قضية فلسطين

النكبة في عامها الستين.. وأفق تكريسها

null

د. محمد سيف

الحكم في سورية نموذجاً

بين امتداد سني النكبة بدون أفق خلاص وبين معظم أنظمتنا رباط متين، حبلٌ سريٌّ، مدّ النكبة بنسغ البقاء، بل والامتداد فوق مساحة التاريخ المعاصر والجغرافية، بحيث سرت مفاعيل النكبة إلى العراق ولبنان والصومال والسودان، ولا يعلم إلا الله إلى أين ستسري في ظلّ هذا الانغلاق، الذي سدّ منافذ النور على كثير من شعوبنا، وأغلق بوابات الخروج والخلاص دونها، وذلك باتباع سياسة (ما أريكم إلا ما أرى..).

لو أن حرفاً صادقاً تدحرج من فم حكم العائلة في سورية، لتغير لون النكبة من السواد إلى الرمادي على الأقلّ، لكن أحرفهم كلها كانت جامدة مخادعة مخاتلة، وكان أفقهم جمراً، أكل كل الصدق، الذي صال وجال في سورية،و تبنته روح الجلاء في السابع عشر من نيسان عام 1946، ومدّته بأسباب الحياة والفرح، ولم تكن تعكر صفوه إلا صدىً من نقيق ضفادع الانقلابات العابرة. إلى أن كان انقلاب الثامن من آذار عام 1963، الذي ركبه رأس العائلة الأسدية، مجهولة الهوية السورية والعربية، وكرسه حصاناً ملغوماً؛ ظاهره مزدحم بشعارات الخلاص البراقة، وباطنه محشوّ بمختلف الخطط المرسومة لبقاء الأسد حاكماً أبدياً لسورية، وذلك برسم طريق اختطته يدٌ أثيمة، أرادت لروح النكبة الفلسطينية ليس البقاء وحسب، بل والامتداد فوق الأرض العربية، لتلتهم المزيد من الأرض والعرض والكرامة. وكانت عملية التوريث، بعد أن هلك المؤسس، تكريساً جديداً للطريق المرسوم، يزيد في ظلمتها وظلمها عن الأولى بميزة (الغُشْم)، وهكذا قُتلت روح الجلاء، بمآثر خمسة وأربعين عاماً، هيمنت فيها العائلة الأسدية على سورية، فاختطفت من تضاريس وجهها كل ما كانت تخبئه في ثناياه من آفاق ارتيادٍ لمستقبل سوري، كان يحاول أهل سورية من خلاله بناءً شورياً ديموقراطياً، وإعماراً اقتصادياً واعداً، وانتماءً صادقاً للعروبة والإسلام، يفتحون بهذا كله.. ثغرات في جدار النكبة، يدخلون من خلالها إلى هدم الكيان الدخيل الذي حلّ في فلسطين، بينما العائلة عملت وتعمل على فتح بوابات للنكبة متنقلة فوق الأرض العربية؛ فهي لم تكتف باختطاف الحكم، بل هي عَدَتْ على الإنسان والقيم، وعلى الحياة والجذور، وعلى رصيد الوطن، تهب منه ما لا تملكه، فتبدده يمنة ويسرة، في سبيل بقائها، واستمرار استحواذها على كل شيء فوق الأرض وتحتها، لدرجة أن حكم العائلة غدا عبئاً ثقيلاً مقيتاً على سورية الوطن، وأهلها الصابرين المصابرين. فوجود هذه العائلة مشاركة في الحكم أو منفردة فيه، واستغراق هذا الوجود لثلاثة أرباع فترة الاستقلال حتى الآن.. أدى إلى خرق المتواضعات الاجتماعية والأخلاقية وقوانين العدالة السياسية والاقتصادية للمجتمع السوري، فضلاً عن تجميده حسّ المبادرة العالي لدى الإنسان السوري، هذا الحسّ الذي كان يقفز بسورية أيام الخمسينات من القرن الماضي قفزات شاسعة الأبعاد في مجال التمدن، إذ كانت تلك القفزات تشي للزمن بأن مستقبلاً واعداً ينتظر هذا البلد، ليكون مزاحماً فذاً في شتى المجالات؛ الديمقراطية منها والتقنية والسياسية، إلى أن كان انقلاب آذار الذي شاركت فيه العائلة الأسدية، ثم كان انقلاب شباط 1966 الذي عزز حضور العائلة في الحكم، لتصبح في الواجهة تماماً، ثم جاء انقلاب 16 تشرين الثاني 1970، الذي وضع العائلة في حالة استفراد بسورية وشعبها، استفراداً لم يكن له مثيل في اختراقه لحقوق الإنسان السوري؛ السياسية والحياتية والاقتصادية والأخلاقية والاجتماعية والمدنية، فقد توقف الزمن السوري هناك إن لم يتراجع. وتجاوزت ممارسات العائلة حقوق الشعب السوري، لتتعداه إلى حقوق الفلسطينيين بصورة خاصة، ثم حقوق اللبنانيين، إلى أن خلص الحكم العائلي إلى الاحتماء بالإيرانيين، مبتعداً بسورية عن العرب، فاتحاً أبواب شرٍّ عليهم، لا يمكن له إلا أن يتقلب بناره، ويتلظى بجمره في نهاية المطاف.

وإذا كان بوش الأمريكي غير المسبوق برعونته وانحيازه الكامل إلى صف الصهاينة، قد قال في كلمته أمام (الكنيست الصهيوني) بمناسبة مرور ستين عاماً على شريط النكبة الفلسطينية- العربية المتجدد: “(مسّادا) لن تسقط مرة أخرى وسنكون بجانبكم”. ومسادا لمن لا يعرفها هي موقع فلسطيني قريب من البحر الميت، يقوم على تلة هناك، حاصر فيه الرومان أكثر من ألف يهودي، اعتصموا داخل قلعة، منذ أكثر من تسعة عشر قرناً، وأبوا الاستسلام للرومان وفضلوا الانتحار الجماعي عليه، وهو “بوش” يعني بكلامه هذا تشجيع يهود العصر في فلسطين على المضي في الاستيلاء على الأرض الفلسطينية وعدم التنازل عن اغتصابها، وأن أمريكا تقف حارسة لهذا الظلم الفاضح، المفتئت على كل قواعد العدل، وعلى كل مقررات المجتمع الدولي، كما تقف مكرسة شريط النكبة.

نقول: إذا كان هذا موقف بوش الأمريكي، وهذا انحيازه، ورعونة توجهه، فلماذا يحرص بشار وريث أبيه الأسد الأب على أن تكون صلاته ومحادثاته ورسائله السرية مع دولة الاغتصاب الصهيونية، والحلول التي يديرها مع هؤلاء سراً مارة من خلال الإدارة الأمريكية، واضعاً على واجهة تقدماته شعار الخيار الأوحد: (السلام خيار استراتيجي) بتوقيع ممهور بأربعة وثلاثين عاماً من الصمت المشبوه على وجود يهود في الجولان السوري، دون أن يعكر صفوهم ولو بكلمة قوية.. حتى لا نقول رصاصة. في حين أنه يتزيّا بزي الممانعة الباهت، ليصدقه السذّج أو الذين (يطيشون على شبر ماء دعائي إعلاني خادع).

ومثلما يتهافت العديد من العرب دون أن تكون لهم حاجة لهذا التهافت (ولكنه زمن الصَّغار) باتجاه دولة الصهاينة، مع بعدهم عن حدودها، وذلك لتكون لهم سبيلاً إلى قلب حكام أمريكا ورئيس إدارتها.. فإن العائلة الحاكمة في دمشق، تشكل نموذجاً بائساً في هذا السياق، ولكنه نموذج لا يدَّعيه أحد غير هذه العائلة؛ إذ أن تهافتها غير المسبوق وغير المقبول لدى الشعب السوري، تمهره -رغم استسلامه- بخاتم التلاعب بالألفاظ، وخبث الشعارات والمصطلحات، من مثل الصمود والتصدي والممانعة والتحدي، ومن مثل عدم التنازل عن عدة أمتار على شاطئ بحيرة طبريا، ومن مثل التمسك بوديعة رابين لدى الرئيس الأمريكي السابق (كلينتون). إلى آخر تلك الخدع اللفظية غير المجدية في وقف فضيحة هذه العائلة سياسياً وإدارياً، التي عملت وتعمل منذ وجودها على تكريس النكبة، بل وامتدادها الذي برز في أكثر من محطة على مدى الأربعة عقود ونيف الماضية. وفي هذه العجالة، قد يتاح لنا في المساحة، لنتوقف ولو بسرعة عند بعض هذه المحطات، التي عمل عليها الحاكمون في دمشق منذ وجدوا، لتكريس النكبة الفلسطينية، المتعدية إلى العربية، إن لم نقل الإسلامية أيضاً.

1- إعلان حالة الطوارئ في سورية منذ آذار 1963 وحتى اليوم.. والقيام في ظلّ هذا القانون بإلغاء الحياة السياسية والحزبية، وبمصادرة الحريات، وبقمع حقوق الإنسان وأولها حق الحياة وآخرها حق التعبير، مروراً بحق السفر والتنقل وحق العمل والتملك، وارجع إلى تقارير حقوق الإنسان الدولية والمحلية لترى أن ما نقوله بحق الحاكم في دمشق هو أقل القليل في هذا السياق.

2- تحطيم الاقتصاد السوري، تحطيماً أدى بالليرة السورية إلى أن تفقد كل قواها.. فبعد أن كانت أغلى من الريال السعودي والليرة اللبنانية أيام عزها، ومن أكثر العملات قوةً في المنطقة، أصبحت هذه الليرة تلهث وراء كل العملات مثقلة بالظلم والتضخم والبطالة، ونهب ثروة البلد من قبل 5% من المحسوبين على الحاكمين، الذين أصبحوا يمتلكون 90% من موجودات الوطن المنقولة وغير المنقولة، مما أدى إلى وصول نصف الشعب السوري إلى ما تحت خط الفقر بحسب أصدق الإحصائيات.

3- تعبئة الجيش بالشحن الطائفي، والوصول به إلى حالة التعويم في سوق المحسوبيات والفساد وإبعاد الكفاءات والإبقاء على الولاءات، بحيث تحول هذا الجيش في لبنان وفي سوريا إلى مؤسسة يقودها الفاسدون الموالون غير الأكفياء من الضباط المحسوبين على طائفة معينة؛ إذ قال اللواء عبد الرحمن خليفاوي رئيس وزراء سوريا في فترة السبعينات من القرن الماضي: إن سبعين بالمئة من الضباط الفئويين غير الأكفياء يسيطرون على مقدرات الجيش السوري.

4- العمل على شرذمة الصف الفلسطيني، وتقسيمه بين موالٍ له أجبرته أسباب قد نصفها بالموضوعية أحياناً، ولكنها في الغالب شرذمة تبتغي تحطيم هذا الصف وإضعافه، وجعله شراذم تعمل من خلال (أجندات) الآخرين. جاء في تقرير للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين نيسان 1971م: (( حرب الإبادة ضد المقاومة الشرط الوحيد الذي يمكن أن يقبل به العدو لتنفيذ مشاريع الولايات المتحدة، أو مشاريع التسوية الأمريكية… ومنذ ذلك الوقت كان الوضع قابلاً لافتراض إيجاد أداة تقوم بالتنفيذ، وتكون متسترة بالشعارات الثورية والوطنية.)) وهو يعني حكم أسد.

5- شرذمة الصف اللبناني، وتحويله إلى فصائل يصطف كثير منها معه، لأسباب شخصانية أنانية أو طائفية مقيتة مدمرة.

6- التحريض على حروب اصطف فيها إلى جانب (أجندات) الآخر الصهيوني عام 1967، حيث سلّم الجولان بدون حرب ليهود ثم صمت على استرداده كل الوقت، كما اصطف إلى جانب الآخر الغربي في حروب الخليج كلها، وكل ذلك لتفريغ المنطقة من كل قوة تحاول الوقوف على رجليها في سبيل استعادة الحقوق أو الحفاظ على الأوطان وقوتها في كل من فلسطين والعراق، يقول سامي الجندي في كتابه كسرة خبز: (( لم أُخف أبداً أن الحكم في سوريا يُعِد لهزيمة لا لاسترداد فلسطين)).

وأنت ترى بكل وضوح أن كل هذه المحطات التي تدعمها الوثائق والتواريخ، التي لا تتسع لإيرادها هذه المساحة الضيقة من القول، والتي يمكن الرجوع إلى مظانها في الصحف والكتب الموثقة، وقد أتينا على ذكرها في مساحات قول سابقة.. نقول: إنك ترى عزيزي القارئ أن هذه المحطات كلها التي ذكرنا، والتي لم ذكرناها تخدم أجندة كبيرة واحدة، هي تحطيم كل شيء في سورية وفي المنطقة من أجل أن يتكرس شريط النكبة على يد الحاكمين في دمشق، ولتمتد مفاعيل الشريط إلى العراق ولبنان، ليثبت هؤلاء أقدامهم في حكم سوريا والهيمنة على الإقليم متعاونين مع صانعي النكبة.

ونرجو ونضرع إلى الله أن لا يلحق ببلدنا الحبيب من هذا لشريط شيءٌ، بفضل جهد المخلصين من الشعب والمعارضة الراشدة، الذين يقفون على شاطئ الجراح، متحفزين للحظة المناسبة لتخليص سورية من بين براثن المافيا الحاكمة مرة واحدة وإلى الأبد، ولتكون سورية بعد ذلك بين يدي أبنائها ولكل أبنائها، عاملة من أجل مستقبل زاهر موحد لأمتنا.. وليس ذلك على الله ببعيد، ثم ليس هو بكبير على أحفاد المجاهدين الذين صنعوا الجلاء الواضح المنير

المركز الإعلامي لجماعة الأخوان المسلمين في سورية

الأحد 18 أيار 2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى