صفحات ثقافية

الكاتب الإسباني خوان غويتيسولو يضع النقاط على الحروف: هذا ما جرى بخصوص الجائزة الليبية

null
عبد الغفار سويريجي
مراكش ـ ‘القدس العربي’ أثار مؤخرا إعلان الروائي الإسباني خوان غويتيسولو رفضه جائزة أدبية عربية ‘زوبعة’ من الردود. ‘القدس العربي’ التقته في منزله بمراكش فسألته عن الموضوع. وهنا فحوى اللقاء:
اشتدت الحرارة وتجاوزت السابعة والأربعين صيف هذا العام. توجه الكاتب الإسباني آنذاك بصحبة عائلته المراكشية إلى طنجة، وثمة استأنف الكتابة. عاد عبد الهادي إلى مراكش ليرتب أمورا تخصه. كان داخل البيت عندما رن الهاتف. اتصل الكاتب الليبي إبراهيم الكوني يسأل عن خوان. أجاب عبد الهادي أنه قد سافر. سأله الكاتب حينها من يكون وماذا يعمل؟..عرف عبد الهادي بنفسه فأخبره المتصل أن خوان قد نال جائزة أدبية ليبية كبيرة، ويود الاتصال به مباشرة. أعطاه عبد الهادي وقتئذ رقم هاتف خوان بطنجة. وهكذا اتصل ـ الكوني – بالكاتب الإسباني وأخبره بالنبأ السعيد: لقد نلت جائزة أدبية ليبية كبيرة. واتفقا على أن يلتقيا لاحقا في أصيلة ويتحدثا بالتفصيل. بعد ذلك أرسل الناقد المصري صلاح فضل – أحد أعضاء لجنة الجائزة ومتخصص في الدراسات الإسبانية – عبر البريد الالكتروني مجموعة من الرسائل إلى الروائي الإسباني أخبره في واحدة منها: أنه قد نال ‘ جائزة القذافي العالمية للآداب’. انتهى تردد خوان ساعتها فقرر بعد تفكير رفض الجائزة. وأخبر بذلك فضل. أجاب الأخير برسالة ورد فيها: ‘ إن رفضك للجائزة جعلني الآن أقدرك وأحترمك مرتين’. وتحدث عن إمكانية أن يسلموها له حتى في مراكش.
توجه خوان إلى أصيلة لما حان الموعد. لكن الكاتب الليبي لم يحضر. لم يحدث خوان أحدا في الموضوع عدا صديقين له إسبانيين. لم يستطع أحدهما كتمان السر فحدث صحافيا من جريدة ‘ إلموندو’. اتصل الأخير من مدريد بخوان يطلب موعدا لإجراء مقابلة معه في طنجة موضوعها الجائزة. اندهش خوان فأجابه: ‘ من فضلك لا تأتي..لا أريد شوشرة في الموضوع، سأصدر بيانا لاحقا’. اضطر الكاتب الإسباني وقتئذ ليكتب ويوضح بجريدة ‘ الباييس’. قال في رسالة وجهها إلى رئيس لجنة التحكيم الروائي الليبي إبراهيم الكوني إن ‘ سبب رفضه هو مصدر الجائزة، فالمبلغ المالي مقدّم من الجماهيرية العربية الليبية التي استولى فيها معمّر القذافي على الحكم بانقلاب عسكري سنة 1969’. وأشاد بلجنة التحكيم وبمستواها الأدبي والأخلاقي. وأضاف أن احترامه للثقافة العربية والقضايا العادلة كانت دافعه الحقيقي وراء توجيه الرسالة… ‘ إنَّ استقامة جميع أعضاء اللجنة التي منحتني الجائزة وكفاءتهم، دليل قاطع على استقلاليتهم … دافعت قدر استطاعتي عن القضية الفلسطينية، وكنت حاضراً على جبهات النضال من أجل الديمقراطية في العالم العربي، واستعادة شعوب المنطقة للحريّة التي حرمت منها على نحو تعسّفي… بعد تردد قصير، ناقشت خلاله بيني وبين نفسي احتمالات قبول الجائزة أو رفضها، ولأسباب سياسية وأخلاقية، اتخذت الخيار الثاني’. وتمنّى على صلاح فضل تفهّم الدوافع التي أملت اتخاذ هذا القرار. ‘ لست شخصاً ينساق وراء القضايا بطريقة هوجاء. لكنّني في إطار احترامي الخاص للشعوب العربية وثقافتها الرائعة، انتقدتُ دائماً، وكلَّما استطعت، الأنظمة الخاضعة لحكم السلالات التي تستبدّ بشعوبها، وتبقيها في الفقر والجهل’. وأضاف أنّ رفضه الجائزة ‘ خففه من ثقل مضنٍ، هو الذي لم يجرِ في حياته وراء الجوائز’… كان آنذاك أمام حالة لا تترك الخيار: ‘ أن أقبل جائزة يمنحها القذافي، فإنّ الأمر مستحيل تماماً’.
عرف الكاتب الاسباني خوان غويتيسولو بمناصرته للقضايا العادلة وجرأته الكبيرة: التقى في خريف 1968 بعض قادة فتح ونشر عنهم ريبورتاجا في مجلة ‘ لونوفيل أوبزرفاتور’. تعرف منذ الستينيات على حقيقة الثورة الفلسطينية. وانخرط في النضال ضد الاستعمار، بالقدر الذي تسمح به إمكانياته: أخفى هو وزوجته مونيك، رحمها الله، في بيتهما بباريس مناضلا جزائريا كانت تلاحقه الشرطة. وأحد صناديق مال ‘ جبهة التحرير الوطنية الجزائرية ‘ في باريس كان مودعا في منزلهما.. سافر عام 1988 إلى فلسطين فكتب عن ثورة الحجارة. ذهب إليها بصفته ‘رجلا معنيا مباشرة بالنضال، الذي يخوضه شعب للدفاع عن أرضه وذاكرته في مواجهة فظاظة الاقتلاع ومناخ الأساطير الخادع’. كتب بعد ذلك سلسلة من المقالات نشرتها صحيفة ‘ الباييس ‘ تباعا تحت عنوان ‘غزة أريحا: لا حرب ولا سلام’. تلتقي تحليلاته هنا إلى حد بعيد بآراء المفكر والباحث الفلسطيني إدوارد سعيد.. وفي نص هام نشر تحت عنوان ‘حرب الخليج: البترول والدم والمصير العربي ‘ فضح الكاتب خبايا مذبحة الخليج والمتمثلة فيما مارسته الأصولية الأمريكية من تقتيل وتدمير ضد شعب العراق.

عندما أعلن غويتيسولو رفضه للجائزة تعاقبت الردود:
‘ لإزالة أي لبس قد يكون وصل إلى قراء الصحيفة الإسبانية الكرام وليكونوا على بينة من الأمر بكل شفافية ‘ بعث أمين عام الجائزة الدكتور محمد الخضيري لـ ‘ الباييس ‘ عقب ذلك خطابا شديد اللهجة عنوانه: لم نقرر منح الجائزة لـ (غويتيسولو)، وضح فيه ‘جملة من الحقائق’ حول تصريح غويتيسولو:’ في عام 2007 استحدثت في الجماهيرية الليبية … جائزة أدبية دولية تمنح سنويا لأحد أقطاب الإبداع الإنساني في مجالات الآداب التي تسهم في الانتصار لقضايا الحرية، تمول هذه الجائزة من أموال الشعب الليبي المتحرر من هيمنة المستعمرين ومن الأنظمة الظلامية المستبدة(…) وإذا كان انتصار 1969 الذي مكن الشعب الليبي من التحرر من التبعية والخضوع لإرادة القوى الاستعمارية حيث أصبح بحق سيداً فوق أرضه يقدس القيم النبيلة والأخلاق السامية، إذا كان هذا لا يروق لغويتيسولو أو من في حكمه فعليهم وعليه البحث لنفسه عن مكان خارج موكب الأدباء الذين سخروا أقلامهم وأفعالهم لمناصرة الحرية وقرروا استعدادهم للدفاع عنها في أي مكان من العالم… وأضاف: لم تعلن لجنة الجائزة حتى الآن عن الترشيح لهذا العام وبالتالي لم يعرض أمر ترشيح السيد غويتيسولو على اللجنة ولم يخضع للتحكيم من قبل اللجنة المختصة. ومن ثم لم يتقرر منح الجائزة له ولا لغيره… وإذا اعتذر غويتيسولو عن قبول الجائزة الأدبية الليبية الدولية فإنه يكون رفض شيئاً قد يستحقه ولكنه لم يمنح له حتى الآن. والاعتذار حق طبيعي لكل إنسان في حالة ما لم يبرر بادعاءات تسيء إلى المانح. والخبر الذي نسب إلى الناقد الدكتور صلاح فضل وهو عضو فعال في لجنة الجائزة لم يتعد الإشارة إلى غويتيسولو باحتمال ترشيحه عندما يحين الوقت وعرضه مع غيره من المرشحين على لجنة تحكيم الجائزة..’. . كان يأمل ان تنشره ‘ الباييس ‘ لكنها رفضت: كان الخطاب في حقيقة الأمر رسالة هجومية، تتهم ضمنيا الكاتب الإسباني بالكذب والافتراء. لم يكن النفي ليقنع الصحيفة الاسبانية. فنشرته صحيفة ‘ الوطن ‘ الليبية (تاريخ النشر: 25/8/2009). كيف يفلح في الإقناع وقد نفى الخبر جملة وتفصيلا! سقطت ورقة التوت، قلب الطاولة.
فاجأ الخبر المعلن في وسائل الإعلام الروائي الليبي فسارع بدوره للنفي. أصدر بيانا قال فيه: ‘ نظرا لما نشره بعض وسائل الإعلام من ترؤسي لجائزة ليبية رفضها الكاتب الإسباني خوان غويتيسولو أريد أن أؤكد نفيي القاطع ترؤسي لهذه الجائزة، انطلاقا من يقيني من عدم تولي أية مناصب، بالرغم من أني لم أبخل على صديقي الدكتور محمد الحضيري رئيس الجائزة استشاراتي من منطلق العلاقة الشخصية… لم أستلم أي خطاب من الكاتب المذكور كما لم أتحدث عنه. وكل ما حصل أن أحد أعضاء اللجنة اقترح اسمه ضمن المرشحين، ولم يعلن أصلا فوزه بالجائزة’.
عن حسن نية اقترح الروائي الليبي اسم خوان غويتيسولو للفوز بالجائزة، وعن حسن نية اتصل به هاتفيا ليخبره بالنبأ السعيد. لم يدر بخلده أن اقتراحه سيجعل الأمور تنقلب عليه، وتسبّب له في مكان ما حرجا..
لم يسبق للكاتبين الكبيرين أن التقيا من قبل. أتذكر: لحظة صدور رواية ‘ التبر’ عن دار رياض الريس، اكتشفت، كما جميع القراء العرب، حكاية الأبلق الخارقة وكذا حياة الصحراء: رواية فاتنة، رائعة.. يسأل خوان دائما أصدقاء يثق بهم عن جديد الأدب العربي. هكذا عرف بيضة النعامة ونصوصا أخرى.. كان لا بد، إذن أن أحمل التبر معي إلى الساحة. كان لا بد أن أريها لخوان. جاء ساعتها إلى المقهى صديق مراكشي يقيم بباريس، أعجبه النص فترجمه. صدرت الترجمة الفرنسية بعد ذلك عن دار غاليمار الذي يعد خوان أحد مستشاريها.. قرأ الترجمة الفرنسية وكتب عنها في ‘ نوفيل ابزرفاتور’. كانت مقالته تلك كافية لتكون تقديما للترجمة الاسبانية.
ذكر الروائي الليبي في بيانه: ‘ أما ما ورد من خوان غويتيسولو من كتابة مقدمة لروايتي ‘ التبر’ فأريد أن أؤكد أنه لم يكتب مقدمة خاصة لتلك الرواية، وما حدث فعلا أنه قرأ الرواية بالفرنسية عند صدورها عن دار غاليمار 1998م وكتب عنها مقالا نشر في مجلة ‘نوفيل ابزرفاتور’ الفرنسية، وهو المقال الذي اعتمدته دار النشر الاسبانية عند نشرها للرواية بالاسبانية تاليا دون الرجوع إلى المؤلف، لقناعتي الشخصية أن مقدمة أي عمل أدبي هو النص الأدبي نفسه’…
عندما تلقى الكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد دعوة من دائرة الفنون الجميلة بمدريد كي يتحدث بمناسبة صدور الترجمة الإسبانية لسيرته الذاتية: ‘ خارج المكان ‘، اشترط أن يكون غويتيسولو هو من يقدمه. امتلأت القاعة عن آخرها..وكذلك خارج القاعة: امتلأت الأروقة والأدراج.. كان بحق يوما مشهودا: تمكنت بمساعدة خوان من أن أجلس بصحبة إدوارد وأكلمه مدة نصف ساعة..
بعد خطاب الأمين العام ونفي الكاتب الروائي نفى الناقد المصري بدوره في تصريح صحافي فوز غويتيسولو بالجائزة فقال: ‘غويتيسولو لم يفز بالجائزة وموقفه لا أخلاقي’. وأضاف: ‘ لا صحة للأنباء التي أعلنت عن فوز الكاتب خوان غويتيسولو بالجائزة. طرح اسم غويتيسولو من بين أسماء عدة وهو كان مجرد ترشيح ولم يكن إعلان فوز، كما أشارت إلى ذلك وسائل الإعلام التي نقلت خبر اعتذار غويتيسولو عن عدم قبول الجائزة. لكن طريقته في إعلان رفض الترشيح كانت غير أخلاقية، فهو كان بإمكانه أن يبلغ أعضاء اللجنة الاستشارية برفض الترشيح من خلال المراسلات أو الاتصالات وليس عبر وسائل الإعلام لأن العادة جرت على ذلك. وكل ما لدينا من مكاتباته مع أعضاء اللجنة يؤكد أنه كان مرشحاً وليس فائزاً، وبالتالي فموقفه ينطوي على شيء من المزايد ة’. وأكد ‘ أن اللجنة مارست عملها بصورة مستقلة تماماً ولم يتدخل أحد في أعمالها’. ونفى أن يكون ناطقا باسم لجنة الجائزة. بدل رأيه وأكمل الفرية: كان في حكم الجار والمجرور. هكذا انقلب الفوز ترشيحا. ثمة نقف في الحد بين الأخلاق واللاأخلاق. أراد أن يكحلها فأعماها. ويطرح السؤال: هل كانت ثمة ضرورة للنفي؟ وهل كان الأمر مقصودا؟ لا ندري.
ختم الناقد حديثه فقال: ‘واقع الحال أن موقف غويتيسولو لن يسبب للجائزة أي حرج لأنه قدم لها دعاية مجانية أفادت الجائزة وصنعت لها ضجيجاً إعلامياً وضعها في بؤرة الاهتمام’.
تصرفت اللجنة تصرفا مشينا.. كانت تنقصها الحكمة..؟’. سألت خوان.
** لا يمكننا أن نطلب من كل الناس أن يكونوا أبطالا!’. هكذا أجاب خوان.
أتساءل بدوري: لم النظر إلى الأعلى وعلى الأرض ما يستحق الحياة!
لنحتكم إذن إلى المتنبي..لنسأل الحلاج والمعري..
اسألوهم: – من أشعر شعراء العرب؟
سيجيبونكم حتما:
أشعر شعراء العرب محمود درويش. كتب ما لم نكتبه. نقبله بين الخالدين.
والعالم العربي يحتفل هذه السنة بالقدس عاصمة للثقافة العربية 2009.. لم لا تمنح جائزة القذافي العالمية للآداب لهذه السنة للشاعر الفلسطيني محمود درويش نظرا لمساهمته الكبيرة في إغناء الشعر العالمي والإنساني؟..
يمكن، على الأقل، بقيمتها المالية بناء مدرسة في غزة تحمل اسمه.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى