سوريا : جابي ضرائب دون ان تتكلف شيئا؟
سعد محيو
هل انتهت القمّـة السورية – السعودية الأخيرة في دمشق إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات بين هذين البلدين، يُـمكن أن تُحيي التحالف التاريخي بينهما، الذي سيْـطر (مع مصر) على السياسات العربية طيلة نيْـف وثلاثة عقود (1970 – 2005)؟
الصفحة الجديدة واردة بالفعل، وهذا على أي حال، ما أكّـد عليه البيان المُـشترك الذي صدر عن قمّـة الملك السعودي عبد الله والرئيس السوري بشار الأسد، التي لم تستغرِق أكثر من 24 ساعة.
فهو (البيان) شدّد على ضرورة انعِـقاد اللجنة العُـليا المشتركة السورية – السعودية في أقرب وقت، وعلى تفعيل التعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدين وعلى حلول مُـشتركة لأزمات لبنان والعراق واليمن.
لكن إحياء الحِـلف الثلاثي السوري – السعودي – المصري، لا يزال موضِـع تساؤلات وشُـكوك، لأنه مُـرتبط تمام الارتِـباط بمصير كلٍّ من العلاقات السورية – الأمريكية وبالتحالف السوري – الإيراني؟ لماذا؟
“جابي الضرائب”
الأسباب عديدة. فسوريا، على حدِّ قول دبلوماسي غربي مؤخراً، في مقابلة مع صحيفة “كريستيان ساينس مونيتور”، “تُـمارس سياسة ذكية جداً في الشرق الأوسط. إنها تستخدِم الهَـوَس الغربي بإيران لصالحها على أكمل وجه”. والدبلوماسي على حق.
فدمشق تبدو هذه الأيام أشبه بـ “جابي ضرائب” الشرق الأوسط، حيث تجبي “الرسوم” من كل الأطراف من دون أن تتكلّف شيئاً أو هي كفتاة حسناء يتنافَـس الجميع في المنطقة على كسب ودِّها، لكنها تتدلّل على الكلّ.
الحِـقبة التي عادت إليها سوريا خلال السنوات الأربع الأخيرة، هي نفسها التي بلور استراتيجيتها الرئيس الراحل حافظ الأسد، والقائمة على منطق التاجر الدمشقي البراغماتي الشهير: جعل سوريا “بيضة القبان” في كل/وأي صفقة تجري في المنطقة، وهذا ما سمح لسوريا في السابق وعلى مدى ثلاثة عقود عاصفة، أن تكون في آن في كلّ محاور المنطقة المُـتصارعة (إيران والسعودية ومصر.. الخ) وأن تُـجبِـر الجميع على دفع الفواتير لها.
“ليالي زمان” رجعت الآن. وعلى رغم أن العديد من حُـلفاء دمشق لن يُـعجبهم هذا المنحى الجديد – القديم، إلا أنه سيعجب حتْـماً مُـعاوية بين أبي سفيان، الذي حوّلت “شَـعرته” دمشق، ليس إلى بيضة قبان وحسب، بل إلى عاصمة إمبراطورية شاسعة أيضاً.
آثار أقدام هذه البراعة الدبلوماسية السورية مُـبعثرة في كل مكان تقريباً، لكن أهم هذه الآثار يقود فوراً إلى واشنطن، التي تُشكّل “رأس النبع” الذي تستقي منه مُـعظم دول المنطقة توجُّـهاتها ونِـقاط ارتكازها.
وفي هذا المجال، تتمظهر دمشق في أبهى أيام الربيع، رغم اقتراب موسم الخريف. فـ “البُـعبُـع” البوشي، الذي قضّ مضاجِـعها وكان يخطِّـط بالفعل للقفْـز إليها من بغداد عام 2003 لتغيير نظامها، رحَـل مصحوباً بلعنات الأمريكيين وأحذية بعض العرب، وحلّ مكانه في البيت الأبيض “بابا نويل” أسمر يحمل في جُـعبته الكثير من الوعود والأماني لها، وهذا ما دفع الرئيس بشار الأسد قبل شهرين، إلى تخطّـي البروتوكولات الرئاسية بين الدول، ليوجِّـه عبْـر محطة تلفزيونية دعوةً إلى الرئيس أوباما لزيارة دمشق. كما أن هذا ما شجّع دمشق على إدخال تغييرات على مُـجمل سياساتها الإقليمية، لم يتردّد بعض المحلِّـلين في وصفها بأنها “جذرية”:
1 – فهي، وربما للمرّة الأولى منذ ثلاثين سنة، لم تتدخّـل في الإنتخابات اللبنانية، على رغم أن القاصي والدّاني يعرِف أنها لو استخدَمت نفوذها ورمت بثِـقلها فيها، لتغيّرت الكثير من المُـعطيات.
2 – وهي قطعت، على ما يبدو، شأواً بعيداً في نيْـل الاعتراف الدولي بدورها الرئيسي في العراق، على رغم الأزمة الرّاهنة مع حكومة المالكي. صحيح أن طبيعة النفوذ السوري الجديد في بلاد الرافديْـن لم تتّـضح بعدُ، إلا أنه من المؤكّـد أنها ستُـرضي دمشق إلى حدٍّ كبير، على المستوييْـن السياسي والاقتصادي. ففي المستوى الأول، سيُـشكِّـل ذلك اعترافاً أمريكياً كبيراً بالدّور الإقليمي السوري في منطقة المشرق العربي، بعد أن كانت إدارة بوش السابقة قد اتّـخذت قراراً بإعدام هذا الدّور. وعلى المستوى الاقتصادي، قد تقطف دمشق ثِـماراً يانِـعة في العراق بسبب ثراء هذا البلد وفُـرص الأموال الطائلة، التي ستُـصرف هناك في مجاليْ الأمن وإعادة الإعمار.
3 – وفي الشأن الفلسطيني، بات واضحاً أن التّـغيرات التي طرأت على مواقِـف حركة حماس حِـيال الحوار مع فتح وما رافقه من تجاوُب مع المبادرات المصرية المدعومة من إدارة أوباما، كانت حصيلة النّـفوذ الذي مارسته سوريا على الجناح الدِّمشقي لهذه الحركة، وهذا ما منح هذه الأخيرة “bonus” (علاوة إضافية)، جولية جديدة لها قد تُـترجم نفسها قريباً في شكل تشجيع واشنطن للرئيس محمود عباس على منْـح السوريين نفوذاً أكبر في الشأن الفلسطيني، لكن هذه المرّة كوسيط، لا كطرف في الصِّـراع على السلطة بين فتح وحماس.
انطلاق قطار الحوار الأمريكي السوري
على أي حال، قِـطار الحوار الأمريكي مع سوريا، حليفة إيران الوحيدة في الشرق الأوسط، إنطلق وبسُـرعة فائقة أيضاً. فقبل أيام، وصل نائب وزير الخارجية السوري فيصل المُـقداد إلى واشنطن والتقى جيفري فيلتمان، مساعد وزيرة الخارجية الأمريكي. وقبل ذلك، كانت هيلاري كلينتون قد “طبّعت” علَـناً علاقاتها مع وزير الخارجية السوري وليد المعلّـم، والدبلوماسيون السوريون بات لهم حُـضور شِـبه دائم لدى مراكز القرار في واشنطن، والوفد الأمريكي عالي المستوى الذي وطأ أرض دمشق مؤخراً برئاسة دان شابيرو، العُـضو البارز في مجلس الأمن القومي ومعه فيلدمان، نجح على الأرجُـح، في بلْـورة جدول أعمال الحوار وأولوياته.
لكن علاَمَ الحوار السوري – الأمريكي وما آفاقه المُـحتملة بعد تِـسع سنوات عِـجاف من علاقات، وصلت أحياناً إلى شفير الحرب العسكرية (2003 و2004) ثم تدهورت إلى الحضيض عام 2005 مع مغادرة القوات السورية للبنان؟
واشنطن الأوبامية تعرف ماذا تُـريد: مواصلة التعاون السوري معها في العراق، وهذا بات أسهل بكثير الآن بعد تحديد موعِـد سحب القوات الأمريكية “المُـقاتلة” منه وتغيير سلوك سوريا من كوْنها حليفة لإيران إلى وسيط معها والحدّ من دعم حزب الله وحماس، على الأقل عسكرياً، إضافة بالطبع إلى مواصلة التعاون الأمني ضدّ الإرهاب والبحث إلى تحويل المفاوضات غير المباشرة بين دمشق وتل أبيب إلى خواتيم سِـلمية.
ودمشق الأسدية تعرف ما تريد: إلغاء بند “تغيير النظام” نهائياً من جدول الأعمال الأمريكي، المتجسّد في قانون محاسبة سوريا ورفع العقوبات وشطْـب الفيتو الذي تضعه واشنطن على اتِّـفاقية الشراكة السورية – الأوروبية والإعتراف بدوْر سوريا الإقليمي، جنباً إلى جنب مع احترام قراراتها الخاصة بعلاقاتها مع الدول الأخرى، خاصة إيران وروسيا.
التوصل إلى اتفاقات أو قواسم مُـشتركة حِـيال هذه المطالب لم يعُـد صعباً، فإدارة أوباما لم تعُـد تريد أن تكون سوريا أردُناً جديداً، كما كان الأمر مع إدارة بوش، والحكومة السورية تُـدْرك في المقابل، أن أمريكا – أوباما لن تكون، حتى في أفضل العوالِـم، حليفة لها كما إيران. ثمّـة منطقة وُسطى من بين الأردنة (من أردن) والأرينة (من إيران)، كما ثمة مصالح مُـشتركة عدّة يُـمكن تحقيقها في إطار أقلّ إستراتيجية لكن أكثر نجاعة تكتيكياً، على غِـرار الأمن والإستقرار في العراق ولبنان، ومنع الوضع الفلسطيني من الإنفجار وتطويع المتشدِّدين الأصوليين الإسلاميين، سواء بجزَرة الإقناع أو بالعصا الأمنية.
بالطبع، لن يكون هذا حواراً بين ملائكة، فكلّ طرف سيستخدم ما يملِـك من أسلحة: واشنطن المحكمة الدولية في لايشندام (هولندا) والتسهيلات الاقتصادية الدولية (والخليجية)، التي تحتاجها سوريا لمواجهة أزمة الجَـفاف وفتح الاقتصاد السوري على الاقتصاد العالمي والضغط العسكري الإسرائيلي.
وفي المقابل، تمسِـك سوريا بأوراق قوية، مثل تحالفها مع إيران ووجود قادة حماس على أراضيها ونفوذها على حزب الله ودورها الكبير والمُـعترف به دولياً في مجال مكافحة الإرهاب، وبالتالي، كل ورقة ستُـقابلها ورقة وكل ضغط سيكون في موازاته ضغْـط، إلى حين الوصول إلى تسوِيات أو صفقات حلول وسَـط.
اعترافات سعودية
ماذا تعني كل هذه التغييرات الكاسحة؟ أمراً واحداً: نهاية حِـقبة وبداية حِـقبة جديدة.
الحِـقبة التي انتهت والتي تميّزت بالخوف والتشنّـج والتصعيد، أملَـتْـها أولاً وأخيراً سياسات بوش “الثورية”، التي هدفت إلى (وفشلت في) تغيير النِّـظام السوري (أو على الأقل تغيير سلوكياته) وإعادة رسْـم خريطة الشرق الأوسط برمّـتها بعد ذلك. والحقبة التي بدأت ستشهد تحوّل سوريا إلى ما قد يكون “آستانة” القرن الحادي والعشرين، على الأقل على المستوى الدبلوماسي، حيث ستكون نُـقطة تقاطع مُـعظم المشاريع والتحالفات والإصطفافات في المنطقة.
هذه النقطة الأخيرة، أدركتها أخيراً على ما يبدو المملكة السعودية، خاصة بعد أن رحل بوش وجاء أوباما، حيث بدأت المملكة تُـعيد تكييف سياساتها معها، وإن ببُـطء شديد، ربما يعود إلى عدم تحوّل وزارة الخارجية السعودية إلى مؤسسة، الأمر الذي أفقد التوجّـهات السعودية القُـدرة على متابعة الأمور أو استكمال ما بدأت العمل به.
الإدراك السعودي هذا، ترجَـم نفسه في دعوة الرئيس السوري إلى جدّة في 23 سبتمبر الماضي، ثم ترجَـم نفسه أكثر وأفصَـح في الزيارة التي قام بها العاهل السعودي عبد الله إلى دمشق، إذ كرّست هذه التطوّرات، الاعتراف السعودي بأمريْـن هامّـيْـن إثنين:
الأول، فشل كلّ السياسات التي مارستها المملكة منذ عام 2005-2006 في عزْل سوريا أو استلحاقها، فيما كانت هذه الأخيرة تتعرّض إلى مخاطِـر مُـميتة بعد الغزو الأمريكي للعراق.
والثاني، الفشل الآخر للرياض في ممارسة سياسة مستقِـلة في الشرق الأوسط عن المِـحور السوري – المصري – السعودي الشهير، الذي حكَـم المنطقة طيلة ثلاثة قرون متّـصلة.
والآن، ثمّـة ما يوحي بأن الظروف الموضوعية والذاتية مؤهّـلة لتقارُب سوري – سعودي جديد، يستنِـد أساساً إلى حاجة السعودِيين إلى السوريين.
فهناك حالياً مواقِـف متقاربة للطرفيْـن حِـيال العراق، الذي بدأت التنافُـسات الإقليمية على النفوذ فيه تتّـضح فور انسحاب القوات الأمريكية من المُـدن العراقية، إذ أن دمشق والرياض منزعِـجتان من سياسة المالكي، ولكل منهما حسابات سياسية غيْـر متطابقة معه ومع مصالح إيران في العراق.
صحيح أن دمشق لا تقِـف على خطِّ المُـجابهة مع طهران في بلاد الرّافدين، كما تفعل الرياض، وتُفضّل البقاء في مُـنتصف الطريق بينهما، إلا أن موقفها هذا كافٍ لتسهيل فُـرص التقارُب مع السعودية.
وفي لبنان، وعلى رغم الصِّـراع على “نِسَبْ النفوذ” بين دمشق والرياض، دلّت الانتخابات النيابية الأخيرة (كما ألمحنا)، إلى أن الطرفيْـن قادران على التوصّل إلى حلول وسط، وإن بـ “التقسيط”، الذي يكون غيْـر مُـريح أحياناً للسعودية!
وفي مجال مكافحة الإرهاب تبدو إمكانيات التعاون والتنسيق بلا حدود. بيد أن هذه المعطيات، على أهميّـتها، لا تعني أنه سيكون من السّـهل العوْدة إلى صيغة المِـحور السوري – السعودي – المصري، كما كانت في السبعينيات والثمانينيات.
فالظروف الإقليمية تغيرّت كثيراً والإهتمامات السورية تغيّـرت معها بالقَـدر نفسه، إن لم يكن أكثر. والواقع، أن دمشق باتت تمتلِـك الآن أوراقاً عديدة تتفوّق بها على مملكة السعوديين في مجالات عدّة، عدا المال بالطبع، الذي تحتاجه دمشق هذه الأيام بقوّة بسبب الجَـفاف الذي يضربها.
فالانفتاح الأمريكي والأوروبي عليها، تم بسبب الحاجة الماسّـة إليها، وهذا ما وفّر لها فوراً حيِّـز حرية مُـناورة لم تمتلكها حتى إبّـان عهد الرئيس حافظ الأسد.
وعلاقاتها الجديدة مع تركيا، والتي تُوِّجت الشهر الماضي بتوقيع اتفاقية شراكة إستراتيجية بين البلدين، تتضمّـن توسيع التنسيق بينهما ليشمل كل الشرق الأوسط، منحَـها ميزة استراتيجية فائقة، في الوقت نفسه، الذي أثارت فيه قلَـق السعودية الفائق التي تُكِنّ خشية شديدة من الطّـبعة التركية للإسلام (العثمانية الجديدة)، القائمة على عقد قِـران هذا الأخير على الديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان.
ثم إن علاقاتها مع إيران، والتي لن تتخلّـى دمشق عن ورقتها الثمينة، لا الآن ولا غداً، كانت ولا تزال العامِـل الرئيسي الذي يجعل كلّ الدول تتدافع إلى أبوابها لخَـطب ودِّها وجذبِـها إلى مداراتها الخاصة.
خلاصة القول: هذه المزايا الجديدة لموقِـع دمشق الجيو – إستراتيجي الجديد، كانت واضحة وحاضرة في اقتراح الرئيس السوري بشار الأسد خلال زيارته الأخيرة إلى طهران، الخاص بإقامة تحالف رُباعي بين سوريا وتركيا وإيران والعراق.
حزب الله.. ماذا يعني كل ذلك؟
إنه يعني أن آمال السعوديين والأمريكيين بأن سياسة الانفتاح على دمشق ستؤدّي إلى فكّ عُـرى تحالفها مع طهران، لن تحقّـق بسهولة، إذ دونها حساسات التاجر الدمشقي المعقّـدة والبراعة الدبلوماسية العريقة التي ورثها السوريون عن أجدادهم الأقدمين.
لكن، وإذا ما شعر السوريون بالفعل بأنه بات من مصلحتهم العليا أن ينتقلوا من المُـعسكر الإيراني إلى المعسكر السعودي – المصري، فإن الدليل الحسّـي على ذلك لن يكون في القِـمم والبيانات المشتركة والخُـطب اللغوية، ولا حتى بإمدادات المال، بل في إندلاع الصِّـدام أو على الأقل الخلافات العلنية بين سوريا وحزب الله، الذي يعتبر منطقة النفوذ الحقيقية الوحيدة لإيران في المشرق العربي، والذي من دُونه ستتعرّض الإستراتيجية الإيرانية في الشرق الأوسط العربي إلى انكفاء خطير.
وطالما أن هذا التطوّر لم يحدُث، سيكون فتح صفحة جديدة في العلاقات السورية – السعودية مُـمكناً، لكن من دون تحوّلات إستراتيجية حقيقية أو هامة.
سعد محيو – سويس إنفو