صفحات مختارة

ماضٍ لا يمضي” لهاني فحص: في صعوبة أن يكون المرء مرشد نفسه

كريم مروّة
في جعبتي كلام كثير عن صديقي المفكر الإسلامي التنويري السيد هاني فحص، رفيق درب النضال السياسي والاجتماعي، على امتداد أربعة عقود. وهو كلام ذو طابع فكري وسياسي وثقافي، أتجاوز فيه ولا أقطع صفته كرجل دين. ولتجاوز الصيغة الدينية في الحديث عن السيد هاني، من دون قطع، صلة وثيقة بالدور السياسي والاجتماعي والثقافي الريادي الذي يضطلع به منذ زمن طويل. أما عدم القطع، الذي يترافق مع التجاوز، فمصدره أن السيد هاني يتابع، إلى جانب اهتماماته السياسية والاجتماعية والثقافية، دوره التنويري كرجل دين، مؤكداً بحزم على قيم الدين التي يتجاوزها زملاء له في الموقع الديني لأهداف ومصالح لا تتصل، بالضرورة، بالدين وأهدافه، ولا تراعي، بالضرورة، قيمه الروحية، وأساس التسامح فيه.
الكلام، إذن عن السيد هاني فحص الذي تمتلئ به جعبتي هو كلام فكر وثقافة وسياسة، كلام صديق عن صديق له في ممارسته دوره المزدوج كرجل دين مختلف، كرجل سياسة وفكر مختلف أيضاً.
واستنتجت فيما أنا أقرأ الكتاب، أن السيد هاني قد مارس في سرد سيرته دور الروائي الحديث، الذي يلعب بالأزمنة والأمكنة، ذهاباً وإياباً، وأنه حاول، على طريقته كروائي حديث أن يدخل في أعماق النفس الإنسانية، في تحولاتها التي تدخلها فيها، بصيغ مختلفة، التحولات الدائمة في المجتمع، المتعددة مناطقها والمتعددة اتجاهاتها فيه.
غير أنني اكتشفت، من خلال ما قرأت في الكتاب، أن قراءاتي الشخصية المعاشة لسيرة المؤلف، التي تستمر منذ أربعين عاماً من دون انقطاع، هي أعمق، بالنسبة إليّ في ما أريد معرفته عن السيد هاني، من أي كتاب وكتابات له، وهي كثيرة، وآخرها، وليس الأخير قطعاً، هذا الكتاب الجميل الذي يحمل عنوان “ماضٍ لا يمضي”.
وفي الواقع فإن معرفتي بالسيد هاني الطويلة المتواصلة هي معرفة متعددة الأبعاد. ولأن هذه المعرفة بأبعادها المتعددة، قد اقترنت بصداقة عميقة وحميمة كانت تتكون وتنمو وتترسخ في الاتفاق أحياناً، وفي الاختلاف أحياناً، وفي الاتفاق وفي الاختلاف معاً في أحيان أخرى، فإنها، أي هذه المعرفة، هي التي تشكل الأساس في تحديد قيمة وقامة الرجل عندي، قيمته وقامته الفكرية، على وجه الخصوص. وهذه المعرفة ذاتها هي التي مكنتني من رؤية وتحديد الدور السياسي والاجتماعي الذي يمارسه السيد هاني بصفتيه المتلازمتين من دون تناقض: صفة رجل الدين وصفة المفكر والسياسي. وكل من القيمة والقامة والدور، في الحالات المشار إليها، تشير بوضوح، إلى أن السيد هاني فحص، في معرفتي به، وفي تقديري له، هو نسيج وحده في الدين وفي الفكر وفي السياسة، يُمارس دوراً تنويرياً يتسم بالشجاعة الواقعية، التي لا تقبل المهادنة، ولا تقبل المساومة، ولا تدخل قطعاً، في المغامرة.
يتحدث السيد هاني في كتاب سيرته عن مراحل حياته منذ الطفولة حتى اللحظة التي صار فيها صاحب مقام، وصاحب موقع، وصاحب فكر ومعرفة، وصاحب دور في وطنه لبنان، وصاحب دور في العالمين العربي والإسلامي، ويستطيع قارئ الكتاب أن يكتشف، من دون جهد في التفكير وفي التحليل، التطور السريع والمتواصل في تحولات الرجل الفكرية والمعرفية، وفي تحولاته السياسية. وهي تحولات ما تزال تُمارس فعلها في شخصيته من دون هدنة، ومن دون فسحة لاستراحة المحارب. لكن أهم ما يكتشفه القارئ في الكتاب هو أن التحولات المتواصلة في شخصية المؤلف اقترنت دائماً. وما تزال تقترن، بالأسئلة، سواء منها تلك التي لم يجد أجوبة عنها، قديماً وحديثاً، أم تلك التي ما يزال يحاول البحث عن أجوبة عنها، بمفرده، وبعلاقته مع آخرين من أصدقائه ممن يشاركونه همومه الوطنية والإنسانية. وفي تقديري للسيد هاني، من خلال معرفتي الطويلة والعميقة به، أنه قد خُلق مسكوناً بهاجس المعرفة في جوانبها وفي ميادينها المختلفة، ومسكوناً، في الآن ذاته، في جعل هذه المعرفة تُمارس دورها في تحرير وعي الإنسان وتحرير إرادته، لكي يكون قادراً على تحرير نفسه من آفاته التي يظلم بها نفسه، بوعي سلبي عنده ومن دون وعي، ولكي يكون قادراً على تحرير نفسه من المظالم التي تأتي إليه من خارجه ومن خارج إرادته ومن خارج قدرته على مواجهتها إلا بالنضال الطويل. والجميل في شخصية هاني هو أنه، وهو يعاني هموم الأسئلة وهموم البحث عن أجوبة حقيقية عنها، أو أجوبة نسبية في حقيقتها، لا يخفي حيرته وقلقه وارتباكه، وهي في حقيقتها، صفات وسمات الإنسان الحقيقي. فالإنسان الذي يدعي الاطمئنان ويدّعي امتلاك الإجابات المطلقة عن الأسئلة الواقعية والمنطقية، هو مخطئ حتماً، حتى لا نصفه بأكثر من ذلك. لكن الطريف في علاقة السيد هاني بالأسئلة هو أنه يحاول أن يتعامل بجدلية راقية مع تاريخ تحولاته. فهو، إذ يعطي لكتابه “ماضٍ لا يمضي”، لا يريد، كما فهمت من كتابه، وكما أعرف من مواقفه، أن يبقى في الماضي. فهو إنسان ينظر دائماً إلى المستقبل، ويساهم، بقلق فكري، في التنظير للتغيير في اتجاه هذا المستقبل. لكنه يعترف بحق أن كل مستقبل هو ابن لماضٍ مضى، ابن مختلف عنه بالكامل من دون أن يتنكر لعلاقة النسب به. لكن الماضي، بالنسبة له يبقى حاضراً حتى بعد أن يصبح جزءاً من التاريخ والذاكرة. ذلك أن تاريخ البشر، كما أفهم من تحليلاته واتفق معه فيها، هو تاريخ تواصل لا انقطاع فيه، حتى ولو جاء هذا التواصل في صيغة اضطراب، كما تشير إلى ذلك الوقائع المذهلة في عالمنا المعاصر. وبهذا المعنى فإن للذاكرة موقعها في حياة الناس. ومن يتنكر لتاريخه، في الإيجابي والسلبي منه، لا يستطيع أن يذهب بالقدر الضروري من الأمان إلى المستقبل.
ولعل واحدة من أجمل فصول الكتاب تلك التي يتحدث فيها السيد هاني عن علاقته المتعددة الوجوه والمعاني مع قريته ومع منطقته، مع شتلة التبغ، وكروم العنب والتين والزيتون، وعن علاقته بالحوزة العلمية وبالتباساتها، وبالتباساته فيها، من النجف إلى طهران إلى قم، وصولاً إلى الاستقرار في لبنان. ومن أعقد وأجمل ذكرياته التي يعتز بها تلك التي تتصل بقضية المزارعين وبدوره في نضالاتهم، وبقضية فلسطين وبدوره في الدفاع عنها من مواقع اختلفت صيغتها مع اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحداث، ولا يستثني بالطبع علاقاته وذكرياته بالثورة الإسلامية في إيران وبقائدها وبرموزها. وأترك للقارئ اكتشاف طبيعة تلك العلاقات وذكريات السيد هاني عنها.
ورغم أن الكتاب هو كتاب سيرة وذكريات، إلا أن السيد هاني أراد أن يقول للقارئ أين هو الآن من كل ما يتصل بالقضايا الكبرى التي تواجه وطنه لبنان في حاضره ومستقبله، وتواجه العالم العربي، وتواجه القضية الفلسطينية، وتواجه الإسلام والمسلمين. فهو يحرص على التأكيد بأنه بصفاته كلها، ومن مواقعه المختلفة المتعددة، لا يستطيع، حتى كإنسان فرد، أن يكون مراقباً، أو أن ينتظر مخلصاً ما قادماً من التاريخ. صحيح أنه شاهد على زمن. لكنه لم يشأ إلا أن يكون صاحب رأي ودور وموقع، سواء في الماضي الذي مضى، بإنجازاته وبمآسيه، أم في الحاضر المعاش، الكثير الاضطراب، أم في المستقبل الآتي في الجانب المجهول والغامض والقلق منه، وفي الجانب المتصل بالطموح نحو الأفضل فيه. فقرر، على قاعدة هذا الانتماء بوعي فكري ومعرفي وسياسي وإنساني، أن يكون مواطناً لبنانياً بكل المعاني، شريكاً لأهل منطقته في جنوب لبنان، وشريكاًَ لأهل وطنه لبنان، في كل ما يتصل بالحاضر وبالمستقبل، شريكاً لهم في النضال من أجل حياة أفضل وأرقى وأكثر تقدماً لوطنهم وأكثر سعادة وحرية وكرامة لهم. وقرر، في الآن ذاته، أن يعطي لرجل الدين، وللدين من خلال رجل الدين، دوراً حقيقياً يعود لكليهما، دوراً إنسانياً، دوراً فاعلاً في تحقيق تلك الأهداف. وقاده خياره هذا إلى الانخراط في العمل السياسي وإلى النضال من أبوابه الواسعة تحقيقاً لتلك الأهداف في تنوعها، وفي تنوع المراحل التاريخية التي تحدد لها طبيعتها. وتنقل باحثاً عن الموقع الذي يجد نفسه فيه مواطناً طبيعياً، مواطناً مستقلاً، غير تابع لأحد أو لاتجاه أو لموقف، الموقع الذي يمارس فيه حريته، من دون رقابة يفرضها عليه انتماء سياسي أو أيديولوجي محدد، ويمارس فيه نضاله الفكري والمعرفي والسياسي، وفق خياراته هو بكامل استقلاليته. فاختار الوسطية التي ما يزال يبحث عن تحديد دقيق لها، تحديد يعطي لنفسه فيها دوراً حقيقياً، دوراً فاعلاً لا دور مراقب من أعالي البرج العاجي. واختيار الوسطية عنده هو اختيار صعب، لأنه اختيار يفرض عليه اتخاذ مواقف محددة من القضايا التي تشغل وطنه اللبناني وتشغل العالمين العربي والإسلامي، وتشغل القوى السياسة المتنازعة في ما بينها حول الاتجاهات والأهداف والمصالح. وهي مواقف تجعله، بالرغم منه، أمام احتمال تلقي السهام من كل الاتجاهات. ولأن وسيلته هي الكلمة والقلم واللسان، فهو لا يستطيع إلا أن يُمارس عمله بواسطتها، ولو بارتباك. والارتباك ليس عيباً عندما يكون الأصل فيه هو البحث عن إجابات ضرورية وملحة تقتضيها وتتطلبها أسئلة ضرورية ملحة.
أحب أن أقول في ختام هذه التداعيات في حضرة صديقي المفكر الإسلامي التنويري السيد هاني فحص، الذي أستعير له من دون استئذانه، صفة اليساري، على طريقته، من موقعه كرجل دين، أحب أن أقول بأنه لا يُعرف بكتابه وبكتبه، على أهمية ما قدم فيها عن نفسه من معطيات، بل هو يُعرف بحركته اليومية، التي لا يتعب في العمل لجعلها، وسط الضباب والاضطراب والصراع الأعمى، تصب في الاتجاه الذي يقرب الإنسان اللبناني والإنسان العربي والإنسان المسلم، يقربه من أرضه ومن وطنه ومن شعبه، ويقربه من دولته، مساهماً في تحررها، وفي تقدمها من أجل أن تكون حامية له ولطموحاته ولطموحات شعبه في الحرية والتقدم والسعادة.
ويسعدني أن أكون برفقة السيد هاني في همومه وفي اهتماماته، وفي حيرته وقلقه وفي ارتباكه وفي الأسئلة التي يطرحها، وفي البحث الذي لا كلل ولا هوادة فيه للإجابة الحقيقية والضرورية عنها.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى