صفحات ثقافية

مقاطع من رواية آنّا غافلدا الجديدة “المواسية” إلى العربية

null


آنّا غافلدا تحطم رقماً قياسياً جديداً بمبيعات كتبها وتتجاوز في مجموعها 5 ملايين نسخة في العالم

ترجمة وتقديم: كوليت مرشليان

مع صدور رواية “المواسية” الجديدة للكاتبة الفرنسية آنّا غافلدا، تستمر ظاهرة تصاعد مبيع كتب هذه المؤلفة التي ضربت رقماً قياسياً لا مثيل له في عالم الأدب، لها ثلاث روايات كانت أولاها عام 2002 بعنوان “كنتُ أحبه” باعت بحدود المليون نسخة، أما كتابها “معاً، هذا كل شيء” فقد ضرب الرقم القياسي إذ وصل الى حدود المليون و925 ألف نسخة مبيعة في فترة زمنية قصيرة جداً. أما روايتها الثالثة “المواسية” الحالية
فيتوقع أن تحقق نجاحات فورية نظراً إلى أن غالدا غابت عن الساحة الأدبية نحو ثلاث سنوات، وهي كانت بدأت مسيرتها الأدبية مع مجموعة قصصية عام 1999 بعنوان: “أريد أن ينتظرني أحد في مكان ما”، وكانت المفاجأة أن يُباع كتاب أول بهذا الحجم، إذ وصلت المبيعات إلى مليونين و222 ألف نسخة من النسخة الأولى، ومنذ ذلك التاريخ بيع من طبعات مختلفة للكتاب ما يوازي مليون ونصف مليون نسخة.

كل هذه الأرقام ليست وحدها التي تطرح السؤال حول السبب الوجيه للطلب على كتب آنا غالدا، لكن إحساس هذه الروائية المرهف وقدرتها على جذب القارئ، إضافة إلى أسلوبها المؤثر والمميز، كل هذا قد يجيب نوعاً ما عن أسباب الشهرة والنجاح السريعين في حياة تلك المرأة التي لم تتوقع يوماً أن تترجم كتبها سريعاً الى 38 لغة في العالم، ووحدها ألمانيا باعت مليون نسخة من كتاب “معاً، هذا كل شيء” إضافة إلى مئات الآلاف من النسخ في روسيا والسويد وايطاليا ولندن

كل هذه الشهرة وآنّا غالدا المولودة عام 1970 لم تتجاوز الثمانية والثلاثين عاماً. ومن مفارقات ظروف هذه الرواية أن المؤلفة اضاعت أولى صفحاتها حين فقدت جهاز الكومبيوتر الخاص بها وكان يضم حوالى عشرات الصفحات من البداية.

وبطل غالدا في روايتها الجديدة يدعى شارل بالندا، عمره 47 عاماً وهو بطل عصري أي يمثل النمط المعيشي والفكري والعملي والعاطفي المثال لهذا العصر. تروي يومياته وسيرته بأسلوب خاص ومتحرك جداً فيه من حوله كل أدوات العصر من تكنولوجيا ومكننة تسير الإنسان اليوم من دون أن تلغي مشاعره: يعيش شارل مع زوجته لورانس وابنتها من زواج سابق ويحب ذوق امرأته الأنيقة جداً الى أن يشعر بالعكس ذات يوم، حين يصله خبر موت “آنوك” وهي والدة صديقه اليكسيس، تلك المرأة التي تركت أثراً كبيراً في طفولته وسنوات مراهقته، لكنه لم يعد يراها منذ وقت طويل. يعود شارل بالذاكرة الى تلك الحقبة بالذات من حياته بحنين كبير، ما يجعله يرفض تماماً كل واقعه الذي كان يتمناه مختلفاً، هذا كل ما يتذكره من تلك الحقبة، نظرته الى مستقبله.

ويغرق في مسألة موت تلك المرأة. ويريد أن يتعرف إلى امرأة بطلة جديدة في حياته، فهي شابة بريطانية تعنى بتربية أولاد ليسوا أولادها في مركز معين. ويشعر شارل بأنها الفرصة الحقيقية لإعادة الاعتبار لمشاعره ورغباته وكل ما كان يريده ويريده اليوم من الحياة. وتروي غالدا هذه التجربة الإنسانية بإحساس مرهف وواقعي وصادق لا مثيل له. نقتطف من هذه الرواية فصلاً ننقله إلى العربية:

المواسية

وصلت سرعة الطيران إلى تسعمائة كيلومتر في الساعة. وما أن تحضّر وأشغل الكومبيوتر النقال أمامه للعمل حتى سمع المضيف يعلن انتهاء الرحلة ويتمنى للجميع الإقامة السعيدة مع الإشارة الموسيقية لخطوط “سكاي تيم” المعتادة.

وسرعان ما التقى سائق سيارته يكتور مع ابتسامته الناعمة (فراغ، سن واحدة، فراع سنان آخران…) الذي راح يخبره في زحمة السير التي كان قد علق فيها عشرات الساعات (ولم يكن ممكناً أن يمضي شارل وقتاً طويلاً الى هذا الحد في المقعد الخلفي من السيارة في أي بلد كان. في البداية، شعر بالإرباك ثم القلق، بعدها شعر بالغضب وأخيراً الجنون… المضبوط. آه. إذاً، هذا هو الواقع الأسطوري الحالي لروسيا.. أن نجلس وننظر من زجاح السيارة الى الخارج لنجعل المشهد الخارجي يمتص غضبنا). إذاً، حاول أن يخبره أنه كان مهندس صوت، ولكن في حياة أخرى.

كان ثرثاراً يروي عليه مجموعات من القصص التي لم يفهم منها شيئاً، وكان يدخن السجائر وتفوح منه الرائحة القاتلة، لكنه كان يستخرج السجائر من علب رائعة التصميم. وحين بدأ هاتف شارل المحمول يرّن وهم الأخير بالتكلم، أسرع السائق وأدار الراديو ليسمع الموسيقى. لم تكن موسيقى “البلالايكا” أو “الشوستا” إنما موسيقى روك، الروك المحلي الخاص بالمنطقة.

ذات ليلة، شرع في انتزاع قميصه ليشرح له ماذا كانت حياته في السابق. كل المراحل مدونة هنا: في الأوشام.

ثم ما لبث أن فتح ذراعيه واسعاً مثل راقصة باليه وراح يدور أمام شارل المصدوم بعينين مفتوحتين. كان الأمر… غريباً للغاية

توقف محرك السيارة. بعض العمال راحوا يلقون عليه التحية أما البعض الآخر فراح يشده من ظهره ليتقدم بسرعة ويفسح الطريق، فرافقه يكتور الى الفندق.

ومن جديد، راح يعيد درسه الروسي. إنه الدرس عينه: “روبلز تعني روبلي واليورو نقولها بالروسية يرا، والدولار، … هاي، إنه الدولار، ثم “هيا، تقدم” تعني كارول

كان شارل يراجع درسه من دون تركيز وهو مخدر بالكيلومترات والكيلومترات والكيلومترات التي قطعها وهو في ذاك القفص المقفل. كان ذلك أكثر ما صعقه في إقامته الأولى في ذاك الشرق الأوروبي حين كان طالباً… لكن الهندسة الروسية… أجل الهندسة الروسية، كان لها وقعها في التاريخ

وراح يتذكر دراسة أحادية لليونيدو أهداه اياها جاك مادلين

وكنّا نعرف التاريخ… وكل ما كان جميلاً تهدم لأنه جميل. لأنه بورجوازي، ثم جعلنا الشعب كله يتكدس… في هذا الذي اصفه، وفي القليل الباقي من الجمال، حيث صارت “النمونكلاتورا” (أو القائمة بأسماء وأصحاب الامتيازات) مستتبة.

سنغافورة 10000 آلاف من الكيلومترات وسبع ساعات من الطيران… وفجأة، بلحظة، تذكر أنه تعب الى درجة لا تُتحمل، وأنه لم ينم منذ أشهر، منذ سنوات بشكل طبيعي.

لدى عودته، وصل بطارياته المختلفة بالتيار الكهربائي ليعيد جهوزيتها، ورمى جاكيتته على طرف السرير، وراح يفك أزار قميصه، فجلس القرفصاء أمام “الميني بار” البارد والمضيء ثم قام وجلس بالقرب من ثيابه.

أخرج مفكرته.

وتصنّع موقف أنه يعيد مراجعة مواعيده للغد.

وتصنع أنه يتصفحها قبل أن يعيدها الى مكانها.

هكذا. تماماً كما نحاول أن نتلمس أي غرض ابتعدنا عنه لفترة وجيزة ثم عدنا.

ثم، ها هو يقع نظره على شيءما

على رقم هاتف اليكسيس لومان.

هكذا إذن

كان هاتفه المحمول لا يزال على الطاولة الصغيرة بالقرب من سريره. رمقه بنظرة.

وما ان بدأ بطلب الرقم منذ الرقمين الأولين حتى شعرببطنه يـ…. فأقفل الخط وركض الى الحمام.

ما ان رفع رأسه حتى اصطدم بصورته في المرآة. نظر الى بنطاله ثم الى ساقيه الشديدي البياض، الى ركبتيه المعقدتين، الى وجهه المتجهّم، ونظرته البائسة.

عجوز

اغلق عينه.

وأفرغ كل ما بداخله.

شعر بأن غرفة الحمام شديدة الرطوبة. أحس بقشعريرة بمن سيتصل غير سيلي؟ سيلي…. صديقته الوحيدة الحقيقية التي عرفها في حياته…. ولكن… كيف سيعثر عليها؟ ماذا أصبح اسمها اليوم؟ بريمان؟ يريمون؟ ولكن هل بقيتا على اتصال طوال ذلك الوقت؟ أو على الأقل، في الفترة الأخيرة؟ وهل يمكن لها أن ترشده؟

وهل… سيحب أن يعرف الحقيقة منها؟

كانت قد ماتت

ماتت.

ولم يعد يسمع نبرة صوتها

نبرة صوتها.

ولا ضحكتها.

ولا غضبها.

ولا شفتيها حين ترتجفان، أو تتمدان الى الآخر.

ولن ينظر أبداً الى يديها. ولا الوجه الآخر لكف يدها، من الداخل، مع رسوم الشرايين، ولا حتى الهالات حول عينيها. لن يعرف بعد اليوم ما تخبئه عنه من أمور جيدة، أو أمور سيئة، تخبئه بعيداً وراء ابتساماتها التعبة أو حركات وجهها السخيفة لتختفي وراءها

ولن ينظر اليها بعد اليوم حين تكون ناعمة، ولن تتأبط ذراعه، ولن

وما سينفعه ذلك إن هو رفع دعوى ضد موتها؟ وماذا سيربح؟ موعد للجلسة؟ بعض التفاصيل اسم مرض معين؟ نافذة غامضة؟ أو أنها خطت خطوة ناقصة؟

بصراحة

وهل يستحق الخسيس شمعة مضاءة؟

ارتدى شارل بالندا ثياباً نظيفة… وكان يعرف.

أنه يخاف من معرفة الحقيقة.

أما المتبجح داخله، فوضع يده على كتفه وهو يقول له: هيا يا رجل.. إبق مع ذكرياتك! اتركها كما هي وكما عرفتها…. لا تجعلها تتلف أكثر… هذا أكثر تكريم يمكنك أن تعطها اياه… وأنت تعرف ذلك… أن تبقها حية بهذا الأسلوب، حية تماماً

لكن الجبان أمسك به وقال له متمتماً في أذنه: وبعد، أما زلت تشك بأنها مضت تماماً كما عاشت؟

وحيدة. وحيدة وفي الفوضى.

متراخية تماماً في ذاك العالم الصغير جداً بالنسبة اليها. وهل هذا ما قتلها؟ الأمر صعب أن نحزر الأمر… من منافض سجائرها الخاصة. أو من أكوابها التي لم تروها أبداً. أو من ذاك السرير الذي لم تعد تفتحه، أو… وأنت؟ ماذا تأتي لتفعل مع مبخرتك هذه الآن؟ أين كنت قبلاً؟ ولو كنت هنا من قبل، لما كنت الآن هنا بثوب الراهب وفي هذه الساعة

هيا، القليل من الكرامة، أيها الصبي، وأنت تعرف ماذا كانت لتستفيد من رأفتك وحنوك؟ اسكت، همس بصوت منخفض، اسكت.

ولأنه كان شديد الافتخار بنفسه، راح الجبان والنذل فيه يطلب رقم تلفون ألد أعدائه.

ماذا سيقول؟ “بالاندا على الخط” أو “أنا شارل.”… أو “هذا أنا…”؟

وعندما رن جرس التلفون للمرة الثالثة، شعر أن قميصه يلتصق بظهره. وفي المرة الرابعة، أقفل فمه لكي يعيد شيئاً من اللعاب اليه، وفي المرة الخامسة

في المرة الخامسة سمع صوتاً مسجلاً على الآلة وكان صوتاً نسائياً يقول: “صباح الخير أنتم هنا عند كورني واليكسيس لومان، شكراً لترككم رسالة لنا ثم سنحاول الاتصال بكم ما إن…”.

ابتلع ريقه وجعل بضع لحظات من الصمت تمر قبل أن تسجل الآلة تنهده على بعد آلاف الكيلومترات، وأقفل السماعة.

اليكسيس

ولبس معطفه المضاد للمطر.

متزوج..

وأقفل الباب.

مع امرأة

وطلب المصعد

امرأة تدعى كورني

دخل المصعد

وتعيش معه في منزله

نزل ست طبقات من المبنى.

وفي منزل فيه آلة تسجيل على الهاتف

قطع المدخل الرئيسي للمبنى

و

خرج نحو تيارات هوائية قوية

و…. كان ينتعل خفاً منزلياً خاصاً للداخل

أكل القليل، ولم يعجب هذه المرة على الإطلاق بالذوق الخاص بمنزل إيغومو، وراح يرد على الأسئلة التي تُطرح عليه ويكمل النكات التي يبدأها أحدهم… لعب دوره على أكمل وجه، وانتصب واقفاً وراح يتلو النكات ويضحك، وفي الأمكنة الجيدة، راح يتململ ويراقب تفسخاته بهدوء.

راقب أصابعه تنطوي على كأسه وتبدو شديدة البياض.

احب أن يكسره وأن يرى دمه ربما، ومن ثم يترك الطاولة

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى