تناقضات جبهة مواجهة إيران
مصطفى اللباد
استقطبت الجولة الأولى من المفاوضات بين إيران والدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن زائدة ألمانيا والتي انعقدت بمدينة جنيف السويسرية للبحث في ملف إيران النووي، الاهتمام الدولي والإقليمي إلى حد كبير. وساهمت الأجواء الإيجابية التي تولدت عقب المفاوضات في إطلاق تكهنات في اتجاهات متضاربة، فمن قائل إن إيران “قدمت تنازلات أساسية” الى من يعتبر أن مجرد بدء المفاوضات هو “انتصار لإيران”. وكلا التوصيفين يحتاج إلى بعض التمهل والكثير من العمق. ستحتاج المفاوضات إلى المزيد من الجهد والوقت للوصول إلى نتيجة محددة، ولسنا بأي حال في مرحلة “بداية النهاية” كما يتردد في بعض وسائل الإعلام، بل ربما يكون التوصيف الأقرب إلى الدقة هو أن المفاوضات هي “نهاية البداية”. شكّل الملف النووي الإيراني والطموحات الإقليمية لطهران ثنائية مترابطة عضوياً وموضوعياً، وكانا سوياً العلامة الأبرز على الحراك السياسي في المنطقة خلال السنوات الماضية. وصل الملف النووي الإيراني إلى اجتماعات جنيف بعد طريق طويل من التفاوض وصراع الإرادات بين طهران وواشنطن، وبين الأخيرة وموسكو مع الأخذ في الاعتبار – حتى ولو جزئياً – مصالح وميول الدول الخمس الدائمة العضوية زائدة ألمانيا.
يقود التشابك في مصالح دول (5+1) والتضارب في ما بينها إلى انعكاسات على الملف النووي الإيراني، وهو ما كان حاضراً في المفاوضات من تحت الطاولة وليس فوقها. وإذ تشترك الدول الست جميعها في خاصة وحيدة وهي أنها جميعاً لا تحبذ إيران نووية، فإنها في الأسقف الأدنى من ذلك تعرف خلافات عميقة حول الطرائق المقبولة لحل أزمة الملف النووي وحدود الأثمان الواجب دفعها لطهران، وهي الخلافات التي لا يمكن جسرها بتصريحات ديبلوماسية أو بإشارات بروتوكولية. في هذا السياق ربما يكون مفيداً تقليب النظر في شكل طاولة المفاوضات بالمعنى السياسي لا بالمعني البصري، لإلقاء المزيد من الضوء على أهداف كل طرف والسيناريوات المحتملة لسير المفاوضات. تابع المشاهدون عبر وسائل الإعلام البصرية تلك الصورة التي تكررت في نشرات الأخبار المتلفزة: الوفد الإيراني برئاسة سكرتير مجلس الأمن القومي الإيراني سعيد جليلي يجلس مبتسماً وقبالته على الناحية الأخرى من الطاولة جلس ممثلو الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن: أميركا وروسيا والصين وإنكلترا وفرنسا ومعهم ألمانيا بالإضافة إلى خافيير سولانا منسق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي. بدت طاولة المفاوضات شديدة اللمعان وهي تعكس أضواء الثريات المبهرة فوق رؤوس المتفاوضين، وعلى سطح الطاولة انتشرت باقات الزهور وأكواب المياه، وجالت عدسات التصوير لأقل من دقيقة على غرفة المفاوضات قبل أن تنسحب تاركة المجال للمفاوضات التي طال انتظارها في حين انشغل العالم خارج الغرفة بالتحليل والتكهنات.
بدت طاولة المفاوضات في جنيف مستطيلة يجلس عليها طرفان – خصمان بالمعنى الفيزيقي، ولكن بمعنى المصالح السياسية لم تكن الطاولة كذلك. ربما يجب النظر إلى طاولة المفاوضات في جنيف بشكل آخر تماماً لا يظهر في الصور الفيزيقية، بل في الفضاء المتخيل والواقع بين المصالح الوطنية لكل طرف من أطراف التفاوض. بمعنى آخر إيران لم تكن جالسة وحدها في جانب والأطراف الست المفاوضة في جانب أخر، بل أن تحليل مصالح كل طرف يجعل طاولة المفاوضات تخرج بشكل مغاير. تتبنى الصين مواقف إيران في ملفها النووي وتعارض أية ضربات عسكرية لها، لأن الصين الدولة الصناعية العظمى تحصل على 14% من وارداتها النفطية من إيران، كما تستثمر هناك عشرات المليارات في مشروعات الطاقة، وبالتالي بقاء النظام الإيراني الحالي يدخل في صميم اعتبارات الأمن القومي الصيني. ربما لا تؤيد الصين امتلاك إيران لأسلحة نووية ولكنها تعارض الضربة العسكرية أو عقوبات اقتصادية مرتفعة السقف عليها. صحيح أن بيجينغ لن تتواجه مع واشنطن عسكرياً من أجل إيران، ولكنها ستفعل كل ما بوسعها لكي تكبح الاندفاع الأميركي المعادي لها.
هنا تتبدل الأماكن فعلياً ليجلس ممثلو الصين إلى جوار إيران على طاولة المفاوضات بمعنى المصالح.
من ناحيتها تعتبر روسيا الغطاء الدولي لإيران، ولها فيها مصالح جيوبوليتيكية واقتصادية واسعة وهي مورد التكنولوجيا النووية الأول لطهران. وإيران تؤمن لروسيا الإطلالة الوحيدة على الخليج بموارده النفطية والغازية الضخمة، وهي شريكها في القوقاز وآسيا الوسطى، وهي قبل كل شيء الورقة الممتازة بيد روسيا للتأثير في حسابات وقرارات واشنطن في ما يخص الفضاء السوفياتي وحدود التداخل في الأدوار والمساحات بين روسيا وأميركا.
تصرفت روسيا دوماً في الملف النووي الإيراني باعتباره الأداة الممتازة بيدها لموازنة الضغوط الأميركية عليها في جورجيا وأوكرانيا، ولذلك فهي داعمة لإيران في برنامجها النووي ومعارضة لضربها عسكرياً وبيدها مفاتيح خرق العقوبات الدولية المرتقبة على إيران. ستفقد روسيا الورقة الإيرانية المهمة من باقة أوراقها في حالتين فقط هما: تغيير النظام الإيراني بالقوة العسكرية أو وصول طهران وواشنطن إلى اتفاق يتناول الملف النووي والدور الإقليمي لإيران، فقط في هاتين الحالتين ستخسر موسكو ورقتها الرابحة. هنا تختلف موسكو عن بيجينغ إذ كلتاهما تجلس على طاولة المفاوضات – عملياً – إلى جانب طهران في مواجهة واشنطن، ولكن دعم موسكو لطهران يتوقف عند حدود مرسومة سلفاً في فضاء المصالح الوطنية الروسية؛ ولذلك فالمكان الأقرب إلى الدقة لجلوس روسيا هو إلى الحافة القصيرة للطاولة في الوسط بين الطرفين المتقابلين. على هذا الأساس فالتحليل السياسي يقول إن طهران تجلس إلى جوار بيجينغ في مقابل واشنطن ولندن وباريس وبرلين، في حين تجلس روسيا على مسافة من الطرفين الأساسيين ولكن بالطبع أقرب إلى إيران في هذه اللحظة. يبدو ضرورياً في هذا السياق ملاحظة أن ممثل روسيا على طاولة المفاوضات كان نائب وزير الخارجية سيرجي ريابكوف الذي زار إيران ثلاث مرات ولكنه في الأساس خبير في القضايا الأميركية وليس الإيرانية. وشارك ريابكوف في مفاوضات متنوعة بين موسكو وواشنطن على أمور حساسة لروسيا ومصالحها الوطنية العليا مثل موضوع تقليص الأسلحة الإستراتيجية في أوروبا. وهنا يؤكد التمثيل الروسي في المفاوضات حقيقة أن المفاوضات حول الملف النووي الإيراني هي في أحد أبعادها صراع إرادات بين روسيا وأميركا أيضاً.
تتأكد فرضية البعد الكوني في الصراع على الملف النووي الإيراني عند ملاحظة التمثيل الأميركي في المفاوضات، حيث قام نائب وزير الخارجية الأميركي وليم بيرنز بتمثيل بلاده في جولة المفاوضات الأخيرة. واللافت هنا أن بيرنز ليس خبيراً في إيران أو خدم فيها سابقاً، ولكنه عمل سفيراً لبلاده في موسكو خلال الأعوام 2005-2008. هنا يقول التمثيل الأميركي إن واشنطن أيضاً ترى المفاوضات في العمق مفاوضات أميركية-روسية، وإن اصطفاف مواقع الجلوس الفيزيقية لا يعني بأية حال تطابقا مع مواقع المصالح الوطنية، التي لها ترتيبات أخرى. يصب التمثيل الأوروبي في فرضية البعد الأميركي- الروسي الواضح للمفاوضات، لأن القارة الأوروبية تمثلت تمثيلاً مزدوجاً، حيث قام مديرو الإدارات في وزارات الخارجية الفرنسية والإنكليزية والألمانية بتمثيل بلادهم، ولكن بوجود خافيير سولانا المسؤول عن السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي على طاولة المفاوضات. يعني التمثيل الأوروبي المنخفض نسبياً أن زمام المبادرة التفاوضية الأوروبية منعقد بيد خافيير سولانا، السكرتير العام السابق للحلف الاطلسي والحليف المقرب إلى واشنطن. يمكن تشبيه طاولة المفاوضات بأن إيران لا تجلس مقابل الدول الست، ولكنها تجلس إلى جوار الصين وإلى يمينها تجلس روسيا وإلى طرف الطاولة الآخر مقابل إيران تجلس أميركا وإلى جوارها إنكلترا وفرنسا وألمانيا حسب ترتيب القرب من الموقف الأميركي.
تتفق الدول الغربية المفاوضة (أميركا وانكلترا وفرنسا وألمانيا) حول خطوط عريضة للملف النووي الإيراني، ولكنها تعود لتختلف في التفاصيل حيث تميل الدول الأوروبية الى عدم تحبيذ استخدام القوة العسكرية في معالجة الصراع، وربما أيضاً تميل إلى عدم فرض عقوبات تعجيزية على إيران حرصاً على مصالحها هناك. وفي هذا السياق حصة ألمانيا الكبيرة نسبياً في التجارة الخارجية الإيرانية تجعلها من حمائم المعسكر الغربي مقارنة مع واشنطن أو انكلترا التي تحتفظ بعلاقات تاريخية سلبية مع إيران. أما فرنسا التي تولت تقليدياً القيام بمشروعات “البرستيج” في إيران مثل مترو الأنفاق ستبدو مهتمة بالتوفيق بين تحالفها مع واشنطن وميل رئيسها ساركوزي إلى الحلول محل بريطانيا كحليف أوروبي أول لواشنطن. لذلك ومع اصطفاف التحالف الأطلسي في مواجهة إيران على الطاولة ستبدو التناقضات واضحة كلما طالت المفاوضات وتبلور اتجاهها، خصوصاً في حال تم التفكير بفرض عقوبات اقتصادية عنيفة أو القيام بعمليات عسكرية. في البداية ومع الجلسات الافتتاحية والأجواء التفاؤلية ستتوارى الاختلافات في المصالح وراء الأضواء والابتسامات، ولكنها ستعود للظهور على الأرجح مع وضوح خط سير المفاوضات.
حصلت إيران على مكاسب عدة من الجولة الأولى: الأول أن موضوع توقيف التخصيب قبل المفاوضات أصبح غير مطروح على الطاولة، والثاني أنه لا يمكن أخلاقياً ومنطقياً أن تقوم الولايات المتحدة الأميركية بتوجيه ضربات عسكرية إلى إيران طوال فترة المفاوضات، أما المكسب الثالث لإيران فيتمثل في تحسين صورتها الدولية. في هذا السياق تنبغي ملاحظة زيارة وزير الخارجية الإيراني منوشهر متكي إلى نيويورك والانتقال منها بتأشيرة أميركية إلى واشنطن لتفقد مكتب رعاية المصالح الإيرانية في سفارة باكستان لدى واشنطن، والهدف طبعاً ليس تفقد الكراسي والطاولات ولكن تحسين صورة إيران في أميركا بالتوازي مع مباحثات جنيف.
ربحت إدارة أوباما ورقة إرسال المفتشين الدوليين إلى منشأة قم، لأنها تظهر أمام الرأي العام الأميركي وكأنها حققت اختراقاً وانتزعت “تنازلاً” من إيران وهو ما تحتاجه بشدة في مواجهة اللوبي المؤيد لإسرائيل في أميركا. الوقت مهم لإدارة أوباما كي ترسي خياراتها النهائية في الشرق الأوسط، خصوصاً بعد الانتكاسة التي منيت بها في مشروع الرعاية الصحية الذي اقترحته إدارة أوباما ولم يمر مرتين في المجلس التشريعي، وبعد فشل إدارة أوباما المدوي في حمل تل أبيب على وقف الاستيطان.
يعرف أوباما أن وقت الكلام قد قارب على الانتهاء إن لم يكن انتهى بالفعل، وأن رصيده المعنوي المتآكل يدفعه إلى فعل ما. تستطيع إيران أن تساعد أوباما على الخروج بسلاسة نسبية من العراق وأفغانستان في حال الاتفاق معها على دورها الإقليمي، كما أن انشغال أوباما بالوضع في أفغانستان سيجعل إيران مرتاحة نسبياً، باعتبار ذلك سيصعب من احتمال توجيه ضربة عسكرية اليها.
سيكون على الرجل الأسمر النحيل الجالس أمام مكتبه، خلف الأضواء، أن يرسي خياراته النهائية قريباً: صفقة مع إيران أم عقوبات ضدها أم حتى توجيه ضربة عسكرية إليها؟ النهايات مازالت مفتوحة على الرغم من الحديث الفارغ عن “تنازلات قدمتها إيران” أو عن “انتصارات حققتها إيران” وأن “عصر الصفقات بين واشنطن وطهران قد حان”، مازال الطريق طويلاً وقرار أوباما المقبل سيكون الأصعب عليه وعلى إيران والمنطقة.
(مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والإستراتيجية – القاهرة)
النهار