من نقد النكبة إلى نقد أسباب استمرارها
ماجد كيالي
طوال العقود الستة الماضية شكل التفكير في النكبة موضوعا حيويا للفكر السياسي العربي الذي حاول من خلال ما تمثله هذه المناسبة في تاريخ العرب المعاصر، إعادة قراءة التاريخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي للمنطقة قراءة نقدية، تحاول الإجابة على التساؤلات المطروحة، من نوع لماذا هزم المشروع التحرري النهضوي العربي؟ ولماذا انتصر المشروع الصهيوني؟
وبالطبع فإن بعض التساؤلات تجاوزت سؤال الهزيمة إلى السؤال عن معنى استمرار الواقع الذي أنتج الهزيمة، ولكن معظم الإجابات لم تستطع الإحاطة بمعنى النكبة، لاسيما استمرار واقعها.
وحسب إلياس صنبر لا يكاد يوجد أي عمل نقدي من الناحية العربية، عن هذا الحدث الهائل الذي لا يزال يهز بتأثيراته العالم العربي عامة والفلسطيني خاصة.
أما عزمي بشارة فيرى أن سؤال “لماذا” التاريخي لا إجابة شافية عنه، وهو يرى أنه من الأفضل التركيز على أسئلة مثل: “ماذا علينا أن نفعل؟ وكيف نتقدم نحو الهدف المحدد؟“
وهكذا فبعد مرور أكثر من قرن على قيام الحركة الصهيونية، وأكثر من نصف قرن على نجاح هذه الحركة في إقامة دولتها، ما زال موضوع النكبة موضع جدل لدى المهتمين والمؤرخين.
فثمة من يرجح دور العوامل الخارجية، ويؤكد على دور العامل الذاتي لليهود وحركتهم الصهيونية، وبالمقابل ثمة من يحيل ذلك على هشاشة الوضع العربي آنذاك، كما أن ثمة من يفسر ذلك بهذه العوامل كلها.
ومن ناحية ثانية استمرأ بعض المفكرين العرب الحديث عن المؤامرة، ودور العامل الخارجي، كما استمرأ بعضهم الحديث عن الفرص الضائعة، ولكن قلة منهم خالفوا هذين التفسيرين، متحدثين عن النكبة بمعناها الحقيقي والشامل، بتعريتهم العوامل الذاتية الداخلية التي أدت إلى النكبة، ومن ثم إلى استفحالها واستمرارها.
ومن ضمن تلك العوامل تخلف البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية العربية، وضعف البنى المؤسسية، وغياب أو تغييب دور القوى الاجتماعية في مواجهة مجتمع حديث، يعتبر جزءا من الغرب وامتدادا له، بكل ما يعنيه ذلك من معنى، وبما يمثله من قيمة مضافة بالنسبة إلى إسرائيل، كما فعل قسطنطين زريق ووليد الخالدي.
العامل الخارجي وإقامة الكيان الصهيوني
وفي الواقع فإنه منذ قيام الحركة الصهيونية توفّرت لها مجموعة من العوامل الموضوعية التي مكنتها من تحقيق مشروعها.
وفي الأساس فإن الحركة الصهيونية أقامت دولتها بالاعتماد على وسائل الاستيطان والقوة العسكرية، وبفضل الاعتماد على دعم القوى الاستعمارية، خاصة بريطانيا ثم الولايات المتحدة الأميركية.
ومن الصعب تصور إمكانية نجاح هذه الحركة في تحقيق أهدافها، بمعزل عن الدعم الذي تلقته من الدول الكبرى المهيمنة في العالم، التي كان لها في الأصل دور كبير في قيام هذه الحركة وتطورها، والتي رأت في قيام هذه الدولة مصلحة خاصة لها في سياستها تجاه هذه المنطقة.
بالنسبة للعوامل الخارجية فقد مكنت بريطانيا، وهي الدولة المنتدبة على فلسطين، الحركة الصهيونية من ترسيخ أقدامها في هذا البلد، إذ منحت لتلك الحركة الممثلة بالوكالة اليهودية مكانة سياسية، شكلت البرعم الأول للدولة الإسرائيلية، في حين أنها حالت دون تمثيل الفلسطينيين السياسي.
كما منحت بريطانيا الأراضي الخصبة لهذه الوكالة، وقدمت الحماية والرعاية للتجمعات الاستيطانية، ونمّت ودرّبت الألوية العسكرية الأولى لهذه الحركة في إطار جيشها.
وقد قامت بريطانيا بدور كبير في ضرب الحركة الوطنية الفلسطينية وإجهاض دورها، سواء بالنسبة لاستنهاض الشعب الفلسطيني، أو في مواجهة الاستيطان الصهيوني.
وينقل وليد الخالدي في محاولاته الهامة لإعادة كتابة تاريخ النكبة، عن محمد عزة دروزة رصده لخسائر الفلسطينيين في النصف الثاني من عقد الثلاثينيات على يد الجيش البريطاني، حيث يقول: “بلغ عدد المعتقلين خمسين ألفا وعدد الشهداء سبعة آلاف وعدد الجرحى عشرين ألفا وعدد البيوت المنسوفة ألفين“.
وحسب الخالدي فقد “بلغ عدد الأسلحة المصادرة من الفلسطينيين خلال الفترة 1936-1940، حسب المصادرة الرسمية البريطانية: 6371 بندقية و3220 مسدسا و1812 قنبلة و425 بندقية صيد“.
وعلى صعيد الدعم المالي يقدّر الباحث أحمد السيد النجار، مجموع المساعدات التي وصلت إلى إسرائيل منذ قيامها، بحوالي 180 مليار دولار أي 450 مليار دولار بأسعار الوقت الراهن، حيث يقدر المساعدات الأميركية لإسرائيل بحوالي 66588 مليار دولار، والمساعدات الألمانية بحوالي 60 مليار دولار، في حين بلغت أموال الجباية اليهودية الموحدة حوالي 19368 مليار دولار.
وبالطبع فقد استفادت إسرائيل، من الناحية الاقتصادية، كثيرا من استيلائها على أراضي فلسطين وأملاك الفلسطينيين، والبنى التحتية والمنشآت والمياه.
وفي تقدير سامي هداوي فإن قيمة الأملاك التي سلبتها إسرائيل بلغت حوالي 743 مليون جنيه إسترليني (بأسعار عام 1948)، وهذا المبلغ يساوي، حسب الباحث سلمان أبي ستة، 130 مليار دولار (بأسعار عام 1993).
وإلى جانب الدعم السياسي والمالي والأمني والتكنولوجي الذي تلقته إسرائيل، من الدول الكبرى، فإن للوضع العربي نصيبه في تحمل مسؤولية قيام هذه الدولة. ويمكن من ملاحظة الاستعداد العسكري للتجمع اليهودي في فلسطين قبل النكبة، ومستوى الاستعداد العربي، ملاحظة الفارق الهائل في استعداد الجانبين.
لقد قاتل عرب فلسطين بمساعدة جيش الإنقاذ غير النظامي (الذي كان يبلغ نحو5000 جندي)، لغاية آخر مارس/آذار 1948، بالإضافة إلى عدة آلاف من المجاهدين الفلسطينيين والعرب الذين حد مستوى تدريبهم وقلة تسلحهم وضعف إمكانياتهم من مستوى أدائهم.
أما بالنسبة للجيوش العربية فإن الدول العربية المستقلة حديثا، وبحكم أوضاعها السياسية لم تستطع سوى حشد بضع عشرات الألوف في كتائب عسكرية غير مترابطة، ولا تخضع لقيادة سياسية أو عسكرية واحدة، علما بأن هذه القوة (حوالي 60 ألفا) لا تزيد عن القوة التي حشدها التجمع الاستيطاني اليهودي الذي يقدر عدده بحوالي 600 ألف! مع الفارق في التسليح والإمكانيات وفي الأساس في الإرادة السياسية ووحدة القيادة.
ولم يكن الوضع العربي دون مستوى المواجهة العسكرية فقط، بل كان دون مستوى التحدي الجديد، من نواح عديدة.
فمثلا إذا أخذنا قضية الهجرة اليهودية من البلدان العربية، يمكننا معرفة مدى قصور الوضع العربي، إذ هاجر إلى فلسطين في ظل الانتداب البريطاني حوالي 483 ألف مهاجر/مستوطن، ما بين 8 و10% منهم فقط من يهود البلدان العربية.
وقدر مجموع المهاجرين اليهود إلى إسرائيل بعد قيامها، فيما بين 1948 و1993 بحوالي2.3 مليون منهم 687 ألف مهاجر في الأعوام الثلاثة الأولى لقيام إسرائيل مما أدى إلى مضاعفة عدد اليهود فيها، وكان 50% من مصادر هذه الهجرة من البلدان العربية!
أيضا شكلت ممانعة النظام العربي لقيام كيان فلسطيني على باقي الأراضي الفلسطينية (الضفة والقطاع) التي أفلتت من الاغتصاب الصهيوني عاملا من عوامل تثبيت شرعية إسرائيل، بمساهمتها في تغييب الهوية الفلسطينية في مواجهة إسرائيل وتبريراتها الصهيونية.
ولا شك أن الحيلولة دون قيام تمثيل سياسي للفلسطينيين أضعف من قدراتهم، وشكل نجاحا للحركة الصهيونية.
إضافة إلى ذلك فإن ضعف الإرادة السياسية في المواجهة وتدني مستوى التضامن العربي، في مواجهة مجمل الاستحقاقات الناشئة عن وجود إسرائيل، ساهم بدوره في استقرار إسرائيل وتطورها وتعقد المشكلة الناجمة عن قيامها في مختلف المجالات.
العامل الذاتي وقيام إسرائيل
إن القراءة السابقة لا تعني التقليل من أهمية العامل الذاتي في قيام الدولة الصهيونية، وتدعيم مصادر شرعيتها وتطورها فيما بعد، ولكنها تعني أنه لولا ضعف مستوى المواجهة العربية لأسباب ذاتية وموضوعية، ولولا دعم الدول الكبرى لما تمكنت هذه الحركة من تأمين هجرة اليهود إلى فلسطين والاستيطان فيها، ولا من تأمين كل وسائل القوة للتغلب على المقاومة الفلسطينية والعربية، ولما استطاعت إسرائيل فيما بعد تأمين إمكانيات استمرارها وتطورها من النواحي السياسية والاقتصادية والأمنية.
وهذا يعني أيضا أن إسرائيل لم تنشأ نتيجة للتطور المجتمعي والاقتصادي والثقافي والسياسي للتجمع اليهودي في فلسطين، وإنما نشأت نتيجة تضافر عدد من العوامل الذاتية والموضوعية الداخلية والخارجية التي سمحت بقيام هذه الدولة حينها.
وبالطبع فإن إسرائيل لم تستكن للدعم الخارجي، بل عملت على استثماره بأفضل ما يمكن، وقد ساعدت على ذلك طبيعة نظامها المؤسسي، والمستوى المتقدم من التعددية والتنوع السياسي والثقافي المدعوم بحياة ديمقراطية.
كما ساعدت على ذلك إدارة إسرائيل الحديثة لمختلف أنشطتها المجتمعية والاقتصادية، ويكفي أن نعلم أن إسرائيل تنفق حوالي 3% من دخلها القومي الذي بات يبلغ حوالي 150 مليار دولار للبحث والتطوير العلمي، في بلد تعداده حوالي ستة ملايين نسمة، في حين ينفق العام العربي على هذا الأمر أقل من 1% من ناتجه القومي البالغ 600 مليار دولار لحوالي 260 مليون نسمة!
من أجل تفكير يتجاوز النكبة
وهكذا فإن النكبة في الواقع أكبر وأشمل من ذلك، وهي في أحد جوانبها حجز للتطور التاريخي الطبيعي للمنطقة العربية في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والمجتمعية، مما يجعل منها واقعا معيشا يعيد إنتاج نفسه بأشكال متعددة، ولكن ليس بفعل وجود إسرائيل فقط، وإنما بفعل العوامل الداخلية في الواقع العربي التي “تتواطأ” بشكل مباشر أو غير مباشر، مقصود أو غير مقصود، مع واقع الوجود الإسرائيلي.
ولكن الواقع العربي المراوغ يحاول التورية على كل هذه الحقائق وتبرير ذاته، أي تبرير تكلسه، وبالأحرى تبرير إعاقته لعمليات التغيير والتجديد، بالوجود الإسرائيلي، حيث يحيل كل التوترات إلى هذا الوجود.
وهذا يعني أن الواقع العربي فضلا عن الواقع الدولي، ساهم في إعادة إنتاج النكبة، بمساهمته في استمرار إنتاج مفاعيلها.
وعليه فإن أسئلة النكبة تدين باستمرارها، للجمود في الوضع العربي ذاته، لارتهان إرادته، وتشتت قواه، وضعف استعداده لمواجهة التجليات الجديدة للمشروع الصهيوني، في هذه المرحلة من مراحل تطوره.
ولعل الإجابة عن أسئلة النكبة المستمرة، تشمل حل الاستعصاء المزمن في الأوضاع العربية، وفتح آفاق التطور في المجالات الاجتماعية والمعرفية والاقتصادية وصولا إلى المجالات السياسية، على قاعدة الشرعية والمشاركة والديمقراطية.
وعلى ما يفعله العرب أو ما لا يفعلونه يتوقف إلى حد كبير استمرار أو وقف مسار النكبة في الواقع العربي، كما يتوقف على ذلك أيضا مستقبل المنطقة وشكل خريطتها السياسية والاقتصادية والأمنية في المرحلة المقبلة.
__________________
كاتب فلسطيني
الجزيرة نت