مقاهي دمشق.. كتاب تاريخ نضالي، تشكلت فيها الأحزاب السياسية ودونت في فسحاتها قصائد الغزل
تحوي مدينة دمشق عددا كبيرا من المقاهي العريقة التي يعود تاريخ إنشاء معظمها إلى القرن التاسع عشر، ويطل أغلبها على الشوارع الرئيسية والأسواق الشعبية القديمة.وشهدت معظم هذه المقاهي أحداثا هامة، حيث تشكل فيها العديد من الأحزاب والمنتديات الفكرية والسياسية، كما دونت في فسحاتها الكثير من قصائد الغزل، فيما شكل تراثها المعماري مادة خصبة للكثير من الفنانين.
ويقول نعمان قساطلي في كتابه إن «الروضة الغناء في دمشق الفيحاء»: «عدد المقاهي الدمشقية بلغ 110 مقاه في القرن التاسع عشر بين كبيرة وصغيرة، وهي منتشرة في أنحاء المدينة ومن أشهرها قهوة السكرية بباب الجابية، وقهوة القماحين بالقرب منها، وقهاوي الدرويشية كلها في الدرويشية، وقهوة العصرونية.. وقهوة المناخلية، وقهوة الجنينة في سوق الخيل، و«قهاوي» العمارة بالعمارة، وجاويش في القيمرية، والرطل في باب توما، والسلام.
من جانبه يورد الكاتب نصر الدين البحرة في كتابه «أسرار دمشق» نصا كتبه الرحالة الفرنسي جان تيفينو بعد أن زار دمشق عام 1664 وعاش مع أهلها أياماً عدة، حيث يقول إن «كل مقاهي دمشق جميلة، ولكن أجمل المقاهي تجده في الضواحي»، أي خارج سور المدينة القديم، وبينها مقهى السنانية ويطلق عليه اسم القهوة الكبيرة لاتساع مساحته، ويزيد من رونقه ذلك العدد الكبير من النوافير الدافقة في بحراتها الكبيرة، ولكن قد يفوقه أناقة ذلك المقهى عند باب السرايا»، أي باب النصر، وهو أحد أبواب دمشق القديمة، وكان عند سوق الحميدية وقد هدمه الوالي شرواني باشا عند فتح هذا السوق العام 1863.
تقاليد قديمة
ويؤكد محمد الرباط (صاحب المقهى) أنه ورث مقهى النوفرة عن والده، مشيرا إلى أن المقهى لايزال يحتفظ بتقاليده القديمة منذ تشييده قبل ثلاثة قرون، حيث يأتي الحكواتي كل مساء ليقص على الحاضرين سيرة عنترة بن شداد وأبو زيد الهلالي والظاهر بيبرس.ويقول الرباط إنه «أجرى تعديلات بسيطة على تقاليد المقهى، حيث دخلت النرجيلة التي لم تكن موجودة سابقا، كما أصبح المقهى يستقبل العائلات بعد أن كان زواره فقط من الرجال».
وبعيدا عن الأماكن الأثرية، ثمة مقاه مازالت قائمة وسط المباني والمتاجر الحديثة، حيث حاول بعضها تجديد طابعه المعماري لينسجم مع الحداثة، محتفظا بهويته التراثية الأصيلة كمقهى الروضة الذي يقع في شارع العابد قريبا من البرلمان السوري، حيث تكثر محال الألبسة والمكتبات ومطاعم الوجبات السريعة.
وعلى مدى نصف قرن شكل الروضة، بعد تحوله من دار عرض سينمائية إلى مقهى، مكانا خصبا لسجالات نواب البرلمان ورجال السياسة السوريين، الذين كانوا يرتادونه بعد الانتهاء من جلسات البرلمان ليتحدثوا في الأحوال العامة لسوريا في تلك الفترة، الأمر الذي يؤكده أحمد أوزوروش (صاحب المقهى).
ويضيف: «يعد مقهى الروضة من بين المقاهي القليلة الباقية في دمشق والتي تجمع بين سمات المقهى القديم والحديث في آن، فطاولاته الرخامية وكراسي الخيزران حولها تجمع عددا كبيرا من الفنانين والمثقفين، إضافة إلى كبار السن والمتقاعدين، ونحن نقدم للزبائن ما هو معتاد في جميع المقاهي كالمشروبات الساخنة الشاي، والقهوة، والزهورات والمرطبات، فضلاً عن النرجيلة وطاولة النرد أو الشطرنج.
تحولات سياسية
إلى الشمال من مقهى الروضة يقع مقهى البرازيل الذي شهد معظم التحولات السياسية التي مرت بها سوريا، وشكل مرتعاً خصباً لتداول الأفكار الجريئة، فكان يصاغ فيه جزءاً من تجليات الشارع الدمشقي السياسي والثقافي، ما دفع سلطات الانتداب الفرنسي إلى إغلاقه مرات عدة، واستمر المقهى إلى ما بعد الاستقلال يراقب التحولات، إذ كان جل رواده من رجال الأدب والسياسة، وعلى الرغم من أن المقهى لايزال قائماً لكنه تغير جذرياً وأخذ طابعاً عصرياً حديثاً ويرتاده الآن الأثرياء والفنانون والدبلوماسيون، فهو الأغلى من ناحية السعر إذ يتجاوز ثمن فنجان القهوة فيه ثلاثة دولارات.
يقابله في الجهة الغربية مقهى الهافانا الذي شهد تحولات كثيرة، فبعد أن كان شكل مكانا خصبا لكبار الأدباء والمفكرين السوريين والعرب أمثال هاني الراهب ومحمدالماغوط وزكي الأرسوزي ومظفر النواب وصدقي اسماعيل، قرر صاحبه تحويله إلى محل لبيع الألبسة غير أن قراره قوبل بمعارضة شديدة من قبل المثقفين السوريين، الأمر الذي دعا وزارة السياحة السورية إلى شراء المقهى وإجراء العديد من التحسينات عليه، من خلال تجديد أثاثه وإضافة العديد من شاشات التلفزة إليه وإيجاد مكان خاص بالعائلات إثر انتشار ظاهرة ارتياد السيدات بكثرة للمقاهي.
تمضية الوقت
بصرف النظر عن الدور الكبير الذي لعبته المقاهي في الماضي سواء من، الناحية الثقافية أو السياسية، فإن دورها قد تغير في العصر الحالي، حتى ون البعض ينفي وجود أي دور ثقافي للمقاهي، مشيرا إلى أن دورها بات يقتصر على تبادل الأحاديث وتمضية الوقت من خلال الخوض في جدالات عابرة سرعان ما يمحوها الزمن.
يقول ناظم مهنا (قاص): «كان المقهى بالنسبة لي مكانا مدنيا أليفا يلتقي فيه الغرباء والضجرون، وفي فترة الستينيات اكتسب المقهى جاذبيته من خلال النقاش الذي أثير حول الأدب الوجودي الذي كان رائجا، وفي تلك الفترة تكوّن وهمُ ما يسمى المقهى الثقافي الذي لم يكن موجودا إلا في مخيلات الكتاب، فلو جلت ببصرك على الجالسين في المقهى، لوجدت أن المثقفين فيه هم قلة، وهم عندما يدخلون المقهى يصبحون جزءا منه، حيث يلعبون الورق والشطرنج والنرد، أو يتحدثون عن مغامرات لم تحدث مطلقا».
ويعتقد مهنا أن المقاهي لا تنتج ثقافة من أي نوع (استهلاكية أو جادة)، مشيرا إلى أن المقاهي تغيرت كثيرا عنها في الماضي، وغاب عنها أغلب روادها، ليحل محلهم الموظفون الهاربون من الدوام أو المتقاعدون الذين يجلسون بالقرب من زجاج المقهى، ويمنوا النفس برؤية بعض الفتيات العابرات في الشارع.
من جانبه يرى صقر عليشي (شاعر) أن المقهى يمكن أن يساهم بهامش ثقافي بسيط بين المثقفين الذين يتكلمون عن أخبارهم ومشاريعهم وهمومهم فقط، مشيرا إلى أن المقاهي لا يمكن أن تنتج ثقافة، وفي حال فعلت فإن ثقافتها استهلاكية بالمطلق ولاتتعدى الأحاديث اليومية لبعض المثقفين.
.غير أن عبدالكريم العفنان (صحافي) يخالف سابقيه بالقول إن المقهى يشكل «منتدي ثقافي وسياسي واجتماعي» لعدد كبير من الأدباء والمثقفين العرب، حيث يستطيع هؤلاء التعبير عن رأيهم صراحة، مشيرا إلى أنه ما من أحد يستطيع إنكار الهامش الثقافي والفكري الذي يوفره المقهى، رغم وجود عدد كبير من المخبرين الذين يستغلون هذه الظروف.
ويذهب منصور الديب «ناقد سينمائي» إلى أبعد من ذلك حين يعتبر المقهى برلماناً ثانياً لتبادل الأفكار، مشيرا إلى أن ثمة نقاشات حادة تحدث أحيانا بين بعض المثقفين، وهذا يضفي طابعا ليبراليا على المقهى ودوره.
ازدهار كبير
يذكر بعض المؤرخين أن فترة العشرينات من القرن الماضي شهدت ازدهارا كبيرا للمقاهي الدمشقية، وكان معظمها يقع على ضفاف نهر بردى الذي كان يخترق المدينة بأفرع سبعة، حيث كان شارع بغداد وشارع العابد في وسط مدينة دمشق يغصان بالمقاهي.
ومن أشهر هذه المقاهي اللونابارك الذي سمي في ما بعد بالرشيد، وبقي حتى بداية الخمسينات، وقد اشتهر هذا المقهى بكونه مسرحاً صيفياً إضافة إلى تقديمه الأفلام السينمائية أيضاً، وكثيراً ما تحول مسرحه إلى منبر للمناسبات الخطابية السياسية والانتخابية وإلى جانبه كان يقع مقهى الفاروق ومقهى الزهور والأزبكية، وغالبية رواد هذه المقاهي كانوا من طلاب المرحلة الثانوية، يأتون إليها للقاء والتمتع بشرب الشاي والنرجيلة قبل أن يذهبوا إلى نادي بردى الرياضي الموجود في نفس الشارع .
ورغم أن أكثر المقاهي الدمشقية اختفت الآن بسبب التوسع العمراني للمدينة، ما اضطر عدد كبير من الأدباء والمثقفين ورجال السياسة إلى البحث عن متنفس آخر متنقلين بين كافتيريات الفنادق الكبيرة ومطاعم الدرجة الثانية،الا أن بعض المقاهي استمرت في العمل حتى اليوم محافظة على طابعها المعماري النادر كمقهى النوفرة الذي يتوسط عددا من المنازل التراثية الجميلة في منطقة دمشق القديمة».
دمشق- حسن سلمان
“البيان”