بين الحق الإنساني.. والحق الوطني الفلسطيني؟
سليمان تقي الدين
انتصر مجلس حقوق الإنسان العالمي لشعب فلسطين مصدقاً على تقرير القاضي ريتشارد غولدستون، الذي أدان إسرائيل بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في عدوانها على غزة. مجلس حقوق الإنسان أقر إحالة التقرير إلى مجلس الأمن الدولي بأكثرية تشكلت من الدول العربية والإسلامية وعدم الانحياز. المسؤولون الإسرائيليون اعتبروا التقرير صفعة كبرى أفقدتهم أي اتزان فردوا مهددين بوقف عملية السلام التي لا نعرف عن مصيرها شيئاً منذ زمن بعيد. مندوبة إسرائيل ووزير الخارجية طمأنا إلى أن مصير التقرير سيحتجز في مجلس الأمن في محاولة للتخفيف من وطأة الحدث بدلالته التي تؤسس لمساءلة لا يمكن محوها. أهمية ما جاء في التقرير أنه أدان إسرائيل بجرائم الحرب المتعمَّدة ضد المدنيين. الإدانة الأخلاقية والإنسانية حصلت تلقائياً، لكن النتائج القانونية أهم وإسرائيل تعرف ذلك جيداً. لن يمر التقرير في مجلس الأمن ليحال على المحكمة الجنائية الدولية، هذا أمر ممكن ومعروف، برغم السابقة القريبة جداً حيث أحال مجلس الأمن جرائم إقليم دارفور السوداني إلى المحكمة الجنائية الدولية وتحركت النيابة العامة لملاحقة الرئيس السوداني. لكن الهيئة العامة للأمم المتحدة يمكن لها أن تتخذ قراراً بالإدانة، وهي قادرة على ذلك والتوازن السياسي داخلها يسمح إذا تحركت الدول المؤيدة للحق الفلسطيني. هذه الإدانة هي قيد قد يلجم الغطرسة الإسرائيلية التي تتصرف في القضايا السياسية، وخاصة بالحرب، وكأنها فوق القانون الدولي بقوة الأمر الواقع، لكنها هذه المرة ليست بعيدة عن مساءلة الرأي العام الدولي. إنما تقرير غولدستون هو وثيقة يمكن استخدامها من أي دولة عضو أو موقعة على ميثاق المحكمة الجنائية الدولية (اتفاقية روما) لكي تحرّك الدعوى ضد إسرائيل وقياداتها. وهناك إمكانية لممارسة هذا الحق جزئياً أمام محاكم أوروبية عدة ضد بعض المسؤولين عن تلك الجرائم.
الارتباك تخطّى إسرائيل إلى قادة الولايات المتحدة والدول الأوروبية الذين خسروا الكثير من مصداقيتهم لأنهم طالما تحدثوا عن أمن إسرائيل وحقها بالدفاع عن النفس. الذرائع التي اختبأت خلفها السلطة الفلسطينية ورئيسها لتأجيل مناقشة التقرير، على فرض أنه يشير إلى وجود انتهاكات من الجانب الفلسطيني، انكشف زيفها. لا يمكن التضحية بمثل هذه السابقة الدولية لمصلحة القضية الفلسطينية ولو على المستوى الإنساني بمثل هذه الذرائع. السبب الحقيقي وراء موقف السلطة تهديد الإدارة الأميركية ونتنياهو لرئيس السلطة. ربما كان هذا مكسباً إضافياً من معركة التقرير إذا كان رئيس السلطة لم يعد طرفاً صالحاً للتفاوض لمجرد تأييده تقرير مجلس حقوق الإنسان عن جرائم ترتكب ضد شعبه، فهو ليس صالحاً لأي دور آخر.
ثمة مَن سعى في الغرب إلى إعطاء مهلة لإسرائيل لكي تطوّع الحقائق لمصلحتها. هناك قضية كانت موجعة أيضاً في التقرير أنه يذكر جرائم إسرائيل المتعلقة بسياسة الحصار وليس الأعمال الحربية المباشرة. وقد تعرّض لمسألة القدس. هذه إصابة سياسية غير متوقعة. ليست المشكلة مع غزة وحماس، هناك حقوق للشعب الفلسطيني تنتهك في كل مكان ووقت وهي متمادية ومستمرة.
مجلس حقوق الإنسان تعاطى مع شعب فلسطيني موجود تحت الاحتلال. هذه قضية ثانية مهمة. لم يلامس التقرير مسألة تقرير المصير وحق المقاومة اللذين هما من مقدمة ميثاق الأمم المتحدة، لكن التقرير يمهد لأي جهد عربي في استخدامه لاستنهاض القضية الوطنية على المستوى الدولي. المفارقة هنا أن إسرائيل والدول الداعمة لها يدركون معنى وأهمية التقرير لأنهم يشيعون ويدّعون إيمانهم بالديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان. على الأقل هذه عناوين مهمة في ثقافة شعوب الغرب ومادة للحوار معهم. أما العرب فلم يستوعبوا أهمية الحدث قبل حصوله. هناك مواجهة كبيرة لتطويق التقرير سياسياً من دول الغرب. لكن هذه مناسبة لشعب فلسطين والعرب لمحاصرة إسرائيل فلا ننحدر في التنازلات إلى حد أن نقايض حقوقاً معترفاً بها دولياً بوعود عن تجميد الاستيطان أو مجرد التفاوض.
انتصر الحق الإنساني في فلسطين بالتضحيات أمام القوة الهمجية، عسى أن نصحو على تجديد معركة الحقوق الوطنية.