الأسود” من الشيوعي السابق آلتان الذي كان أول نائب شيوعي يدخل البرلمان في الستينات. وهو يكتب عموده اليوم في جريدة “ميللييت” التي تراجع عدد قرائها، في السنوات الأخيرة إلى أرقام هزيلة، ويتناول فيه جميع الموضوعات التي يمكن أن تخطر في البال، من السياسة إلى الأدب إلى الاقتصاد والعلوم والنكتة. أما شامل طيار، مدير مكتب يومية “ستار” في العاصمة أنقرة، فقد تخصص، في العامين الأخيرين، في متابعة قضية شبكة أرغنكون الإنقلابية التي لها امتدادات قوية داخل الدولة بجناحيها العسكري والمدني، وكتب حولها كتاباً تسبب نشره في إقامة عدد من الدعاوى ضده أمام المحاكم، انتهت إحداها بالحكم عليه بالسجن سنة وثلاثة أشهر مع وقف التنفيذ المشروط. سوف يبقى طيار، وفقاً لهذا الحكم، لمدة خمس سنوات، تحت تهديد تنفيذ عقوبة الحبس إذا تطرق في كتاباته إلى موضوع الشبكة المذكورة وفضح أشخاصاً ضالعين فيها.
الظاهرة الجديدة في الصحافة التركية هي جريدة “طرف” (الطرف) التي يرأس تحريرها الكاتب الروائي أحمد آلتان ويكتب فيها عدد من ألمع المثقفين كمراد بلغة وإتيين محجوبيان وعائشة هور وخليل بركتاي ونابي ياغجي. بدأت بالصدور في خريف عام 2007، واستطاعت، في غضون سنتين، تحقيق نجاحات صحافية كبيرة هزّت أركان الوصاية العسكرية، بفضل معلومات ووثائق تم تسريبها إليها من مصادر داخل قيادة الأركان، وتعرضت الجريدة بسبب ذلك للمحاكمة في عدد كبير من الدعاوى القضائية. وفي أواخر شهر أيلول، نالت الصحيفة جائزة لايبزيغ الدولية للصحافة، في دورتها الثالثة، بعد الأميركي سيمور هيرش والروسية المغدورة آنا بوليتكوفسكايا.
تعاني الصحافة التركية من قيود ثقيلة. صحيح أن لا رقابة مسبقة على المطبوعات كما هي الحال في معظم الدول العربية، لكن الصحافيين يعملون في ظل سيف قضائي لا يرحم، قد يودي بهم في كل لحظة إلى السجن أو يبتزهم بغرامات مالية باهظة، أو ينتهي بوقف الصحيفة عن الصدور. وإذا كان بعض مموّلي الصحف يدفعون الغرامات المالية المفروضة على كتّابهم، فإن آخرين يفضّلون طرد الصحافي الذي يتسبب لهم بالمشكلات، فيحرم هذا من مصدر رزقه. ومن طرائف الأحداث في هذا المجال أن إحدى محاكم اسطنبول حكمت أخيراً على الكاتب في صحيفة “هورّييت” جنيد آرجة يورك بغرامة مالية كبيرة لصالح المدعي رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان، بسبب هجوم الأول على الثاني بعبارات مهينة في برنامج تلفزيوني بثّ العام الماضي.
واشتهر أردوغان نفسه بالانخراط في مساجلات حادة مع الصحافة المعارضة له، ومن أشهر سجالاته تلك التي ردّ فيها على الكاتب بكير جوشكون الذي كتب في عموده اليومي في صحيفة “هورييت”، صبيحة انتخاب عبد الله غل رئيساً للجمهورية، فقال يخاطبه: “لن تكون رئيسي!”، فردّ عليه أردوغان في اليوم التالي بالجملة التي ستجعل الرأي العام يثور ضده، فقال مخاطباً بكير جوشكون: “إن لم يعجبك فارحل حيثما تشاء!”.
سقطات أردوغان في تصريحاته المرتجلة كثيرة، إلى الحد الذي دفع بصديق شخصي له ونصير متحمس لسياساته كالكاتب فهمي كورو (صحيفة “الشفق الجديد” الإسلامية) إلى أن يقول عنه في برنامج تلفزيوني بثّ أواخر عام 2008، على الهواء: “لقد بدأ أردوغان كما باراك أوباما، وانتهى كما جورج بوش الابن!”. وفي اليوم التالي طالبه الصحافيون بالتعليق على كلام كورو، فقال ساخراً بلا حذر: “برافو! شاطر!…”، كما يقال للأطفال.
تنقسم الصحف التركية بصورة حادة بين التيارين العلماني والإسلامي، وحيثما ترى الناس يقرأون “جمهورييت” العلمانية، لن تجد قارئاً لـ”وقت” الإسلامية؛ وفي الأماكن التي يقرأ فيها الناس جريدة “زمان” لن تجد قراءً لـ”هورييت”، وهما تتنافسان على الكتلة العظمى من قراء الصحف اليومية. وعلى رغم اللون الإسلامي الواضح لـ”زمان” المنافحة عن سياسات الحكومة، فهي تنشر تحليلات رصينة لكتّاب لا ينتمون إلى التيار الإسلامي لكنهم يناهضون الوصاية العسكرية على الحياة السياسية، فيجدون في حكومة “حزب العدالة والتنمية” أهون الشرور. في حين أن منافستها العلمانية “هورييت” أقرب ما تكون إلى الصحافة الصفراء، وتفتقر إلى الرصانة الصحافية والمعايير المهنية. بيد أن زميلتها يومية “الراديكال” التي تصدر عن مجموعة دوغان نفسها، تتخذ خطاً أكثر صدقية بمزاوجتها بين علمانيتها المتشددة ومنافحتها عن القيم الديموقراطية معاً، فنرى في كادر كتّابها مقرّبين من العسكر كمراد يتكين ومحمد علي كشللي، ومناهضين ديموقراطيين للجيش كجنكيز تشاندار والروائية بيريهان ماغدن والمدافع عن حقوق الإنسان والأقليات باسكن أوران والباحث والناشر أحمد إنسل، يعزفون في الصحيفة نفسها على أنغام مختلفة. على رغم إصدارها المنخفض، تشكل “الراديكال” علامة ثقافية مميزة في الصحافة التركية، وخصوصاً بملاحقها الأسبوعية المتخصصة ذات السوية الرفيعة، كملحق الكتّاب وملحق “راديكال 2” وملحق السينما والملحق الثقافي ليوم السبت.
ظاهرة أخرى ذات دلالة، أن معظم الكتّاب من ذوي الشعبية الواسعة هم من أصول يسارية، كانوا طلاباً وناشطين متحمسين في الستينات والسبعينات، وانقسموا في التسعينات بين تيارين رئيسيين، أولهما يساري – قومي، يشدد على عنصر العلمانية، ويعوّض التراجع في قوته الاجتماعية بالوقوف، علناً أو بشكل مبطن، إلى جانب الجيش في مواجهة الحكومة التي يعدّها إسلامية وتابعة للغرب. والثاني ديموقراطي ليبيرالي يدعو إلى اندماج تركيا في العالم المعاصر من بوابة الاتحاد الأوروبي، ويدعو إلى تعميق الإصلاحات الديموقراطية، ويجد نفسه أقرب إلى الحكومة في مواجهة الوصاية العسكرية. وينقسم هذا التيار نفسه بين ديموقراطيين ليبيراليين هم “تيار الجمهورية الثانية” (الأخوان محمد وأحمد آلتان وإتيين محجوبيان وأثر كاراكاش وعلي بيرم أوغلو ومحمد بارلاس، فضلاً عن جنكيز تشاندار الذي يمثل فكره تركيباً من العثمانية الجديدة والجمهورية الثانية)، وليبيراليين يساريين (باسكن أوران وأحمد إنسل ومراد بلغة). أما اليساريون الذين اندفعوا نحو نوع من التطرف القومي – العلماني – العسكري، فإن أبرزهم أرتغرل أوزكوك وأمين تشولاشان والباحث الماركسي الشهير بتحليلاته الهذيانية حول هيمنة اليهود على الدولة والاقتصاد التركيين: يالتشن كوتشوك، وهو تركماني من أصل سوري، اشتهر أيضاً بصداقة جمعته مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، المحكوم بالسجن المؤبد في معتزله الشهير، سجن إيمرلي، وقد أجرى معه حواراً مطولاً في مقر إقامته في دمشق، تسعينات القرن الماضي، نشره في كتاب مستقل. لا ينتمي كوتشوك إلى حزب سياسي، ولكن له الكثير من التلامذة والمريدين بين الشباب اليساري المحبط بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، يروّجون لكتبه الكثيرة ويديرون موقعاً الكترونياً باسمه على الانترنت، ويظهر البروفسور كوتشوك في برنامج حواري على إحدى القنوات التلفزيونية الخاصة. ويحاكم كوتشوك، الذي سبق له واعتقل مرات عديدة في عهود الانقلابات العسكرية، بتهمة الانتماء إلى شبكة أرغنكون الإرهابية المتهمة بتهيئة الرأي العام لانقلاب عسكري من خلال أعمال إرهابية وإشاعة الفوضى والذعر.
في عودة إلى أول المقال، تزامن صدور العقوبة المالية الضخمة في حق مجموعة دوغان الإعلامية مع انتقال الكاتب بكير جوشكون الذي اشتهر بإهانة الناخبين الأتراك حين صوّتوا لـ”حزب العدالة والتنمية” بنسبة 47 في المئة، في الانتخابات العامة الأخيرة التي أجريت قبل عامين، من الصحيفة الأهم في المجموعة “هورييت” إلى صحيفة أخرى (الخبر التركي) لقاء مبلغ ضخم. خصوم جوشكون الكثيرون لم يفوّتوا الفرصة فشبّهوه بالجرذ الذي هو أول من يغادر السفينة الغارقة. شعبية جوشكون الواسعة بين القراء ظاهرة غريبة حقاً تشير إلى سوية هابطة لدى قسم مهم من قراء الصحافة في تركيا. فكتابات جوشكون تتسم عموماً بالتفاهة، كثيراً ما يلجأ إلى الحديث عن حياته الخاصة، عن كلبه والمطاعم الفاخرة التي يرتادها وما إلى ذلك، ولعل هذا النوع من الكتابات هو أفضل ما لديه، لأنه ما إن يتناول “موضوعاً” سياسياً حتى يبلغ درجات من الابتذال يكاد لا ينافسه عليها أحد. فهو الذي وصف المواطن التركي بعبارات من نوع “ذي الرأس البرميل” أو “الرجل الذي يحك بطنه”، وحديثاً هاجم المغنية الشهيرة سزن آكسو، محبوبة أجيال عديدة من الشباب التركي، لمناسبة إعلان دعمها المبادرة الحكومية لحل المشكلة الكردية، هجوماً خلا من أي فكرة ذات قيمة واقتصر على الإهانة الشخصية.
هذه لوحة موجزة لمشهد الصحافة التركية اليوم، بنجاحاتها وعثراتها، برصانتها وابتذالها، بتحديها لمراكز القوة والسلطة وفضائحيتها، بسجالاتها الحادة واستقطابها بين التيارات السياسية والفكرية. بيد أنها في جميع الأحوال حرفية وإن بشكل متفاوت، مقروءة بالقياس إلى صحافتنا، مستقلة ومتنوعة، ولا تعطل في العطلة الأسبوعية، تلاحقها المحاكم وتجني أرباحاً طائلة من الإعلانات والاستثمارات خارج ميدانها.
هذه المقالة دافعها الغيرة والحسد ¶
النهار الثقافي